سليمان سليمان: من مجزرة حولا بدأت رحلتي

سليمان سليمان: من مجزرة حولا بدأت رحلتي
سليمان سليمان: من مجزرة حولا بدأت رحلتي


في مثل هذه الأيام، قبل واحد وستين عاماً، وقعت مجزرة حولا الجنوبية التي أخذت في دربها 81 شهيداً. في ذلك الليل من آخر أيام تشرين الأول، بدأت رحلة شتات أهالي البلدة الناجين من المجزرة التي ارتكبها الإسرائيليون. منهم سليمان سليمان أو «حارس ذاكرة المجزرة»، كما يسمونه اليوم

صور ــ

رغم مرور 61 عاماً على المجزرة التي ارتكبها الإسرائيليون في حولا الجنوبية، لا يزال السؤال ذاته يلحّ في عقل سليمان سليمان: «ما سرّ التواطؤ لطمس ذكر مجزرة حولا ورفعها من المداولة في تاريخنا العربي؟». أما ما يحزن الرجل الغاضب، فهو أن «تعايدهم» إسرائيل مرتكبة المجزرة، وفي الذكرى الواحدة والستين لهذه الأخيرة، بتسع قذائف قصفتها على أطراف البلدة قبل أيام، فيما نسي أهل القضية أنفسهم الاحتفال بالذكرى.

حولا التي «غابت مجزرتها عن ذهن الدولة»، لا تزال حاضرة فقط في ذاكرة «طفلها» الناجي، حتى أصبح لقبه «حارس المجزرة». هكذا، سخّر لها كل محطات حياته، راوياً في كلّ مكان الأحداث التي أودت إلى ارتكاب إسرائيل المجزرة في حولا تحديداً. لماذا حولا؟ يقول سليمان إن «العصابات الصهيونية بقيادة مناحيم بيغن انتقمت من الحوليين لمشاركتهم بمعركَتَي موقعَي تلّة العبّاد والقعدة على أطراف البلدة لردّ محاولة الصهاينة اقتحامها، وكان حصيلةَ المعركتين سقوطُ أكثر من سبعين صهيونياً». لم يكن سهلاً على الإسرائيليين تقبّل خسارة فادحة بهذه الحجم، فكانت الغارة القاضية على حولا. يذكر سليمان تلك اللحظات الموجعة، لكن ما تلاها «كان أصعب من اصطياد الإسرائيليين 84 رجلاً كالطيور البرية»، يقول. حينها، حمل «الطفل» سنواته الستّ وسار حافي القدمين مع الناجين من أبناء بلدته للبحث عن مأوى بعد طردهم وإحراق بيوتهم وسرقة محاصيلهم. لم يبق في البلدة أحد.

كان أصعب ما في المجزرة اصطياد الإسرائيليين 84 رجلاً كالطيور البرية

تحولت إلى خربة مشهورة، حتى الجنود الإسرائيليون هربوا من حولا بعد انبعاث الروائح من المقبرة الجماعية التي رُميت فيها جثث الشهداء. «مثل مسيرة الجلجلة التي مشاها الفلسطينيون قبل أشهر، سرنا بأيدينا الخاوية، إلى أن أشفقت علينا الدولة ووضعتنا في هنغارات من مخلفات الانتداب الفرنسي في منطقة ضبيه من دون مساعدات». استمرّ النازحون في لجوئهم حتى ربيع عام 1949 «حين قرّرنا العودة إلى حولا المسبية». كانت العودة المحطة الأبرز في ذاكرته، فقد عاين الطفل بنفسه نبش جثث الشهداء من المقبرة الجماعية بعد ستة أشهر. «كنا من جراء صدمتنا وفزعنا نظن أنّهم لا يزالون على قيد الحياة، لكنّهم نائمون بثيابهم فوق بعضهم». عادوا إذاً. دفنوا موتاهم. وانصرفوا إلى حياتهم التي ضاعت خلف تلّة الركام التي أصبحت حولا إياها. تغيّر الكثير بعد تلك العودة: نوم في العراء وكوابيس في الليل والنهار وسدّ الجوع بخبز الشعير والأعشاب البرية. كل هذا لم يكن ليثني سليمان عن متابعة «نضالاته» التي انحصرت في ذلك الوقت في متابعة تحصيله العلمي «في كتّاب شقرا، حيث كنت أقطع وادي السلوقي سيراً على الأقدام تحت المطر وفي القيظ». عام 1965، أنهى سليمان مشواره الدراسي بحيازة إجازة في هندسة الكهرباء في هنغاريا، ومن ثمّ العمل في مصلحة الأبحاث الزراعية في وزارة الزراعة.

غير أن العمل لم يُنه قصّة حولا، إذ سرعان ما بدأ سليمان نشاطه النضالي، ليكتسب لاحقاً صفة «الرفيق المناضل». وأثمرت حركات الشباب النضالية في البلدة تأسيس مجموعات «المقاومة الشعبية ضد الإقطاع والعسكرية الصهيوينة». وانتشر ما عُرف آنذاك بمجموعات «شرب الشاي» التي كانت تجمع الرجال ليلاً في أحد البيوت لمناقشة أوضاع حولا ومحيطها وتلقّف أخبار الحركات السياسية في بيروت من الصحف والمنشورات التي كان يحملها معهم البعض من العاصمة. هكذا، بدأت تتكون الظروف الأولية للوعي السياسي في حولا، وقد مثّلت انتخابات عام 1954 النيابية التي فاز فيها الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني السوري، خالد بكداش، «باكورة نشاطنا في العمل السياسي المباشر»، يقول سليمان.

أدى النشاط السياسي إلى تقديم استقالته من منصبه في مصلحة الأبحاث الزراعية والعودة إلى هنغاريا الاشتراكية. عام 1972 عاد الرجل إلى بيروت. دفعته هذه العودة إلى إعادة النظر بعمل الحركة الوطنية والحزب الشيوعي، وكانت النتيجة «أن جلست على جنب حتى اليوم». ترك كلّ شيء، حتى عمله في شركة الكهرباء التي التحق بها عقب عودته من هنغاريا، وانصرف للعمل على تأسيس شركته الخاصة للهندسة والمقاولات.

هجرتنا إسرائيل فوضعتنا الدولة في هنغارات من مخلفات الإنتداب

عام 1980، عاد طيف مجزرة حولا إلى ذاكرته بقوّة. ولعلّ النزوح إلى خارج البلدة بفعل الاحتلال هو السبب. فاسترجع نضالاته من أجل بلدته، ولو وحيداً. مرّت بضع سنوات، خفت وقع المجزرة، فانصرف سليمان لعمله الجديد في النحت. وكانت «جميزة» وادي جيلو (قضاء صور) هي الفصل الأهم في حياته المهنية. فقد كانت تلك الشجرة محطة رئيسية في رحلة مزارعي حولا بعد جمع الغلال لبيعها في أسواق المدن الساحلية. ولما كثر الحديث بين أبناء بلدته عن جذع شجرة ضخم موجود في بلدة الصرفند ومعروض للبيع، ذهب ليعاينها فإذا بها «الجميزة»، فاشتراها ونحت وجه طفلته الأولى على جزء منها، فيما استعمل الجزء الآخر لنحت «رمز العمر» الذي رفعه أمام منزله الحالي في منطقة البيسارية.

تدريجاً، امتهن سليمان النحت. وأقام المعارض في لبنان والخارج. وبات سليمان في رأي الكثيرين «صاحب الموهبة التي هبطت عليه من حيث لا يدري». العمل الفني الأبرز الذي قام به سليمان كان «مشروع بدادا». استغرق العمل على إنجاز المشروع 8 سنوات، حوّل خلالها أرضاً متروكة في وادي تفاحتا (قضاء الزهراني) إلى مطعم، مكوناته من خشب الأشجار، وتحوطه مجسمات نحتها سليمان على شكل أهرامات، كل واحد منها بطول 15 متراً. لكن حريقاً مفتعلاً أكل «بدادا» وأتى على أكثر من مئة منحوتة وزعها سليمان في أرجاء المشروع. يواظب سليمان على الجلوس على أطلال بدادا، منذ وقوع الحادث الذي سجّله ضد مجهول قبل عامين. يحاول فهم دورة الحياة التي لم تكتمل «بموت ابني الأصغر محمّد منذ خمس سنوات، لتأتي على ما أفنيت عمري من أجله».

لا يبدو الفنان متحمساً لاستنهاض «الأهرامات» مجدداً، بل يعمل على ممارسة فنّه بوسائل تعبيرية أخرى. فبعد الحادث استحدث لنفسه صفة الكاتب، وصار في خريف العمر «أباً لروايتين وديوانَي شعر: «تشارين العمر» و«لك فيها جذور» و«غدوت عوداً فاقد الوتر». وهذه الكتب الثلاثة، يختصرها سليمان بالآتي: «هي حولا وفلسطين، اللتان سكنتا بجذورهما سليمان الذي عاش، حتى غدا عوداً فاقد الوتر».

لعبة التواريخ

لعبت التواريخ لعبتها في حياة سليمان سليمان. فتاريخ 8/11، شهد تشتّته مع أهله بعيد المجزرة. التاريخ ذاته جعله بعد بضع سنواتٍ أباً، ومن ثمّ جداً. فيما تاريخ 11/8 حمله إلى هنغاريا في رحلة «للبحث عن الذات الشيوعية»، وجعل منه أباً مفجوعاً بوفاة ابنه الأصغر، محمد، ومن ثمّ كاتباً أصدر روايته الثالثة قبل عامين

تعليقات: