شابات يتسامرن في المقهى
شارع الحمراء مجددا في دائرة الاهتمام، اذ لا يمكن لأي حدث او حادث يتعلقان بهذا الشارع العريق الا يتحولا ظاهرة تستحق إلقاء الضوء عليها ومعاينة أسبابها وموجباتها. انطفأ الشارع قبل اعوام قليلة، الامر الذي اثار موجة استياء واسف لما آلت اليه حاله. وعاد الشارع اليوم ليتألق مجدداً، بعدما دبت فيه الحياة والحركة، فغمرت السعادة كثيرين من محبي هذا الشارع وعشاقه الذين شعروا كأنهم استردوا شيئا ثميناً سُلب منهم في غفلة. ما سر هذا الشارع الذي يحزن الناس لوجعه ويغتبطون لفرحه؟
يغيب شارع الحمرا عن ساحة الحياة والصخب، ويدخل في غيبوبة توحي بأن الافاقة منها شبه مستحيلة. ينساه الناس وينكفئون عنه، الا قلة ادمنته الى حد لن تحسن التحرك خارج فضائه. واذا بالشارع يصبح جزءا من روتينها اليومي الذي يُثقل على كاهلها والتي تعد نفسها يوميا بانها ستكسره وتتغلب عليه، لتكتشف انه بات اقوى منها وانها باتت اعجز من مواجهته، حتى في لحظات ضعفه ووهنه.
يموت الشارع. ينعاه الادباء والشعراء والصحافيون. يُشيّعه الاحباء والاصدقاء الذين يستذكرون لاحقا صفاته المميزة في جلسات سمر يعقدونها في مكان آخر. وتنعى هذه الصفحة مع الناعين شارع الحمراء، احد اعرق الشوارع في التاريخ الحديث، في تحقيق تنشره في 2004-09-01 تحت عنوان "تغّيرت "هويته" ومعالمه على صورة الحوادث المتناوبة عليه(...)".
هكذا تنتهي حكاية الشارع العام 2004، حين تُقفل معظم مقاهيه ابوابها، ويعلن عدد من مكتباته افلاسها، وتُعلّق عبارة برسم البيع او الايجار على واجهات بعض محاله ومتاجره العريقة.
والحكاية التي تنتهي لا يمكن ان تبدأ من جديد. هذا هو قانون الحكايات وهذا هو سر متعتها. ولكن شارع الحمراء تجاوز احكام القوانين، وكسر اعراف الحكايات وقوانينها. ربما لأنه ليس مجرد حكاية، بل هو مجتمع وناس يصنعون كل يوم حكايتهم الخاصة ويرمونها في احضان هذا الشارع الذي يُترك وحيدا لمواجهة تبعاتها.
لم يمت الشارع بالمعنى الحرفي للكلمة، بل تغيّرت احواله وتبدّلت اهواؤه، فقد خصوصيته وأصبح شارعا يشبه سائر الشوارع التجارية الاخرى، بعدما طغت عليه محال الملبوسات الشعبية ومطاعم المأكولات السريعة. انحرف عن مساره الثقافي والسياسي والفكري، فكان انحرافا يعادل الموت بالنسبة الى كثيرين.
تُرك الشارع لحاله بعدما ملّ محبوه ويئسوا لشدة ما نعوه وترحموا على ايامه الجميلة الغابرة.
في غمرة هذا الاهمال والنسيان، كان شارع الحمراء يحاول ان يحسّن صورته ويصوب انحرافه، لا ان يستعيد عصره الذهبي او مجده الغابر،لأن تاريخ الشوارع لا يعيد نفسه. فالناس تتغير وكذلك الاحلام والطموحات والحاجات، وسواها مما يصنع عادة حكايات الشوارع ويطبع ميزاتها.
رب ضارة
بدأ الشارع يستعيد شيئا فشيئا حركته التي كانت أصيبت بشلل تام بدءاً من عام 2004. تسللت اولا مقاهي الرصيف ذات النكهة الاميركية او الاوروبية الى الشارع، فاستقطبت الشبان والشابات وطلاب الجامعات والراغبين في الافادة من خدمات الانترنت المجانية اثناء احتساء فنجان كبير من القهوة المخفوقة في اشكالها المتعددة ومذاقاتها المتنوعة. صحيح، لا تشبه مقاهي اليوم نظيراتها في الامس بشيء، فحتى اسم القهوة ورائحتها وطعمها اختلف. في السابق كانت النقاشات الحادة والاختلافات في الرأي والصراخ الفكري تملأ فضاء المكان، في حين يبدو المشهد اليوم فرديا الى اقصى الحدود حيث يتسمر معظم رواد المقاهي امام شاشة الحاسوب غير آبهين بما يجري من حولهم. ولكن المقهى، ايا كان شكله ورائحة قهوته، يشكل عصب الشارع وشريانه الحيوي، وخصوصا انه يؤسس لعلاقة خاصة ما بين الشارع وزواره، فلا يمرون فيه مرور الكرام. ولعل هذا ما يبرر الصدى المدوي الذي احدثه في حينها قفل مقهيي المودكا والويمبي تباعا وما استدعاه الامر من اعتصامات واستنكارات وتوقيع عرائض، وخصوصا ان قفلهما القسري شكل مؤشرا الى تقهقر الشارع وذبوله. لذا،استبشر كثيرون خيرا عندما عادت مقاهي الرصيف تزحف الى شارع الحمراء، وان كانت طبعتها في الألفية الثالثة تختلف نصا وروحا عن طبعة خمسينات القرن الماضي.
مما لا شك فيه ان ثمة عوامل عدة ساهمت في اعادة الروح الى شارع الحمراء، تبقى اهمها الحاجة الى مكان يلعب الدور الذي سبق ان لعبه هذا الشارع قبل ان تٌطفأ انواره. وكان الرهان على ان يحل وسط بيروت بديلا عن شارع الحمراء. ولكن كل المحاولات لسلب هذا الشارع دوره وإلباسها عنوة الى مكان آخر، باءت بالفشل. اذ يستحيل ان تتقمص الشوارع ادوار بعضها البعض. فلكل شارع وظيفة ودور لا يصنعان بالقوة، بل بعفوية يطرزها تراكم الاحداث واليوميات والتفاصيل التي تبث مجتمعة الروح في الشارع وتحدد هويته. ولا يزال اللبنانيون يذكرون الايام الاولى للانطلاقة الفعلية لوسط بيروت، التي تزامنت مع اعمال حفريات في شارع الحمراء في عز موسم السياحة والاصطياف. كان ذلك في تموز 2003. استغرقت الورشة في حينها طوال موسم الصيف ليتحول معها مدخل الشارع الرئيس ترابا احمر، يُذكر بواقع الشارع في مطلع خمسينات القرن الماضي، حين كان التراب الاحمر يغطي أزقته. ومن لون هذا التراب استمد الشارع اسمه، وفق ما يؤكد المؤرخون، علما ان ثمة روايات اخرى تسند اصل الاسم الى آل الحمراء الذين كانوا يقطنون في زقاق "معبور" بيت الحمراء (شارع البافيون حاليا)، ويؤكد آخرون ان اصل الاسم يعود الى قصر الحمراء الذي بناه أحد اساتذة الجامعة الاميركية الاوائل. في كل حال، لم يكن طول الوقت الذي استغرقته اعمال الحفريات في الشارع منطقيا ولا كان امرا بريئا، وربط كثيرون آنذاك ما بين طول امد الورشة "التأهيلية" في الحمراء وبين انطلاقة وسط بيروت، معتبرين انها كانت تندرج في اطار محاولة تهجير رواد الحمراء الدائمين والسياح المنتظرين في اتجاه وسط المدينة الجديد.
علاقة ملتبسة
غريبة حقاً هي العلاقة ما بين وسط المدينة وشارع الحمراء، فكأنهما يناصبان العداء لبعضها البعض منذ تكوينهما الاول. وكأنه لا يمكن لأحدهما أن يزدهر الا في حال إنكسر الآخر. هذا ما يؤشر اليه تاريخ تطور المنطقتين في تألقهما وخفوتهما حد الانكسار. ويبدو اليوم، ان المعادلة نفسها لا تزال تحكم العلاقة ما بين المنطقتين الجارتين اللتين يمكن التنقل بينهما مشيا، وخصوصا ان المسافة الفاصلة لا تتجاوز بضع مئات الامتار. ففي الامس القريب، وتحديدا حين كان وسط بيروت مقفلا بسبب اعتصام قوى المعارضة الذي دام نيفاً وسنة، عادت الحياة تدريجيا الى الحمراء، شأنها شأن العديد من المناطق الاخرى، مثل فردان والجميزة ومونو التي تأثرت في شكل سلبي كبير حين افتتح الوسط التجاري ابوابه رسميا امام محبي السهر. ولكن انتعاش شارع الحمراء على حساب وسط بيروت لم يكن مؤقتا ولا ظرفيا وخصوصا ان الامر لم يقتصرعلى انتقال المواطنين الى الحمراء والسهر في ما توافر فيها من امكنة متاحة لم يكن يتجاوز عددها اصابع اليد، بل تعداها الى ابعد من ذلك. اذ افتتح عدد كبير من المطاعم والمقاهي والحانات والفنادق ابوابه في الحمراء خلال العامين الماضين في ظاهرة لافتة على كل المستويات. بدا الامر اشبه بالانفجار الاقتصادي. وكانت المطاعم والمقاهي والفنادق تتسابق على حجز حصتها. ولا مبالغة في القول ان كل مساء كان هناك مطعم جديد او مقهى او ناد ليلي يقيم حفل افتتاحه. واللافت ايضاً ان هذه الظاهرة لم تقتصرعلى الشارع الرئيس في الحمراء، بل توسعت وتشعبت لتشمل الشوارع الداخلية ومتفرعاتها التي عادت تزدحم ليلا، بعدما كادت تتحول اشبه بمدينة مهجورة مع غياب الشمس. ومن لم يزر هذا الشارع خلال الاشهر الماضية، قد لا يعرفه اذا زاره اليوم. ولا عجب في ذلك، اذ ان رواد الحمراء الذين لم ينقطعوا يوما عن التسكع في ازقتها، يعجزون عن اخفاء دهشتهم ازاء التحول الكبير الذي طرأ عليها. تراهم يشيرون بالبنان، وعيونهم معلقة في الهواء يتفحصون اسم المطعم او المقهى الجديد الذين فوجئوا بوجوده في هذا المكان. وتشير المعلومات الى ان هناك 35 رخصة مطعم وناد ليلي تنتظر موافقة وزارة السياحة عليها، في حين ان عدد الذين حصلوا على رخص خلال العامين الماضيين تجاوزت هذا الرقم. وتكفي جولة سريعة في ارجاء الحمراء ونواحيها للتأكد من الفورة التي يشهدها هذا الشارع. ومن نافل القول انه حين يزداد الطلب ترتفع الاسعار. وهذه هي حال العقار في الحمراء اليوم، اذ ارتفع سعر متر الايجار ضعفي ما كان عليه العام الماضي. ويبدأ ايجار المتر المربع بنحو مئتي دولار لتزداد القيمة ربطا بموقع العقار ووظيفته المستقبلية.
مكان يتسع للجميع
عشرات المطابخ تنتظر من يتذوق اطباقها: الشرقي والفرنسي والايطالي والصيني والياباني الذي تحول موضة العصر. واستطرادا، فان تعلق اللبنانيين بطبق "السوشي" الذي اكتشفوه اخيرا، علما انه موجود منذ ان وجدت اليابان، غريب ومثير للضحك احيانا. اذ ان من لا يأكل الـ"سوشي" مرة في الاسبوع على الاقل، هو متخلف عن مواكبة العصر، او بالاحرى ليس "إن" وفق الوصف الذي يستخدمه أبناء "آخر زمان". ولعل هذا ما يبرر انتشار ظاهرة المطاعم اليابانية في شارع الحمراء وخارجه الى حد انها باتت تنافس مطاعم الفلافل!
في الحمراء اليوم، تجد مطعم الـ "سوشي" ومطعم الفلافل وفرن المناقيش، بعدما اصبح هذا الشارع فضاء يلبي اذواق كل الطبقات الاجتماعية.
لا يعني هذا الكلام ان المطاعم وحدها اعادت الروح الى هذا الشارع، والا بدا اشبه بمطبخ كبير بصحون كثيرة. ولكن الواقع اعمق من ذلك، اذ ان الشارع بمسارحه (مسرحي المدينة وبابل) التي عادت اليه بعد غياب، ودور السينما وان لا يزال حضورها متواضعا وخجولا، ومكتباته التي عاندت كل الظروف لتبقى، ودورالنشرالتي صارعت لتستمر، وصحفه ووكالاته الاجنبية والمحلية، كلها عوامل تضافرت لتعيد تكوين الشارع بصورة جديدة وخاصة. اما ناسه، فهم كل الناس ومن كل الفئات والملل. فعلى أرصفته تصادف رجل الاعمال يتمختر ببزته الانيقة التي دفع ثمنها اضعاف الحد الادنى للاجور، وشبان اسدلوا شعورهم الطويلة على اكتافهم وانتعلوا الممشاة، وسيدات يرطن بلغات اجنبية وآخريات يسخرن منهن، وشابات ارتدين ما قلّ وخفّ من الثياب وآخريات مُنقّبات يخفين حتى عيونهن. انه باختصار، مكان لكل الناس والاجناس والطبقات حيث يجد كل شخص ملاذه، فلا يشعر بانه سيد المكان او يخال انه دخيل عليه.
تعليقات: