حسن عبد الله.. صاحب «الدردارة»
حفروا في الأرض، وجدوا شاعراً يحفر في الأرض
عاشت المدينة ذات مرّة على وقع قصائدهم، فعُرفوا بـ«شعراء الجنوب». وكان صاحب «الدردارة» أكثرهم سريّة وخفوتاً. ثم تفرّقوا كل إلى مشروعه، ومضى حسن عبد الله إلى صمته. بقي الشاعر بامتياز، حتّى في كسله. قبل أيّام احتفت به حانة «جدل بيزنطي» ضمن «بيروت عاصمة عالميّة للكتاب»
أصدر حسن عبد الله ثلاث مجموعات شعرية فقط: «أذكر أنني أحببت» (1978)، «الدردارة» (1981) وهي قصيدة طويلة، و«راعي الضباب» (1999). إنه مقلّ، نقول لأنفسنا. لكن متى كان الكمُّ معياراً لتحديد مواهب الشعراء ومهاراتهم ومراتبهم؟ وحين نلاحظ أنّ 18 عاماً تفصل بين المجموعة الثانية والثالثة، وأن الثالثة مضى على صدورها 10 أعوام، من دون أن تعقبها مجموعة رابعة، نقول إنه كسولٌ وغير مكترثٍ أيضاً. لكن أليس الكسل صفة جوهرية في الكتابة الشعرية نفسها؟ في ماضينا الشعري، شعراء مقلّون، وآخرون عُدُّوا في فئة أصحاب القصيدة الواحدة، وشعراء لم يصلنا من نتاجهم إلا أبياتٌ متفرقة، كما أن بعض الشعراء الغزيري الإنتاج مخلَّد في ذاكرتنا بسبب قصيدة مفردة أو بيتٍ شعري واحد. علينا أن نصنِّف حسن عبد الله في بابٍ واحد مع هذا النوع من الشعراء الممسوسين بالشعر، وغير المبالين بالإكثار منه في آن واحد. كأن الشعر يأتيهم من زهدهم فيه لا من لهفتهم عليه. أو كأنهم يفضِّلون القصيدة التي تستسلم برضاها لفخاخ مخيلاتهم، لا تلك التي ينبغي تعقّبها بعدَّة وعتاد كاملين، واصطيادها بقوة وتعسُّفْ. صاحب «الدردارة» شاعر حقيقي. لا يضيره إن كان مقلاً وكسولاً، وغيره مكثرٌ ومثابر. شعراء جيله سبقوه عدديّاً بعدد دواوينهم، لكنَّ هذا لم يُفقده رُتبته العالية بين صفوة مجايليه. كأنَّ هؤلاء وسَّعوا مساحات حضورهم، من دون أن يُقضم سنتمترٌ واحدٌ من المساحة التي يحتلها صاحب قصيدة «صيدا» التي تكاد أن تكون كافيةً وحدها لتخليد الشاعر.
مهارة في إخفاء الألم والوحشة ودفنهما تحت الصور والاستعارات
لا نزال نتذكر مطلع القصيدة ونتحسّس نضارته كما لو أنّه كُتب للتو: «حفروا في الأرضْ/ وجدوا امرأةً تزني/ ملكاً ينفضُ عن خنجره الدمْ/ حفروا في الأرضْ/ وجدوا فخَّاراً/ أفكاراً/ لحناً جوفياً منسرباً من أعماق البحرْ/ حفروا في الأرضْ/ وجدوا رجلاً يحفر في الأرضْ». لا ينجو القارئ من الكهرباء التي تسري في هذا المقطع. لعلَّ هذا الشعر كُتب بحبرٍ يحظى بديمومة تخوِّله الصمود في وجه الزمن، نقول ذلك لأنفسنا نحن الذين لطالما تبادلنا، شفاهيةً، شغفنا بهذا المطلع واتفقنا في ما بيننا على أنه كافٍ لإطالة ذكر حسن عبد الله في ذاكرتنا حتى لو لم يكتب غيره. كتب الشاعر أعمالاً قليلة لكنها، بشيء من المبالغة المحبَّبة، تعادل ما بقي وصفا من أعمال الآخرين الكثيرة. لقد اهتدى مبكراً إلى نبرة وإمضاء شخصيين. تقاسم مناخات الريف الجنوبي مع زملائه الجنوبيين، وتقاسم معهم الولع بالإيقاع والقافية، لكنه حافظ على عبارةٍ أكثر خفوتاً، ومعجم واضح نجَّاه من التهويم اللغوي والتفجّع البلاغي. لقد نجح كلّ واحد من ذلك الرهط الشعري الذي سُمّي يوماً بـ«شعراء الجنوب»، في خلق انعطافة ذاتية جعلت تلك التسمية تضيق بهم فرادى بعدما جمعتهم شباناً في أولى تجاربهم. حسن عبد الله استثمر الطبيعة، والحياة الجنوبية، في قصيدة ذات مزاج منتبه إلى التفاصيل والجزئيات لا إلى الكليات والتجريدات. المعاني في هذه القصيدة مرنة وذكية ودقيقة، وتكاد تكون نثرية أحياناً.
لنقرأ من قصيدة «صيدا» نفسها: «وأطلقتُ حريتي وذكائي ككلبين/ بين الشوارع والأبنية/ فعادا برأس من المال يشبه رأس امرئ قرويّ/ يجوب المدينة/ بحثاً عن الخبز والماء والكهرباء». الإيقاع هنا متدفّق وسيَّال، لا يسبق المعنى ولا يضيِّق عليه مرونته وحريته. أحياناً نحسّ أن الشاعر يكتب قصيدة تفعيلة بمنطق قصيدة نثر شفوية ويومية، من النوع الرائج لدى الشعراء الشبان اليوم. ينطبق ذلك على قصيدة «الدردارة» التي مزج ببراعة ذكريات الطفولة وتفاصيل الطبيعة في مسقط رأسه مع نبرته الشعرية. لنقرأ: «وكان الماءُ يعمل نادلاً في السهل/ ندعوه/ فيأتي راكضاً ... متمهلاً». ونجد المنطق عينه في مجموعته الثالثة التي ضمت قصائد مكتوبة بإيعازٍ قصصي وسردي واضح، كما هي الحال في قصيدة «مرَّ عام» التي يحفظ بعضنا مقاطع منها بسبب السردية والفكاهة اللتين تسريان فيها: «وحدتي قلعتي/ حبث جسمي قويٌّ/ وقلبي منيعٌ/ وسرّي مقدسْ/ أيُّ امرأةٍ تتقدم من جنتي هذه/ سأواجهها بالمسدس». نفكر أنَّ الشاعر يبالغ أحياناً في الفكاهة والكوميديا، ويستطيب تفاعل الجمهور مع مرح جملته وبساطتها، لكنه سرعان ما يكشف الوجه التراجيدي والفلسفي لهذه الجملة، فندرك أن الفكاهة تنطوي على مهارة عالية في إخفاء الألم والوحشة، ودفنهما تحت السطح الفوَّار واللاهي للصور والاستعارات، وهي بالمناسبة استعارات مبتكرة وشديدة الذكاء. على أيّة حال، جِدّة الاستعارات وقوة التأمل الداخلي فيها كانتا جزءاً أساسياً من شعرية حسن عبد الله وفرادة تجربته. لنتذكر هنا أنَّه أدهشنا منذ باكورته، بلغةٍ فيها الكثير من الحكمة والتأمل والفلسفة. كم كان لافتاً أن يبدأ الشاعر شبابه الشعري بنبرة متفلسفة وكهلة، فيكتب: «لستُ شيئاً سوى/ غصنٍ يابسٍ/ لن أصادق فصلاً ولن/ يعرف الحرثَ حقلي»، أو «انتهى كل شيء/ أنا الآن أكسرُ عنقي كنسرٍ عجوزٍ/ وأهوي إلى السفحِ/ منخفضٌ كالقبور حنيني».
بعد حسن عبد الله، يُكرَّم «جدل بيزنطي» (كاراكاس) الشاعر موريس عوّاد الخميس 19 الحالي، ضمن لائحة من عشرة شعراء، للإستعلام: 01/343451
تعليقات: