يبحث عن حقنة مرمية لإعادة استخدامها في حقن نفسه
هم مرضى.. وليسوا مجرمين!
الأرقام التي كانت تنهمر من الإحصائيات والرسوم البيانية في المؤتمر الإقليمي لشبكة «المنارة»، «نحو الحد من مخاطر استخدام المخدرات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا» كانت أكثر من كافية لتجعل القاعة في فندق متروبوليتان في بيروت، تختنق بعشرات الرواد من جنسيات عالمية مختلفة لا يتركون رقماً يفوتهم. لكن المشكلة أن معظم هؤلاء مطلع على هذه المؤشرات، وتحديداً على تزايد نسب التعاطي بالحقن وما يؤديه ذلك من ارتفاع مأساوي في نسب انتشار أمراض الإيدز وإلتهاب الكبد الفيروسي ب وج، وهم بأغلبيتهم الساحقة على قناعة بضرورة الاعتراف بحقوق متعاطي المخدرات، ومنحه العناية الصحية الكاملة. فهؤلاء يمثلون المؤسسات والجمعيات والبرامج العالمية العاملة في هذا الإطار.
أما من كان ينتظر منه الحضور، ليسمع رقماً مثل هذا «13 مليون متعاط بالحقن في العالم ينتشرون في 158 دولة في العالم، 78 دولة منها لم تبلغها بعد «الرزمة الشاملة للحدّ من المخاطر» كبرامج الإبر والحقن وعلاجات البدائل للأفيونات».. فليس هنا. المقصود بذلك الجهات الرسمية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي ينتظر منها أن تبادر إلى الاستثمار أكثر في مقاربات الحد من مخاطر استخدام المخدرات، وتطبيق بنود هذه الاستراتيجية من اعتماد علاج البدائل للمتعاطي بمواد أقل ضرراً من تلك المنتشرة، أو بوسائل وقائية أكثر مثلاً (الحقن النظيفة)، وتوفير الخدمات والحقوق الصحية للمدمن.. وطبعاً يأتي ذلك بعد الاعتراف به كإنسان وكمريض، يحتاج إلى الدعم والعلاج لا إلى قضبان تقمعه، وتحوله من مدمن إلى مجرم. وهو ما اعتبره مدير المكتب الإقليمي لشرق المتوسط في منظمة الصحة العالمية الدكتور حسين الجزايري «مسؤوليتنا أمام المتعاطين، لتقديم خدمات هم بأمس الحاجة إليها، إذ هناك البعض يلجأوون إلى هذه الجنات المصطنعة، لأسباب عديدة من النزاعات والحروب واللجوء والفلتان الأمني وعدم وجود منظومة عائلية تقلص من حدة هذه المشاكل». ولفت الجزايري إلى «ازدياد مقلق في نسب التعاطي على مر العقدين الماضيين، ترافق مع تغيرات مقلقة في أنماط هذه التعاطي، ومع انخفاض في سن المتعاطين وازدياد تعاطي النساء (أمهات المستقبل)».
ومما يسجل أيضاً على الجهات الرسمية والحكومات تقصيرها في المساهمة في تغيير السياسة الدولية لتقديم الصحة العامة على الأمن، وتوفير التمويل اللازم للعلاج آفة المخدرات، وهي بحسب البروفسور باتريك أوهاري من الجمعية الدولية للحدّ من المخاطر عن «تظن أنها تتحكم بهذه الآفة وانتشار المخدرات، لكنها فعلياً لا تملك أي فكرة عن الجرائم المرتبطة لها وكمياتها وتوزعها وأسعارها».
وتتوضح خطورة الآفة أكثر في شرح جومانا هيرمز من المكتب الإقليمي لشرق المتوسط لدى منظمة الصحة العالمية، التي لفتت إلى أن «عشرة في المئة من إصابات الإيدز سببها المخدرات، وإذا ما استثنينا إفريقيا، التي يعتبر الجنس هو السبب الرئيسي لانتقال الأيدز فيها، يمكن القول إن التعاطي عبر الحقن يشكل ثلاثين في المئة من أسباب الإصابة بالإيدز».
وبحسب هيرمز، «تصل نسبة المصابين بالإيدز في المنطقة إلى 530 ألف حالة، ومليون متعاطٍ بالحقن»، والنسبة هذه التي تعتبر فعلياً متدنية قابلة لأن تشكل تهديداً مستقبلياً بحسب دول أجرت الإحصائيات، مثل ليبيا، إيران، البحرين وغيرها». ويمكن استنتاج مؤشرات هذا التهديد، من «الارتفاع المطرد في التعاطي في السنوات الخمس الأخيرة ومن تحول الحقن إلى سبب رئيسي للإصابة بالإيدز، في حين كان السبب في السنوات السابقة الجنس غير الآمن».
حقن نظيفة
الأرقام، قالت الكثير وأهم ما أثبتته أن معظم المقاربات الكلاسيكية لعلاج هذه الآفة لم تبرهن فعاليتها، ولم تعد كافية وحان الوقت لدول المنطقة أن تطبق استراتجية الحدّ من المخاطر التي أطلقت عالمياً منذ عشرين سنة، وأثبتت علمياً قدرتها على تقليص فداحة المشكلة. ويلفت مدير شبكة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا للحد من المخاطر «المنارة» إيلي الإعرج لـ «السفير»، إلى أنه «وعلى الرغم من الاتهامات الأولى لأصحاب المبادرات الجديدة، بأنها تروّج للمخدرات إلا أن الأرقام استطاعت إقناع السلطات والمنظمات العالمية باعتماد الاستراتيجيات البديلة، إلا أن اللافت أنه حتى اللحظة دولة واحدة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا «إيران» هي التي طبقت معظم بنود مقاربات الحدّ من المخاطر»، جازماً «نحن لا ننسى أبداً أن هدفنا الأخير المنشود هو جعل المدمن يتوقف تماماً عن التعاطي، لكن هذا لا يمكن تحقيقه بكلمة واحدة، أو بقمع تام، إذ أن الأرقام أظهرت أن 33 في المئة كحدّ أقصى من المدنيين يشفون تماماً من إدمانهم، وبالتالي نحن أمام 67 في المئة من الحالات بحاجة إلى مساعدتنا بما يمكن من المقاربات البديلة التي قد تمهّد لهم خيارات الإقلاع عن التعاطي، إنما ببطء، وهي على الأقل تحميهم من تفاقم مشاكلهم، وأمراضهم لا سيما الإيدز والتهاب الكبد».
وبحسب الجزايري «لا يمكن أن يكون علاج المشكلة بالقمع، أو بالسيطرة على الإتجار (لا يمكن حد أكثر من عشرة في المئة من نسبة الإتجار)، بل الحل بالمقاربات التي يمكن ان تنقذ الكثير من الأرواح ويمكن لكلفتها أن تكون أقل كلفة مقارنة مع أكلاف العلاج في مراحل متقدمة».
ومن البدائل التي يمكن اعتمادها هي ما تطرق إيه جايمي بريدج من الجمعية الدولية للحد من المخاطر حول «برنامج تبادل الحقن»، الذي يقضي «بتوزيع إبر معقمة ونظيفة على المتعاطين، منعاً لحقن أنفسهم بالحقن نفسها ونقل العدوى بينهم»، لافتاً إلى أن «هذه الخدمات بدأت في بريطانيا منذ السبعينيات بشكل غير رسمي، وفي العام 1984 بشكل رسمي في هولندا (أي قبل أن يتم ربط التعاطي بالحقن بالإيدز). وتطور تطبيقها مع مرور السنوات إذ كانت البلدان التي تعتمدها لا تتعدى الستة في العام 1987، لترتفع إلى 14 في العام 1990 وثم إلى 28 في العام 2000»، أما اليوم فهناك 77 دولة لديها برنامج تبادل، من أصل 158 بلداً يتم تعاطي المخدرات عبر الحقن».
لبنان والاتفاقيات
من حيث المبدأ جمع مؤتمر الأمس الذي تستمر أعماله اليوم وغداً، عاملين في القطاع الأهلي والقطاع العام ومؤسسات المجتمع المدني، لكن من حيث الواقع، لم يحمل معظم من مثل القطاعات العامة للدول المشاركة في اليوم الأول للمؤتمر إلا بعض الشروحات والمجاملات والمداخلات التعميمية البعيدة كل البعد عن إحصائيات رسمية تظهر شيئاً من الاهتمام بهذه الآفة.
ففي لبنان على سبيل المثال لا الحصر، نعاني ككثير من دول المنطقة شبه انعدام للدراسات والأرقام لنستطيع تحديد فداحة المشكلة في هذا البلد، أضف إلى ذلك نشاط دور جمعيات المجتمع الأهلي، مقابل المبادرات الخجولة للقطاع الرسمي. علماً أنه بحسب ممثلة وزير الصحة، رئيسة دائرة المخدرات في الوزارة الدكتورة ماري تيريز هناك «التزام من قبل الوزارة بكل الاتفاقيات الدولية المنظمة لأمور المخدرات، التزمت منذ ما يقارب السنتين بتوصيات اللجنة الإقليمية لمنظمة الصحة العالمية باعتماد خطط للحدّ من مخاطر استخدام المخدرات كتكملة للحد من الطلب عليها وانطلاقاً من هذا الالتزام ويقيناً منها بضرورة تضافر جهود كل المعنيين بهذه المشكلة، بادرت وزارة الصحة العامة إلى تشكيل لجنة ضمّت ممثلين عن كل هذه الجهات: البرنامج الوطني لمكافحة الايدز، وزارة الداخلية، مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة، جمعية الأطباء النفسيين والجمعيات الأهلية. ومهمة هذه اللجنة هي البحث في آليات إدخال علاج البدائل إلى لبنان وتنظيمه، في خطوة هي الأولى نحو اعتماد استراتيجيات الحد من مخاطر استخدام المخدرات بالشكل الذي يتناسب مع الحاجة ويتلاءم مع الثقافة والقيم والنظم العلمية. وقد قطعت هذه اللجنة شوطاً كبيراً في عملها حيث أنها وضعت التوجيهات السريرية للعلاج البديل مستفيدة من تجارب الخبراء الموفدين من قبل المكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية، وهي الآن بصدد إعداد آلية التنفيذ لهذا المشروع. كما وان الوزارة عملت على تسجيل الدواء الذي سيستعمل في العلاج البديل وأمنت الكوتا اللازمة له». لكن مطر تلفت لـ«السفير» عند سؤالها عن «التقدم» والمراكز التابعة للوزارة إلى «الطريق الطويلة التي مازال علينا قطعها»، مكررة «هناك الكثير من المشاكل»، علماً أن اليومين الأخيرين للمؤتمر، من المفترض أن يلقيا الضوء أكثر على الوضع في لبنان، ودور المجتمع الأهلي فيه وتجارب دول أخرى».
تعليقات: