«العوانس» فاتهنّ «قطار الزواج».. في الريف يتحمّلن عبء الآخرين

لوحة للفنانة الأميركية كاسندرا بارني بعنوان «الإرتباط»
لوحة للفنانة الأميركية كاسندرا بارني بعنوان «الإرتباط»


«ينتابني شعور غريب وأنا وحيدة بعيداً عن ضجيج نهاري وصخب عملي»، تحكي مريم كأنها لا تزال مختلية مع نفسها: «لحياتي لونان: أبيض هو عملي والنجاح الذي أحققه، وأسود يعتلي غربة جدران المنزل والكآبة التي تسكنه وتسكنني فيه». تعلمت مريم لـ «تنجح»، لم يحالفها الحظ في البقاء مع من أحبته، فانتهت علاقتها بغير الخواتيم المرجوة، فانضمت إلى ركب المتأخرات في الزواج، كي لا تقول «العوانس»، كما يطلق على من اخترن عدم الزواج، أو لم يعثرن على رجلهن المناسب. «بعد العمل أكنس.. أطبخ.. أجلي أتحمل تأففات من حولي، سلاطة لسان خطيبة أخي، ومزاجية أختي التي تتحضر للزواج وغيرها».. هي باختصار بعض يوميات صبية في الثانية والثلاثين من عمرها.

وإن قيل لها ان الثانية والثلاثين هي سن مبكرة لعيش في «غربة كئيبة» كالتي توصفها. تضحك مريم بمرارة لتقول «ان 32 ليست سنا ملازمة للعنوسة ربما في المدن الكبيرة، وتحديداً في بيروت، لكن الوضع يختلف في الأرياف، يعني كل سنة بيطلع فوج صبايا «بالطعش» (من عمر 15 عاماً إلى عشرين عاماً) كل واحدة أحلى من الثانية»، تقول.

بالنسبة إلى مريم لا تقتصر المعاناة على إحساس «البنت بحاجتها إلى حبيب وشريك، يعني رجلا تعيش معه مشاعرها وأحاسيسها»، بل في الأهل والمجتمع والمحيط وفي نظرة الشباب أنفسهم.. وعليه، فهي تضطر إلى تحمل مشاحنات الاهل المستمرة وتعاملهم معها كأنها عبء لا حول لهم ولا قوة عليه، ثم هناك فضول الناس واضطرارها لمجاراة محيطها من دون تذمر.

تكمل مريم مشوارها وهي تجامل وتضحك وتتلهى بعملها الذي أحبته، من دون أن تنكر إحساسها الداخلي بالفراغ والرغبة الدفينة بعيش قصة حب حقيقية، حب بكل الحنان الذي يضفيه على حياتها ويومياتها.

تقول مريم ان دموعها تنهمر غزيرة ما ان تطفئ ضوء غرفتها وتضع رأسها على وسادتها. هناك تستجمع الأفكار والذكريات وتسترجع دور أهلها في خسارتها لحبيبها.. تستجمع الصورة عساها تتكمن من محوها ذات مساء لتكمل طريقها. تأخذها الصورة إلى رؤية نفسها عروسا بفستان ابيض. تعرف أنها تتجنب حضور الأفراح، وأنها تتقوقع داخل المنزل ما ان تعود من عملها، ومع ذلك لا تزال تمني النفس بأن تحظى يوما بشريك ينسيها آلام الحياة وقساوة الأيام.

تتحمل متطلبات والدتها التي لا تنتهي، بل أكثر من ذلك، ها هي بالرغم من أعوامها التي تخطت الثلاثين، تضطر لاستئذان أمها للخروج كأنها طفل صغير. تعمل من التاسعة صباحا وحتى الرابعة عصرا.. وعندما تعود تهرب إلى «النرجيلة»، «رفيقتها» الوحيدة و«فشة» خلقها في مواجهة «مرارة الوحدة والفراغ وفضول الناس وحشريتهم»، الناس الذين لا يكفون عن سؤالها «ليش ما تزوجتي لحد هلق» في كل مناسبة ولقاء.

لكن أكثر ما يؤلمها في الواقع هو استسهال الشبان والرجال المتزوجين فرضية إقامتها لعلاقات عابرة. سبق لمريم أن تركت وظيفة أحبتها عندما عرض عليها رب عملها زواج المتعة بحجة سنها المتقدمة «يعني ما بقى يجيك عرسان» قال لها مرغّباً. تتذكر أن قشعريرة سرت في كل أنحاء جسدها، وأنها فتحت باب المكتب وغادرت إلى غير رجعة. لم يسئها الطلب وحده، إنما تواتر الأسئلة والعروض المشابهة من بعده «يعني ما حدا بيترك الوحدة تعيش «حتى عنوستها» بسلام»، تقول متحسرة.

تطلق مريم حكماً على «المجتمع الريفي» كما تسميه، فهو «يضع قيودا على تصرفات الفتاة.. يراقب تحركاتها خاصة إذا «فاتها القطار».. فترى «نفسها بين مطرقة العزوبية المتأخرة وسندان المجتمع الرجولي القاسي الذي ينظر إليها كصيد ثمين».

حال مريم تشبه حال عشرات الفتيات اللواتي «فاتهن قطار الزواج»، وفق معايير محيطهن، وذلك إما بسبب رفضهن للزواج بانتظار الحبيب وفارس الأحلام ، أو لتعنت الأهل، والأكثر شيوعا هو فشل العلاقات العاطفية.. في مقابل قلة من النساء نسين أنفسهن في أروقة العمل ومشاغله.

مايا

«علي أن أكون أسداً في غابة الرجال»، تقول مايا (33 عاما) التي تهرب من مزاجية الأم وتعنت الأب اللذين حرماها الزواج لترعاهما. تهرب إلى واقع رسمته لنفسها عبر ريشة وألوان تخط عبرهما الحياة التي تحلم بها، ترسم البحر وغروب الشمس...منزل الأحلام... الطفل... تبني قصرها وفيه طفلها بواسطة الأحجار التي تجمعها من الحقل. تعمل مايا مدرسة للأطفال وتحب عملها كثيراً لأنه «يعطيني الحياة». المنزل بنظر مايا يعني «الفراغ». تأمل دائماً أن تدخل إلى «منزلها» ويكون ابنها وزوجها في انتظارها. تستفيق سريعا من الحلم كي لا تتأثر وتصاب باكتئاب: انترنت ورياضة.. رسم وأشغال يدوية... هي الأساليب التي تعتمدها في حياتها اليومية كي تهرب من الفراغ القاتل.. تقول «ليس عيبا البقاء دون زواج، فانا اعمل وأؤمن اكتفائي الذاتي وأعيل أهلي أيضا.. لا أفكر في أنني عالة على أحد أنا مكتفية بذاتي وهذا مهم». بالنسبة إليها تعاني من «المجتمع خاصة إذا كان محافظا وطابعه دينيا.. اسمع ان هناك الكثيرات يلجأن الى زواج المتعة»، تقول. وهي بالذات تتعرض لـ «تلطيشات» ومحاولات تحرش ان عبر الهاتف او النت او غيرهما.. «فالشباب يستغلون الفتاة خاصة تلك التي تخطت الثلاثين، ظناً منهم واعتقاداً أن القطار قد فاتها. تعود مايا لتتذكر «أن قوة شخصية الفتاة تمنع عنها وترد أي إهانات كهذه».

سهى

«العلم هو سلاح المرأة»، تتذكر سهى العبارة التي طالما رددتها جدتها على مسامعها. «يمكن ما يجي نصيبك هيك بيكون معك سلاح « كانت تقول لها. تحب سهى المقولة وترددها دوما. حصلت على شهادة ماجستير في علم النفس وتعمل مصلحة اجتماعية. تقدم لها الكثير من الشبان «لكن دون المستوى»، تقول. «ابحث عمن يشبهني في التفكير والمنطق، الحياة مشوار طويل لا ينتهي في يوم»، وفق ما تفكر. لا تنكر سهى حنينها الى الحب والى حبيب تجده بجانبها وقت الشدة، ولا تخفي غيرتها من أخريات يعشن الحب إلا أنها تقول «الزواج قسمة ونصيب». ترفع سهى رأسها كمن يرغب بتأكيد رضاه عن حاله لتقول «ان حياة الفتاة لا تتوقف على الزوج والرجل، هناك نساء ناجحات وتبوأن مراكز مهمة في شركات ومؤسسات وهن سعيدات بأنفسهن وأوضاعهن.. الرجل ليس الحياة كلها، هو جزء منها»، وفق سهى التي تعلن عدم ندمها حتى اليوم عن رفض شبانا كثرا تقدموا للزواج منها.

ريما

ترفض ريما الباحثة في الفكر الاجتماعي (35 عاما) فكرة أن تصبح «العنوسة»، وفق ما يطلقون على العازبة من صفات، «وصمة اجتماعية»، غير انها لا تنكر الضغوطات التي تتعرض لها سواء كانت نفسية او من الاسرة أو المجتمع. وتشير ريما إلى أن أسوأ الضغوط هو ضغط المجتمع الذي يبدأ من النظرة، وإلقاء الكلمات الجارحَة، والأشد عنفا هو اتهام الفتاة بخوض «علاقة غير شرعية، ولذا هي رفضت الزواج لكي لا ينكشف أمرها، أو اعتبار عدم زواجها فشلاً تعوضه في التركيز والنجاح في العمل». وترى «أن مشكلة عدم الزواج تزداد في الأقاليم، وتقل حدتها في المدن»، رافضة أن تظلم نفسها، بارتباطها بمن لا يتوافق معها، و«لعل هذا ما يعلل وجود أكثر من 45 في المئة من حالات الطلاق بين حديثي الزواج»، تقول ريما مشيرة إلى «أن الفتاة غير المتعلمة قد تقبل بأي عريس يتقدم لها، فهي تجلس في المنزل تنتظر قدومه، أما أنا فلا أقف مكتوفة اليدين بل أتطور وأسعى لتحقيق ذاتي».

رأي «العلم»

يرى الباحث الاجتماعي هاشم بدر الدين ان أسباب عدم زواج البنات كثيرة «بعضها خاص بالفتاة، حيث لا يزال بعضهن يتأثرن بروايات الجد والجدة عن فارس الأحلام الذي ترسمه الفتاة في مخيلتها وتنتظر قدومه وترفض كل من تقدم لطلب يدها، وبانتظار الفارس الكبير الذي لن يأتي تضيع الفرص المتاحة». ويحمّل بدر الدين بعض المسؤولية للأهل «الذين يطمحون بزواج ابنتهم في معظم الأحيان من طبقتهم إضافة إلى أفكار عقائدية لها علاقة بالطوائف والسياسية والعمل».

ويلفت بدر الدين إلى نتائج عدم الزواج «الكارثية على المجتمع، إذ يؤدي إلى اضطراب سلوكات الشباب والصبايا على السواء، وانتشار ظاهرة الزواج الموقت الذي تعتبره بعض اللواتي كبرن في السن وبقين من دون زواج «طاقة» أو «باب فرج» .

ويؤكد بدر الدين أن المجتمع االلبناني الجنوبي لا يسمح بالعلاقة الجنسية غير الشرعية لافتا الى ان الفتاة الجنوبية بطبيعتها حساسة وهذا الموضوع يؤذيها، ففيه ظلم لها وأيضا حرمانها من إنجاب طفل في حال عدم زواجها.

ويعيد بدر الدين بعض المشكلة إلى عجز الشباب عن تأمين منازل بسبب الأوضاع الاقتصادية، لافتاً إلى هجرة الشباب وتزوجهم من اجنبيات واستقرارهم في الخارج في مقابل قلة تعود وتتزوج في لبنان، وهذا بنظر بدر الدين، يحدث خللا في البنية والتركيبة الاجتماعية ويهدد الأمن الاجتماعي ويترك آثاراً سلبية على البنية النفسية للفتاة. ويرى بدر الدين الحل بمحاولة حث الشباب للعودة الى لبنان وعدم الزواج من أجنبيات من أجل الجنسية، «لأنهم بذلك يساعدون على ارتفاع نسبة الصبايا غير المتزوجات». ويعطي مثالا على بلدة كفرصير حيث هناك 54 متخرجاً من اطباء وغيرهم تزوجوا من اجنبيات وبالتحديد من روسيات، وهذه «خسارة للمرأة اللبنانية».

ليس كلمة وحسب، فتاة من دون زواج وفي الريف، هي حالة معقدة بحد ذاتها، حيث العلاقات ممنوعة والتصرفات محكومة ومراقبة، وحيث الاستقلالية بعيداً عن سلطة الأهل شبه مستحيلة. وهناك المجتمع الذي يتعامل معها كمشروع قابل لزواج المتعة أو للزواج من رجل متزوج أصلا.. أو كامرأة متاحة للعلاقات المفتوحة. تقول لميس التي تدخل الأربعين من دون أن تتزوج «أنا أعمل ولا أحتاج لأحد، أعترف بحاجتي للحب وللرجل في حياتي.. لكن الأهم انني أحتاج إلى أن يتركني أهلي والمجتمع، وخصوصاً الرجال، بسلام».

تعليقات: