الشتاء حلّ ببرده ومتطلباته واحتياجاته.انه الموسم. موسم حرف "الميم" بأثقاله الثلاث: مونة. مدارس. مازوت.
أعباء ثلاثة لا مفرّ منها. تكاليفها باهظة! إلاّ ان للمونة خصوصيتها. متعبة، لكنها ممتعة. غير طازجة، لكنها صحية! والأهم من هذا كلّه، إنها تقليد اجتماعي- تراثي درج اللبنانيون، وربّات المنازل على وجه الخصوص، على تكريس وافر الوقت والجهد لإعداده في أواخر فصل الصيف وبداية فصل الخريف. تراث لم تقوَ وسائل التكنولوجيا الحديثة بازرارها وتقنياتها على محوه. فعلى الرغم من اكتساح الاطعمة المعلبة والمثلجة الاسواق اللبنانية، ما زال الكثيرون يفضلون المنتوجات اللبنانية لايمانهم بصحتها وسلامتها ولما لها فيهم من ذكريات تردّهم الى القرى وارضها والتراب. وكما ابن الريف فابن المدينة عاد اليوم الى "الثقافة البلدية"، ثقافة تتبين في اقباله على المنتوجات المحلية المنتشرة على رفوف السوبرماركات والموزعة في مرطبانات تحمل روح الضيعة وتراثها. وفي المقابل ازدهرت صناعة المونة في القرى اللبنانية خصوصاً في مناطق الجبل الذي بات مقصد المغتربين والسيّاح فانتشرت المحال والبيوتات المخصصة لبيعها، ما شكل موسماً اضافياً وباب رزق لعائلات كثيرة امتهنت تحضير المونة أبا عن جد.
في فترة الموسم، تتحوّل ربات البيوت وفي معظم المناطق اللبنانية، الى خلايا نحل تعمل بدأب على إنجاز أنواع المؤونة لفصل الصقيع، من البرغل والحبوب المختلفة والكشك، الى "القاورما" وزيت والزيتون ورب البندورة، ورب الرمان، ناهيك بالمخللات والمقدّدات والمربيات على أنواعها، فضلاً عن مختلف انواع العصير والمثلجات من الخضار والفواكه. كلّها أساسيات لا بدّ منها ولا غنى عنها لكل عائلة، وان باتت كل احتياجات العائلة في مرمى اليد وفي اي وقت، الا ان تحضير المونة ما زال تقليداً تحافظ عليه معظم العائلات اللبنانية في القرى بشكل خاص.
في الماضي، كان تحضير المؤن هاجساً أساسياً لدى ربة المنزل، نظراً الى صعوبة التنقل في فصل الشتاء وأيام الثلج في الجبال تحديداً، فضلاً عن عدم توافر الخضار والفواكه في غير مواسمها التقليدية، وصعوبة تأمين اللحوم بشكل يومي، وكذلك الامر بالنسبة إلى مشتقات الحليب على أنواعها. اما في المدينة فقد تلاشت هذه العادة نسبياً بعدما درج أهلها على "التموّن" آخر كل شهر ليسلك "المعاش" طريقه المحتوم الى صناديق "التعاونيات" وكبار المحال التجارية!المونة باتت من الكماليات لدى معظم هؤلاء، وفي المقابل فان بعض العائلات ما زالت تصر على شرائها جاهزةً من الجبال بشكل خاص. هناك، حيث تنهمك معظم السيّدات في الموسم بعمل متواصل لا ينتهي إلاّ عندما تمتلئ "النملية" كما كانوا يسمّونها قديماً، وهي الخزانة المخصّصة لتوضيب وحفظ المؤن. ويمتزج العمل مع عرق الجبين و"بركة" الأيادي، في البيوتات التي تعتمد بيع المونة البلدية مصدراً للعيش. وعدد المحال التجارية، أو "الاكواخ" و"الخيم" المخصّصة لهذه الغاية الى تزايد مستمر خصوصاً على طول الطريق المؤدي الى قضاء الشوف من جهة عين دارة، وفي منطقة المتن الأعلى، وكذلك في مناطق راشيا وحاصبيا في البقاع الغربي.
[بين المدينة والريف
ابن المدينة لا يستشعر دورة الفصول كابن الأرياف.لا يصنع المربيات من فواكه البستان. لا يطبخ ربّ البندورة من ثمار الحقل. ولا يكبس بيديه الزيتون الأخضر في خوابي الفخار. غصن الغار وقشرة الليمون "ابو صفَيْر" والرائحة التي تفوح من خابية الزيتون النائمة في آخر القبو العقد في زمهرير الشتاء، إلاّ انه اليوم عاد يحنّ الى تلك المنتوجات البلدية بعدما كسحت المستوردة المطاعم والسوبر ماركات، والدكاكين الصغيرة. جولة صغيرة في إحدى "المولات" كفيلة بإظهار هذا الحنين من خلال معروضات المنتوجات البلدية الموضبة باسم شركات متنوعة. معروضات من كل الأصناف تحتل الستاندات والرفوف في "مرطبانات" مزينة بشيء من القرية والتراث، وهي وإن كانت أغلى ثمناً في بعض الاحيان من غيرها إلاّ أنها تلقى اقبالاً لدى المستهلكين، ولعلّ في ذلك دلالة واضحة على عودة ثقافة "البلدي" الى أذهان الناس. كثيرون عادوا اليوم الى اعتماد هذه المنتوجات علّهم يبعدون شبح المواد المصنّعة والملوّنة التي تضاف الى المعلّبات وتهدّدهم بالامراض. كثيرون منهم ايضاً يفضلون الابتعاد عن تلك التي تباع في المدن فيلجأون الى القرى، حيث باتت عائلات كثيرة تعتمد على موسم المونة وصناعتها كمصدر رزق لها، ايمانا منهم بان المنبع أسلم من الرافد، وبذلك يؤمنون مونتهم للعام كله خصوصاً من الفواكه التي تبقى لها حصّتها من "عالم" المونة. منها ما يتم تجفيفه تحت اشعة الشمس، مثل المشمش والتين والزبيب والجوز الاخضر واللوز. وتتفنن أم هاني باضافة اصناف أخرى، فتجفف التفاح والكرز والخوخ والموز والمانغا بعد تقطيعها قطعاً صغيرة. تقدمها في الشتاء "كوكتيلاً" شتوياً مميزاً. وتتفنن كذلك بتحضير أنواع متنوعة من العصير، كالتوت البري وليمون "ابو صفير" وغيره، بالاضافة الى اصناف "الكومبوت" مثل الدراق والعنب والكرز وغيره.
ومن الفواكه تصنع ايضاً المربيّات. فالحلوى ضرورية في الشتاء، لتضفي على الجسد طاقة ودفئاً. والمربيات انواع، بدءاً بالتين والمشمش، مروراً بالتفاح والسفرجل والفريز والكرز، انتهاءً بمربى القرع والباذنجان، وحتى البندورة الصغيرة! تحرّك أم ربيع مربّى المشمش في الـ"لكن". زوجها يوقد النار بالحطب. "لنار الحطب ميزتها في المربيات والرب"، تقول، "فهي تمنح الأصناف نكهة لا بديل منها". ويتحدّث أبو ربيع عن الطلب الهائل على المربيات وسائر اصناف المؤن في محلّه التجاري في بلدة الباروك في الشوف، مشيراً الى "ان الناس يتجهون الى اعتماد الطعام الصحي، وارتفاع الاسعار لا يغني عائلات المدن تحديداً، عن شراء اصناف المؤن البيتية التي نبيعها". ويلفت الى ان "معظم العائلات الجبلية ما زالت تتقن صنع المؤن، باستثناء عائلات المغتربين الذين يوصون بتحضير حاجياتهم من المؤن فور وصولهم الى لبنان، ويحضرون لشرائها قبل سفرهم".
[..بحساب الطقس
لكل فصل في الريف موسمه وطعامه. فطبخة "زنغل" بالـ "حصرم" مثلاً لا يمكن تناولها في الشتاء، ولو كانت "الحاجة صفاء" تكبس الحصرم بالماء والملح المغلي. توضبه في "مراطبين" زجاجية وتضيفه الى محتويات "النملية" لاستعماله في الشتاء عوضاً عن عصير الحامض للتبولة والسلطات على انواعها. الحصرم هو العنب الاخضر شديد الحموضة قبل نضوجه. و"الزنغل" اكلة جنوبية قديمة. تحتوي على صلصة الحصرم مع البصل والثوم. تضاف اليها كرات البرغل المنقوع بالنشاء والماء والملح. صلصة الحصرم تبث في الدم نسمة باردة حلوة في الصيف. اما اللبن الساخن مثلاً، فيمنح الانسان دفئاً محبباً خلال فصل الشتاء. فتصبح طبخة "الزنغل" باللبن الساخن ضرورية للتنويع في الاطعمة شتاءً. وفي كلتا الحالتيْن، "البرغل" من اركان المونة الرئيسية. وهو يدخل في الكثير من انواع الطعام المطبوخ.
لذلك لا بد من "تموين" البيت بالبرغل. ولهذه الغاية ما زال الشيخ ابو كمال (92 عاماً) من بلدة ابل السقي - قضاء مرجعيون، يزرع حقله بالقمح. منه يؤمن المونة لطبخة "الفريكة" وهي حبوب القمح الناضج الخضراء، تشوى على النار، ثم تفرك باليدين لـ "تخلع" قشرها، وتضاف الى اصناف المونة بعد تجفيفها. اما حبوب القمح الذهب فيحصدها ابو كمال ليوفر المونة منها القمح له ولابنائه وعائلاتهم. هم بدورهم يسلقونه بالماء ويجففونه بتعريضه للشمس، ثم يطحنونه. منه يصنعون نوعيْن من البرغل، الناعم والخشن. الاول للتبولة والكبة، اما الخشن فلانواع الطعام الاخرى ومنه يُصنع "الكشك الطعام الرئيسي للشتاء، فهو صحي ومفيد للجسم، خصوصاً اذا اضفنا اليه البصل والثوم. ورغم ان تحضيره مكلف ومتعب جداً، فان ربّات البيوت يعمدن الى تحضيره قبل كل شيء.
رحلة الكشك معاناة تطول تبدأ قبل نقعه بأيام. فاللبنة ضرورية، ليس للكشك وحده بل لمونة الشتاء منها أيضاً. واللبنة "المكعزلة" من اشهى انواع الطعام مع خبز الصاج الساخن على سطح "وجاق" الحطب في الشتاء. وكلمة "المكعزلة" او "المقرّصة" تعني تحويل اللبنة المجففة جيداً الى كرات او اقراص، توضع في أوان زجاج شفافة، وتغْمر بزيت الزيتون لكي تدوم فترة طويلة. وهي تضاف الى مجموعة من اصناف المونة يتم تحضيرها من مشتقات الحليب، كالجبنة البلدية البيضاء، والقريشة والشنكليش.
[حبوب الشتاء
كذلك، فان البرغل لا يكفي وحده للمونة. بل ثمة انواع اخرى من الحبوب التي تحفظ للشتاء ايضاً. تختلف اساليب حفظها بحسب نوعها. فالعدس والحمص والفاصولياء، اليابسة منها، تحفظ في اوان. كذلك حبوب الفول اليابس المقشور وحبوب "الماش" الجنوبية، وهي حبوب خضراء تشبه العدس لكن بحجم اصغر، وتشبه حبوب الصويا من حيث فوائدها الصحية وشكلها نوعاً ما. أما الفاصولياء الخضراء الطازجة، فتُحفظ في اكياس خاصة في الثلاجة. كذلك البازيللا واللوبياء وغيرها. وتحتفظ بعض السيدات بعادة "التقديد"، اي تجفيف الحبوب في الشمس. وتعتمد هذه الطريقة لتوضيب حبوب اللوبيا والباميا.
ويعتبر الطعام "المقدّد" اساسياً. فـ "اليخنة" لا غنى عنها. صلصتها الحمراء تمنح الجسم حرارةً في الشتاء. ولصنعها تحتاج لمربى البندورة، او "الربّ". الشيخة هند، صاحبة محل متخصص ببيع المونة البلدية في منطقة الخلوات - فالوغا بجبل لبنان، لا تحبّذ استخدام معلّبات رب البندورة الجاهزة في الطعام. هي تفضل الرب البيتي الذي تحضر له في "ورشة" خاصة، وقد تستبدله في بعض الطبخات بحبوب بندورة جبلية طازجة تقطعها وتملأ بعضها في "قنانٍ" زجاج تغليها بالماء لكي تضغط. بهذه الطريقة تستغني عن البندورة المستوردة او المزروعة في الخيم البلاستيك شتاءً. وتكمل "مشوارها" فتطحن حبّات البندورة المتبقية. تصفّيها من الحب ليبقى العصير الاحمر القاني. تضعه على النار في اللكن او قدر من الالومينيوم او النحاس مستدير واسع، قليل الارتفاع عن جوانبه. "فيه يجفّ الربّ أسرع، وهو صحي كثيراً"، تقول الشيخة هند. وتتابع حرك العصير. الدخان يتصاعد منه. رائحته "تشق القلب". يسمك شيئاً فشيئاً، حتى ينضج. تضيف اليه الملح وتضعه في اوان زجاج تحكم اقفالها قبل ان يبرد. توضيب الربّ ساخناً يساهم في ضغطه، فيدوم طويلاً. وبالطريقة نفسها تصنع دبس الرمان الحامض. وصنعه صعب جداً اذ ان تقشيره واستخلاص الحبوب منه قبل طحنها وتصفية العصير، "كله عمل مضنٍ"، تقول هند، "لكنه ممتع في آن".
[القاورما والمخللات
روائح "طبخات" المونة تفوح وسط أحياء القرى في الجبال هذه الأيام. من نافذة الجارة القريبة تفوح رائحة زكية "تزقزق لها عصافير المعدة"! الحاجة ام عصام من الجيل القديم، من ثيابها تفوح رائحة الارض والتراب، وفي خطوط يديها المشققتيْن من كثرة التعب شيء من الطهارة ولا أروع! كانت تطبخ "القاورما". زوجها ذبح خروفاً البارحة بعدما واظب على علفه حتى سمن. تطبخ ام عصام شحمه ولحمه المفروم على النار. رائحته زكية. تصر على زوارها بان يتذوقوه قبل ان ينضج،.. "رزقالله" على أكل زمان، تردد على مسامعهم. قبل ان ينضج نهائياً تضيف اليه الملح, ثم تعبئه في اوان فخار خاصة يطلق عليها ال"مسامن"، جمع "مسمنة". "القاورمة" ترسل دفئاً في العظام اذا تساقط الثلج! تستخدم في الطعام كبديل من اللحمة. مع البيض المقلي لها نكهتها الخاصة، ولها على "منقوشة" او "طلمية" من خبز القمح على الصاج، قصة أخرى!
[المخلّلات
أيضاً لا غنى عنها في قائمة متطلبات المونة. من النادر أن نجد بيتاً في لبنان يخلو منها، حتى ان ربات البيوت في القرى يتنافسْنَ في اعدادها. فلكل منهنّ طريقتها وفنها، حتى يقال أن أم فلان تتفوق على جارتها وهكذا. و"الكبيس" بأنواعه هو نجم المونة. يوضع في أوان زجاج محكمة الإغلاق مع الخل وماء الملح المغلي. وأنواعه كثيرة ومتنوعة. فهناك الخيار والقثاء - او "المقتي" بالعامية - والملفوف واللفت، والقنبيط، والجزر والثوم والفلفل الحار والفاصوليا والزيتون الأخضر. وقد تتفنّن بعض السيدات فتجمع كل هذه الاصناف في آنية واحدة في منظر مغرٍ. مذاقها يضفي الى بعض الاطعمة نكهة فريدة. أمّا "مكدوس" الباذنجان، فهو الأشهى بينها على الإطلاق. تمنحه حشوة الجوز المدقوق والثوم والملح مذاقاً مميزاً ومعها القليل من "كبيس" الفليفلة الحارة الحمراء.تستمتع فتيات هذه الايام بمراقبة امهاتهن وهن يصنعنه. لا يساعدنهن في تحضيره طبعاً! فهن من بنات اليوم ورائحة الثوم على ايديّهن تزعجهن. تُسْلق ثمار الباذنجان الأبيض البلدية، "الاسود يصلح أيضاً، لكنه يشرب الكثير من الماء اثناء سلقه"، تقول ام مجد. تتركها في المصفاة قليلاً حتى تصفّى من الماء وتبرد. تفتحها وتدهن كلّ ثمرة بالملح من داخلها. تحشوها وتضعها في "مرطبان" زجاج وتضيف اليها الزيت حتى يغمرها. صنع "المكدوس" دقيق جداً. فهو معرّض للاهتراء بسرعة، لذلك فان اكثار الملح بمعدل معين فيه عنصر هام لتجنب هذا الامر.
[...وشيخ السفرة
يبقى الزيتون، "شيخ السُفرة" (المائدة). موسم قطافه الآن. ويحتلّ المرصوص والمكبوس منه مكانة مميزة في المطبخ اللبناني، والتموّن منه أساسياً، وبكميات كبيرة للعائلات. الزيتون أنواع: الأخضر المرصوص او "المجرّح"، الموشّح اي المائل الى السواد، والأسود البالغ النضج. والأخيران يخلطان مع الملح الخشن ويوضعان في جرار خاصة مع الماء وقليل من زيت الزيتون على السطح. اما الزيتون الأخضر، فيتطلّب تحضيره مزيداً من الجهد. فمنه المرصوص، ورغم ابتكار ماكينات مخصّصة لرصّه، إلاّ ان الجدّات تصرّ على "رصّه" بالحجر، البحري تحديداً، فتجلس أرضاً، تجمع كل حفنة من "حصوص" الزيتون، وتدقّها حتى تفتح. "يبقى مذاقها مرّاً حاداً اذا ظلت على ما هي"، بحسب الجدّة. بعد الرص يغمس في الماء ويضاف إليه الملح الخشن، واحياناً بعض قطع الحامض، او الزعتر البري، أو الفلفل الأخضر. اما الزيتون الاخضر المجرّح، فلا يحتاج الى "رصّ" بل يتم تجريحه بالسكين، هكذا يدوم أطول، وقطع الحامض اساسية فيه بالاضافة الى البهارات. ولا يغمّس بالماء بل بزيت الزيتون الأصلي. وهناك الزيتون المحشو بالجوز واللوز أو بالفلفل المسحوق والمكبوس بالزيت، ويفترض في زيتون المونة، أياً كان نوعه، ان يكون "بعل" بتعبير الاسلاف، اي من حقل غير مروي بالماء، وألا يضاف إليه الملح الناعم، لأنه يعجّل في تدهور طعمه.
تعليقات: