وديع الصافي: صاحب الحنجرة الذهبيّة
في بيته في الحازمية، يستقبلك وديع الصافي متلفّعاً بعباءته العربية، وبوجه شاب في الثامنة والثمانين ينضح بشاشة وحبوراً. لا يخلو حديث الرجل من الشعر والنغمة. يحدثك قليلاً، ثمّ يتناول عوده المصنوع من الخشب الإسباني ليعزف أغنية، أو يستطرد مستشهداً ببيت شعر من هنا وهناك. اليوم، يمضي وقته بين مطالعة كتب الشعر وتسجيل جديده الغنائي في استديو ابنه جورج... ويستعدّ حالياً مع عائلته لإصدار ألبوم جديد، من دون أن ينقطع عن تسجيل الإنشاد الديني في إذاعة «تيلي لوميير».
ابن عائلة فرنسيس الذي ولد في ليلة مثلجة من ليالي نيحا الشوفية عام 1921، التحم هواه بالصوت والموسيقى منذ الصغر. «جدي لأبي وجدي لأمي والأخوال كانت أصواتهم رائعة، وأمي كان صوتها سوبرانو. جدّي أبو بشارة كان قوّالاً وزجّالاً ويقرض الشعر. كنت أنا النتيجة إذ أخذت كلّ تلك الأصوات». اختزن مما سمعه من جدّيه شعراً ومواويل زادت معرفته بالموروث الشعبي، وراح يطوّع مخارج الصوت واللحن في جوقة الكنيسة التي كان أحد منشديها. «قبل الغناء، كنت أرتّل في الكنائس بصوتي. كنت ولداً صغيراً وأخدم الخوري، وعرفوا صوتي في الضيعة من القداديس. وبقيت حتى اليوم، قريباً من الكنيسة». في الوقت عينه، عايش صعود محمد عبد الوهاب وأم كلثوم، وكان متأثِّراً بسيد درويش وأسمهان.
بعدما غادرت عائلته نيحا إلى بيروت لتلحق بالوالد الذي كان خيالاً في الدرك، ترك وديع الصافي وشقيقه توفيق المدرسة الكاثوليكيّة للمساعدة في إعالة الأسرة. لكنَّ الشاب الموهوب بالفطرة ظلَّ يتدرّب على يدي خاله نمر العجيل على مبادئ العود بعد الربابة والكمان، وعلى يدي معلِّمه ألكسي اللادقاني. «أخي توفيق الذي يكبرني بسنتين، قال لي مرة: اذهب لتفحص صوتك. قلت: يا أخي أنا لا أقدر، الفن كلُّه عصابات. قال: أريدك أن «تبطحهم» جميعهم. سمعت كلامه ورحت، وكان ما كان...».
تقدم إلى مسابقة الأصوات في «راديو الشرق» وحلّ الأول بين 42 متبارياً بعدما أنشد «رتلي لحن هواك/ لشفائي وشفاك/ فالهوى جنات خلد/ وبها أنت ملاك»؛ من تلحينه وكلمات هادي زهير. يخبرنا: «قال لي ميشال خياط مرةً، دع كنية فرنسيس جانباً، اتركها في البيت، فغضبت منه. قال لي: لا تجنّ، تبنَّ كنية صافي لأنَّه ليس هناك أصفى من صوتك. فأقنعني وقبلت باسمي الجديد منذ ذلك الحين». ومرةً، حدث أن تأخّر مؤذن الإذاعة عن موعد الأذان، فناب عنه وديع الصافي بصوته الحنون العذب، لتنهال بعدها الاتصالات على الإذاعة لمعرفة من يكون إمامها الجديد.
في حديثه، يردِّد الصافي اسم زكي ناصيف كثيراً، «المرحوم زكي ناصيف كان أخي بالروح والفن والغناء، وكان عملاقاً ومتواضعاً. كان توأمي. كان يقدّرني وأقدّره ويفهم أحدنا الآخر». بين تجارب متعثّرة في مصر التي حاول أن يطلّ من شاشتها مع نور الهدى، وبيروت التي لم تستعد بعد لتقبّل النمط الجديد من الغناء التراثي الغني بالمفردات الريفية، قرر وديع الصافي خوض تجربة الغناء في الغربة. يمّم شطر البرازيل في البداية، ثمّ غنّى في أماكن أخرى في أميركا اللاتينية. لم يترك مكاناً في العالم إلا زاره... «ما عدا الصين واليابان، فماذا سأفعل هناك؟» يقول. ربما اختار وديع الصافي الغناء في الغربة لأنه قوبل في بداياته ببعض الجفاء، مع أن النقاد توقّفوا طويلاً عند روعة هذا الصوت «الغريب» العميق والسهل في آن. لكنّه يقول في المقابل «أساء بعضهم إليّ، وتطلّب الأمر وقتاً حتى تفهموا نمطي وأسلوبي. كانوا يسألون: من هذا الذي يغنّي للعنزة والناطور؟». لكنّ أهل بيروت عادوا والتفتوا إلى صاحب الصوت العذب، بعد أغنية «عاللومة اللومة» (من ألحانه، وكان قد أطلقها عبر «إذاعة دمشق» عام 1952، بعدما رفض مدير «إذاعة بيروت» حليم الرومي بثّها، بذريعة أن كلماتها متدنّية).
في مصر، تعرَّف إلى محمد عبد الوهاب، وعندما سمعه هذا الأخير يغنِّي أوائل الخمسينيات أغنية «ولو». قال: «من غير المعقول أن يملك أحد صوتاً مماثلاً». وأيام الوحدة، كان الرئيس جمال عبد الناصر يستقلّ طائرة خاصة من القاهرة إلى دمشق ليحضر حفلات وديع الصافي. وفي «مهرجانات بعلبك»، شارك وديع الرحابنة في «مواسم العزّ» وغيرها. «كنا نريد أن نقدم أخلاقاً وعلماً وثقافة وطرباً وفناً وموسيقى وسلاماً، فنحن لا نريد أن نحارب أحداً ولا نريد أن يحاربنا أحد».
لم يحتمل وديع الصافي الحرب الأهلية في لبنان، فغادر إلى مصر ثم بريطانيا حتى استقرّ به الأمر في باريس عام 1978 وبقي فيها حتى 1990. «اللبنانيون الذين هربوا من لبنان إلى هناك، وجدوا من خلالي فشّة خلقهم...».
كرّمه أكثر من بلد ومؤسسة وجمعية، وحمل أكثر من وسام استحقاق في لبنان، لكنّه يقول «مع احترامي للشعب اللبناني ولجميع الشعوب العربيّة، إلا أن الشعب السوري يحبّني حتى القداسة، ومن ثم الشعب المصري الذي منحني الجنسية المصرية بعدما قدّمت لهم النشيد القومي «عظيمة يا مصر» عام 1995». صاحب الحنجرة الذهبيّة يرى أن أغنيته «لبنان يا قطعة سما» صارت بمثابة النشيد الوطني اللبناني الثاني، وكذلك أغنية «الله معك يا بيت صامد بالجنوب» (1967). نفهم من وديع أنّه عاتب على المسؤولين الذين لا يقدّرون الفنّ، ولا يعرفون قيمة الفنّان.
اليوم، يمضي وديع الصافي جلّ وقته في بيته. وعندما يخرج، فبرفقة ابنيه جورج وأنطوان. هذان الأخيران باتا يشاركانه، منذ سنوات، في معظم إطلالاته الفنية. «مرّت عليّ أمراض، تأخر بسببها صوتي، لكن سرعان ما كان يعود إلى أصالته». غنّى نحو 6000 أغنية، وسجّل نصف هذا العدد تقريباً. يقول «صار الفنّ مظاهر وعرض أزياء. ما فعلناه نحن، سيبقى لمئات السنين. الأصالة سوف تعود، لكن ليس في السنوات المئة القادمة. ربما ستعود مع جيل آخر».
5 تواريخ
1921
الولادة في نيحا ـــــ الشوف (لبنان)
1938
سُميّ مطرباً بعدما فاز على 42 متبارياً في إذاعة بيروت «راديو الشرق»
1959
شارك في مهرجان «العرس في القرية» في بعلبك مع الرحابنة
1978
غادر لبنان إلى باريس وبقي فيها حتّى 1999
2009
سجل ألبوم «راجع من جديد» ويتضمن ثماني أغنيات
تعليقات: