إحياء الذكرى الثالثة لحرب تموز في ضاحية بيروت الجنوبيّة
ما حدث في طيرفلسيه أعاد الذاكرة إلى ما أحاط عدوان تمّوز على لبنان من ظروف وملابسات ومؤامرات: كيف تعاملت الأطراف في لبنان مع الحرب الإسرائيليّة الوحشيّة. بعض فرقاء 14 آذار يشير إلى عدوان تمّوز بـ«حرب إسرائيل على لبنان». قلّة في الفريق الحاكم كانت مثل بهيج طبّارة. وضع الرجل العداء لإسرائيل ومواجهة حروبها في أولى الأولويات ولو كلّفه ذلك الوزارة والنيابة. والبعض الآخر لم يستطع أن يخفي تجهّمَه وعبوسَه إثر تدفّق الأخبار عن فشل ذريع لإسرائيل في تحقيق أهدافها من الحرب
تستطيع القول من دون انتظار الوثائق إن النظام المصري والأردني والإماراتي والسعودي، مع الحلفاء المحلّيين، كانوا إلى جانب عدوان تموز. كان جليّاً أن قسماً من الفريق السياسي في لبنان لم يكن مع مقاومة إسرائيل على أقلّ تقدير. والذين يتذرّعون بـ7 أيّار وبعدوان تمّوز نفسه لتسويغ معاداتهم لمقاومة إسرائيل (أي إن عدوان إسرائيل نفى سبب وجود المقاومة في منظارهم، مع أن المنطق يقول العكس، لكن كيف يستقيم المنطق مع من يتشدّق بشعارات الحريّة والليبيراليّة ويتلقّى الأوامر والإرشادات من الأمير مقرن؟ أين المنطق عند من يدعو إلى حريّة الرأي والديموقراطيّة وحق الأقليّات في صحف لأمراء آل سعود؟ إنها الحقبة السعوديّة الثانية بصفقاتها) ينسون أنهم لم يكونوا يوماً إلى جانب مقاومة إسرائيل. متى كان البطريرك صفير (الذي رفض بحزم حضور قمّة «روحيّة» عن القدس لأن قرنة شهوان أولى بالاهتمام) داعماً لمقاومة إسرائيل؟ ورفيق الحريري الذي جعلوه (بمساهمة غير مفهومة من حسن نصر الله) رمزاً للمقاومة (والذي قال عنه أخيراً الياس عطا الله اليساري والديموقراطي، إيّاك أن تنسى أن «دمه... شعلة أضاءت لنا الطريق») لم يكن يوماً إلى جانب مقاومة إسرائيل، ولم «يُشرعِن» المقاومة في تفاهم نيسان، بل هي التي شرعَنت من كان منذ ولوجه إلى «الساحة اللبنانيّة» مرتبطاً بمشاريع على نسق 17 أيّار (والتي ساهم في الترويج لها) (لن نستعيد ما كان وليد جنبلاط يقوله عنه في أيّام «الزنقة»). والمقاومة كما في التجارب حول العالم، تتسلم السلطة بعد تحرير الأرض، لكن اختزال مقاومة إسرائيل بحزب الله بأمر من النظام السوري وباستسهال غير محسوب من الحزب شكّل قيداً (طائفيّاً) على الحزب وحدّ من قدرته على الحركة وقدرته على مواجهة مخطّط التحريض المذهبي عندما انطلق بالتزامن مع عقيدة بوش لمنطقة الشرق الأوسط. أثبتت التجارب أن الحزب كان يجب أن يقبل باستمرار مشاركة الأحزاب العلمانيّة في مشروع المقاومة لا بل أن يصرّ على ذلك، من أجل صيانة المقاومة وتفويت الفرصة على محرّضي الفتنة للنيل من سمعة مقاومة إسرائيل. لو كانت المقاومة في لبنان غير طائفيّة، لكانت قلبت الهيكل فوق رؤوس أعوان عدوان إسرائيل في لبنان في حرب تمّوز. لو لم تكن المقاومة في لبنان طائفيّة، لكانت تسلّمت الحكم في 7 أيّار من دون تسويات طائفيّة بغيضة. لو كانت المقاومة في لبنان غير طائفيّة، لكان عدنان داوود ومن أمره قابعاً في زنزانة مظلمة.
كان على حزب الله أن يصرّ على مشاركة الأحزاب العلمانيّة في المقاومة فلو كانت المقاومة غير طائفيّة لتسلّمتْ الحُكم
وطريقة تعامل إعلام آل الحريري وآل سعود مع انفجار طيرفلسيه يُذكّر بتعاطي إعلام آل الحريري وآل سعود مع عدوان تمّوز. من حاسبَ جريدة «النهار» (المعادية لكلّ القضايا الوطنيّة والطبقيّة والإنسانيّة منذ تسلّمها غسان تويني من أبيه) عندما نشرت تحقيقاً بالصور والمواقع عن أماكن وجود المقاومة في الجنوب قبل حرب تمّوز؟ من حاسبَ جريدة «المستقبل» و«إل.بي.سي» في حرب تمّوز عندما نشرت الأولى عناوين وبثّت الثانية «أخباراً عاجلة» عن وصول جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى نهر الليطاني فيما كانت مارون الرّاس عصيّة على العدوّ؟ ماذا عن نشر جريدة «المستقبل» وبإطار ملوّن (كما فعل موقع «ناو حريري» الرديف الذي يخلّ بشروط الصحافة الابتدائيّة على مدار الساعة) أخباراً ملفّقة وخاطئة عن طبيعة التفجير في طيرفلسيه وعن أعداد الضحايا؟ وصحافة الأنظمة الديموقراطيّة تفرض رقابة صارمة في كلّ ما يتعلّق بأخبار الأمن القومي والدفاع، وخصوصاً في حالة الحرب، إلا في لبنان حيث يسود فساد إعلامي (ماليّاً ونقابيّاً وقانونيّاً وسياسيّاً). أكثر من ذلك، فأدعياء السيادة في وطن صحن الحمّص العملاق يجدون أن الأخبار المفيدة للعدو (مثل نشر خرائط مفصّلة بمواقع شبكة اتصالات حزب الله) تدخل في حيّز حريّة الرأي والتعبير. قل إنها حريّة خدمة إسرائيل في لبنان وبأمر من الأمير مقرن بن عبد العزيز (متى سيقلّده السنيورة شهادة دكتوراه فخريّة كما فعل مع أمير قطع الرؤوس وصلب الضحايا، الأمير نايف؟).
ومناسبة الحديث عن عدوان تمّوز، ويجب الحديث عنه بمناسبة وبدون مناسبة، هي بداية صدور دراسات مرجعيّة عنه: الكتاب الأول هو بعنوان «34 يوماً: إسرائيل وحزب الله والحرب في لبنان» للصحافيّيْن الإسرائيليّيْن، آموس هاريل وآفي إزاشاروف. والاستشراق الإسرائيلي ضحل: لم ينجح في ملامسة، أو حتى الاقتراب عن بعد من الاستشراق الأوروبي الكلاسيكي (الغزير العلم، على علاّته السياسيّة والمنهجيّة). فخبراء إسرائيل لا يزالون يستشهدون بمجلّة «الحوادث» مثلاً لظنّهم أن دورها اليوم يماثل دورها في الستينيات والسبعينيات. كما أن العلاقة العضويّة بين أجهزة الأمن والاستخبارات في الكيان الغاصب (يطربني هذا الوصف لعلمي أنه يصيب ليبراليّي التطبيع بالاشمئزاز) وبين الصحافة هناك وثيقة إلى درجة تجعل من الصحافة في ما يتعلّق بالأمن والدفاع أبواقاً دعائيّة (حالة «أميرة هاس» حالة استثنائيّة، لكن هناك من يريد أن يجعلها مُعبِّرة عن رأي عام مع أنها منبوذة هناك). واعتادت أحاديث الإعلام والثقافة العربيّة على امتداد عقود ضرورة الاستشهاد بزئيف شيف، بينما الأخير لم يكن بارزاً ومعروفاً لمواهبه أو صوابيّة تحليلاته بل لقربه من دوائر الاستخبارات التي تسرّب له ما ترتئيه. ودور شيف في حرب تمّوز كان دعائيّاً: أي إنّه إعلاميّاً لم يكن يختلف عن دور فارس خشّان أو غيره في نشرة «المستقبل» (السلفي). كان زيف في آخر مقالاته يصيح مطالباً بمزيد من الوحشيّة ضدّ لبنان: أي إنه كان يدعو بصريح العبارة لمزيد من القتل والتدمير.
الرئيس فؤاد السنيورة (أرشيف)الرئيس فؤاد السنيورة (أرشيف)يتميّز الكتاب بالأخطاء والمغالطات التي يجدها الدارس (والدارسة) في الكتابات الإسرائيليّة عن العرب (موشي معوز، وهو من أبرز مستشرقي الكيان الغاصب وتتلمذ على يد ألبرت حوراني في أكسفورد، ذكر في الطبعة الأولى من كتابه عن حافظ الأسد أن تقي الدين الصلح كان رئيساً للجمهوريّة في لبنان). من أين تبدأ في تعداد الأخطاء: يمكن القول إن هناك أخطاءً في معظم، إن لم نقل كل، الأسماء الواردة في الكتاب، فيصبح اسم غالب عوّالي «رالب علاّوي» ص. 265)، ويصبح اسم حسين رحّال، حسين رشيل، ويخترع المؤلّفان اسماً لقرية جنوبيّة هو «الرندوريّة»، ويشيران إلى اسم بشير الجميّل (حليفهم، وأسوأ لبناني على الإطلاق) باسم بشّار الجميل (ص. 266)، كما أن كل الترجمات وما يُسمّى باللغات الأجنبيّة «الترجمة الصوتيّة» (أي كتابة كلمات أجنبيّة بلغة مختلفة، وهناك أصول لكتابة العربيّة بالإنكليزيّة، مثلاً) هي خاطئة، وبعيدة عن المعنى وعن اللفظ الأصلي. لن يتبيّن غازي العريضي، مثلاً، اسمه في الكتاب لما شابه من تحوير وإفساد، كما أنهما أشارا إلى منطقة الصنائع على أنها منطقة «مسيحيّة» (ص.117). وتختلق الروايات والكتابات الإسرائيليّة ما تريد، أو ما يفيدها دعائيّاً: فيورد الكاتبان عَرْضاً لاتفاق الطائف لا يمتّ بصلة إلى واقعه أو نصوصه (يزعم الكاتبان أن اتفاق الطائف طالب حزب الله بالتوقّف عن «إراقة الدماء») (ص.32) أو اختلاق كذبة أن إدوار سعيد رمى حجراً بوجه إسرائيل من بوّابة فاطمة وهو على كرسي متحرّك مع أن صورته موجودة في أكثر من موقع على الإنترنت (وهو واقف على قدميه إلى جانب الرفيق فواز طرابلسي). ويختلق المؤلّفان روايات وسيناريوهات متعدّدة ما دام أنها تتناسب مع توجّهات المحتل الإسرائيلي (يزعمان أن حزب الله اعترف بسقوط 250 من مقاتليه في حرب تمّوز (ص. 276)). لكن اختلاق أكاذيب عن العدو هو جزء لا يتجزأ من الدعاية الإسرائيليّة التي تستخدم الإعلام (كما يظهر جليّاً في الكتاب) متى تريد وكيفما تريد، وتقرأ عن قرارات حكوميّة عرضيّة بتسريب معلومات إلى الصحافة الإسرائيليّة. الخطير هذه الأيام أن إعلام آل سعود وإعلام آل الحريري يسارع إلى الترويج المُتكرِّر، والحماسي، للدعاية والمزاعم الإسرائيليّة. ثم يسألونك عن قرائن عن التحالف السعودي الإسرائيلي. يكفي أن تشاهد أخبار «العربيّة».
لكن هناك ما يهمّنا من الكتاب: فبعض المعلومات القيّمة ترد عرضاً، وخصوصاً أن المؤلفيْن قاما بمقابلات عديدة مع مسؤولين رفيعي المستوى في إسرائيل وأميركا وغيرهما من الدول. تقرأ مثلاً أن المملكة السعوديّة غطّت العدوان وأيّدته: واعترف (أو زها) مسؤول إسرائيلي رفيع (لم يُذكر اسمه في الكتاب) بأن إدارة بوش سألت وفداً سعوديّاً (لعلّه سعود الفيصل، لكن الكتاب لم يذكر اسمه ربّما لحمايته) كان يقوم بزيارة واشنطن أثناء العدوان إذا كانت الحكومة السعوديّة ترغب في أن تقوم واشنطن بممارسة الضغط على إسرائيل لوقف الحرب. وبعد التشاور مع الحكومة المصريّة، أجاب الوفد السعودي بأن «لا داعي للعجلة» في وقف الحرب. (ص. 104). كما أن سفراء دول «الاعتدال» ناشدوا السفير الإسرائيلي في الأمم المتحدة بـ«قصم ظهر حزب الله». (ويروي لورانس رايت في مقالة في العدد الأخير من مجلّة «النيو يوركر» عن «يوسي ألفر"، الخبير الإسرائيلي، أنه كان في أوروبا عند بدء العدوان على غزة، ويضيف: «كنت أحتسي شراباً قويّاً مع زميل سعودي» و«أخبرني: هذه المرّة، افعلوها بصورة صحيحة»). ليس هناك من شك في مناصرة الدول العربيّة لعدوان إسرائيل على لبنان (وعلى غزة).
باتت إسرائيل مثل الأنظمة العربيّة المهزومة تعزّي نفسها بنصر غير موجود
كما أن الكتاب يكشف جوانب في شخصيّة رفيق الحريري وفؤاد السنيورة. المهم عن رفيق الحريري أنه مارس كذبة على الشعب اللبناني: كان يجاهر بمعارضة القرار 1559 فيما كان هو من عمل على طبخه وتهيئته بالاتفاق مع الدوائر الصهيونيّة في واشنطن (يورد الكتاب أن فرنسا وأميركا تقصّدتا التقليل من دور الحريري، الذي كان يعمل من أجل التوصّل إلى سلام بين الدول العربيّة وإسرائيل (ص. 52)، في الإعداد لاتفاق كان هو أباه الروحي وكان فخوراً به، وفق وصف لمسؤول في الأمم المتحدة في مقالة لجريدة «التايمز» اللندنيّة (مارس 18، 2005)). أما السنيورة، فكم يبدو ضعيفاً في دوره أثناء العدوان، وكم كان مُنفّذاً للأوامر الأميركيّة، هذا الذي لا يحتاج لفحص دم. لكن السنيورة لا يعلم أن الإعلام في لبنان والعالم العربي لن يكون تحت سيطرة سلالة أو سلالتيْن عندما يُكتب تاريخ المرحلة الحرجة في المستقبل. نعلم اليوم أن الإدارة الأميركيّة وضعت شرطاً واحداً أمام همجيّة عدوان إسرائيل: أن أميركا تسمح لإسرائيل بأن تفعل ما تشاء ما خلا ما يضرّ بمصلحة السنيورة وبقائه في الحكم، لأن بوش رأى فيه وكيلاً «واعداً». ومسؤولو الأمم المتحدة الذين قابلوا السنيورة مع شطح وجدوا عنده رغبة في «الاستفادة» من العدوان (ص. 112). وفيما كانت قنابل إسرائيل وصواريخها تنهمر فوق رؤوس الآمنين في لبنان، كان الناشط السابق في حركة القوميّين العرب ينتقد حزب الله ويهجوه أمام الوفود الأجنبيّة، كما يروي الكتاب.
لكن الأمر لم يتوقّف عند ذلك. فقد روى المؤلّفان عن لسان «دبلوماسي غربي» (والتسمية عادة في العرف الصحافي الغربي هي للسفير الأميركي في بلد ما) أن قادة 14 آذار كانوا ضد وقف النار، وأنهم سُعدوا بأعمال إسرائيل الحربيّة. يرد في الكتاب: «جماعة السنيورة ذهبوا أبعد من ذلك. كانوا سعداء لرؤية إسرائيل تهاجم حزب الله. وقادة رفيعون في فريق 14 آذار طلبوا من أميركا ألا تدع إسرائيل توقف الحرب بعد أيام فقط من بدئها...كل أناس 14 آذار أرادوا تصفية حزب الله.» (ص. 98) (روت لي أكاديميّة أميركيّة التقت برضوان السيّد أثناء العدوان أنه قال لها إنه يتمنّى لو تقطّع إسرائيل حزب الله إرباً إرباً (وأترجم هنا عن عبارة إنكليزيّة). ولو كان هناك لجنة تحقيق في لبنان لَعَلِم شعب لبنان (الذي حقّق مجده يوم أعدّ طبق حمّص عملاقاً، بأطباق الحمّص والتبّولة تُصان الأوطان) أن السنيورة كان يبعث برسائل (ونصائح) إلى الحكومة الإسرائيليّة عبر الحكومة الفرنسيّة، وقد حذّرهم من أن تؤدّي بعض أعمالهم الحربيّة إلى مساعدة حزب الله والإضرار به هو. هذا هو رئيس حكومة لبنان أثناء عدوان تمّوز. والكتاب منشور في نسخة عبريّة ونسخة إنكليزيّة ولم نسمع أن مكتب السنيورة الإعلامي الذي يصدر بيانات وفرمانات بمناسبة وغير مناسبة قد أصدر نفياً لمضمون الكتاب.
النائب وليد جنبلاط (أرشيف ــ مروان طحطح)النائب وليد جنبلاط (أرشيف ــ مروان طحطح)تجد في الكتاب الدرجة التي تتابع بها حكومة إسرائيل وإعلاميّوها مجريات الأحداث في لبنان، وإن كان البطريرك (العروبي ليوم واحد فقط) لا يرى إلا التدخّلات السوريّة والإيرانيّة في شؤون لبنان، يمكنه وهو الذي كان يطلب زيارات للبيب الأبيض (حسب سيرته المنشورة)، والذي عاد في حرب تمّوز على متن طوّافة عسكريّة أميركيّة، بعدما زار ديك تشيني وطمأن اللبنانيّين بعد اللقاء أنه يسعى لحلّ مشاكل لبنان، ألا يرى خطراً من إسرائيل. آه لو أنه يُفرج عن الوثائق السريّة للاتفاق المُوقّع بين الوكالة اليهوديّة والبطريركيّة. وقد لاحظت إسرائيل أن الحكومة اللبنانيّة لم تعاقب مجرمي جيش لحد (ص. 25)، كما نقرأ في الكتاب إطراءً لتصريحات مفتي صور المطرود، علي الأمين، ولمقالة منى فيّاض في «النهار» (عملت الدوائر الصهيونيّة الدعائيّة في الغرب، مثل «ميمري» التي تأسّست على يد مسؤول استخباراتي (سابق، على حدّ قوله) على ترجمة تصريحات أعضاء 14 آذار ممن انتقد المقاومة أثناء حرب تمّوز وبعدها، وذلك للإسهام في حربهم ضد حزب الله). أما عن وليد جنبلاط (الحليف الحالي لحزب الله والأمير مقرن، في آن واحد، ولا ندري إذا كان قد توقّف عن إرسال صناديق نبيذ كفريّا لصديقه إليوت أبرامز، وفق رواية الأخير)، فيقول الكاتبان: «من موقعه في أقصى اليمين، تحدّث وليد جنبلاط لمصلحة موقف إسرائيل من حيث عدم جدوى وقف إطلاق النار ما لم يتضمّن نظاماً سياسياً جديداً». ويستشهد بتصريحه في 19 تمّوز عندما قال: «نريد وقفاً للنار، لكن ليس بأي ثمن». (ص 117 118).
لن نتطرّف في الدعوة لمتابعة دراسات العدوّ: ومتابعة الصحافة والإنتاج الأكاديمي للعدوّ مفيدة، لكن سياسيّاً فقط. هناك من يستشهد بكتابات إسرائيليّة لإرشاد العرب في صلاحهم، مثل الذين يحثّون الناس على القراءة لأن موشي ديان سخر من جهل العرب. لنكفّ عن الاستشهاد بزئيف شيف أو من تختاره المؤسّسة العسكريّة الاستخباريّة في إسرائيل لتسريب دعايتها ضدّنا بصورة منتظمة. لكن يمكن متابعة ما يصدر عنهم من باب الرصد السياسي: تستطيع أن تتمعّن في عمليّة صنع القرارات الحربيّة في الكيان الغاصب: كيف يستطيع دعاة التطبيع (بصرف النظر إذا كان هواهم قطرياً أم سعوديّاً أم بحرينيّاً) أن يفسّروا موقف صحافيّين إسرائيليّين عندما يسوّغان قتل المدنيّين في كتابهما بالقول: «إن قتل الناس الأبرياء، على ما يبدو، هو جزء من ثمن حرب». (ص. 161). أو أن تقرأ أن الحكومة الإسرائيليّة استعانت بفتوى من المدّعي العام الإسرائيلي لقتل المدنيّين في لبنان، فقد قرّر الأخير أن القانون الدولي «يسمح بالإضرار بالمدنيّين عندما يقطنون في جوار صورايخ» (ص. 86). أما قائد الـ«شين بيت» فقد رفض سماع عبارة «العابرين الأبرياء» في لبنان. «ماذا تعنون بـ«عابرين أبرياء؟»، قال لهم (ص. 80). لكن الحكومة الإسرائيليّة لم تصرف وقتاً لنقاش الأضرار ضد الأبرياء في لبنان. فالحكومة الأميركيّة سمحت لإسرائيل، حسب الوصف الدقيق للكتاب، بارتكاب ما تودّ من جرائم الحرب على ألا تلحق ضرراً بـ... فؤاد السنيورة.
لكنّ المؤلّفين يعترفان بما ينفيه الخبير العسكري اللبناني مفتي صور المطرود، علي الأمين: بأن إسرائيل فشلت في تحقيق أهدافها. ويعترفان بأن ما يزيد على الـ4000 صاروخ التي انهمرت على فلسطين المحتلّة كانت أطول فترة قصف تعرّضت له إسرائيل منذ إنشائها. ويعترفان بأن الحرب لم تنته بتمتّع إسرائيل بموقع السيطرة (كما كانت الحال في حرب تشرين التي بدأت بنصر وانتهت بهزيمة بإصرار من أنور السادات، لكن تلك قصّة تحتاج لحديث منفصل). لكن إسرائيل باتت مثلها مثل أنظمة الهزيمة العربيّة: تعزّي نفسها بنصر غير موجود، فتقول إنها نجحت في أمر واحد فقط: في «اقتلاع حزب الله من الحدود». إلى هذا الحدّ تجهل إسرائيل واقع أعدائها؟ الجواب بالإيجاب. أيظنّ العدوّ أن حزب الله هو جسم غريب عن سكان الجنوب؟ أمِن زُحل هم؟ لنتذكّر فقط قصّة ذلك المواطن من بعلبك الذي تعرّض للخطف على أيدي جنود الاحتلال لظنّهم بأنه حسن نصر الله. نشك بأن استخبارات دولة عربيّة ترتكب خطأً كهذا.
عِبر عدوان تمّوز لم تُدرس ولم تُهضم بعد. السبب بسيط: فريق السلالة الحاكمة ارتبط بحلف وثيق (لا يخرج منه) مع النظام السعودي، الذي يرتبط اليوم بحلف عضوي مع إسرائيل. كانت الحكومة اللبنانيّة، بشخص وزير العدل شارل رزق (الموعود بالرئاسة وإن كانت حظوظه فيها لا تزيد عن حظوظ المرشّح الهزلي، شبلي الملاّط) قد وعدتنا بتقديم شكوى لمجلس الأمن. لكن حكومة السنيورة هي مثل حكومة عبّاس: لا تتخذ قرارات فيها إحراج للحكومة الإسرائيليّة. لا يرضى الراعي الأميركي بذلك. لكن الشعب في لبنان يستطيع أن يتمعّن في دراسة عدوان تمّوز. حتى لا ننسى. حتى لا نغفر.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
تعليقات: