ابرهيم باز وميلتون حاطوم
ثلاث قــصــص عن الــنــجـــاح الــلــبــنـــانــي فــي بـــلاد الأمـــــازون
مـيــلـتـــون حــــاطــوم أحـد أهـم الـكــتّـــاب والـروائــيــيــن الـبــرازيــلــيــيـــن
أعــاد كـتـــابــة روايــة "شــقــيــقـــان" 23 مــرّة لأنّ "الـنــوعــيــة تـهــمّــنـي لا الـكــمّــيــة"
في الوقت الذي تعصف في لبنان أزمة سياسية حادة تتعلق بهويته، وخياراته الوطنية، وتهدّد مستقبله ومستقبل أبنائه الذين يتهافتون على الهجرة... تصلنا من بلاد الاغتراب أخبار مفرحة عن نجاحات ابنائه ومغتربيه... ففي الشهر الماضي تحديداً كانت مدينة مناوس، عاصمة ولاية الأمازون البرازيلية، التي عشت فيها ردحاً من الزمن وتركت أهلاً وأصدقاء وذكريات لا تنسى، مسرحاً لأخبار مفرحة عن نجاحات بعض مبدعينا وحزينة لغياب وجه من وجوهها الكبار الذين حملوا حب لبنان في قلوبهم وجسّدوا أحلى صورة في بلاد الاغتراب... فكان لا بدّ لي من كتابة هذه الاخبار كونها تشكّل ورقة من اوراق تاريخ الاغتراب الى هذه البلاد الحبيبة.
كرّمت الاكاديمية الامازونية للآداب الكاتب والروائي البرازيلي اللبناني الاصل ميلتون حاطوم، بمنحه ميدالية Péricles Moraes تقديراً لأعماله المشرقة، والنجاحات التي حققها في كتاباته في البرازيل والعالم. وفي الفترة نفسها كانت البروفسورة في جامعة ساو باولو ماريا دو كريستو تنشر وتوقع كتابها Arquitetura Da Memória، الذي يتناول أعمال الروائي ميلتون حاطوم واسلوبه في الكتابة. نظمت الحفلتان في أواخر شهر أيار من سنة 2007 في مناوس عاصمة ولاية الأمازون.
ميلتون حاطوم هو أحد أهم الكتّاب والروائيين البرازيليين، وقد استحقت رواياته الثلاث: "حكاية شرق ما" (1989)، و"شقيقان" (2000)، و"رماد الشمال" (2005)، "جائزة جابوتي" التي تعتبر أهم جائزة أدبية في البرازيل، بالاضافة الى جوائز أخرى... وقلّة الذين يعلمون أن لحاطوم كتاب شعر وضعه في العام 1978 مع صور رائعة لمنطقة الأمازون، عنوانه "نهر بين الانقاض".
اتخذ ميلتون حاطوم من مناوس مسرحاً لرواياته الثلاث، ومن المهاجرين اللبنانيين شخصيات لروايتيه الأوليين، أما الثالثة فأبطالها هم من البرازيليين، وكل رواياته عن مآسٍ عائلية... تُرجمت أعماله الى تسع لغات ونشرت في فرنسا والبرتغال واسبانيا وانكلترا والمانيا وايطاليا والولايات المتحدة الاميركية وهولندا واليونان، أما في لبنان فقد ترجم كتابه الثاني "شقيقان"، وصدر عن "دار الفارابي" في العام 2002. بالاضافة الى ذلك نشر ميلتون حاطوم روايات كثيرة في عدد من المجلات والصحف البرازيلية وملحقاتها الثقافية، كذلك نشر بعضها خارج البرازيل مثل مجلات Grand Street وEurope، وله اليوم زاوية شهرية في مجلة Entre Livros الادبية. درّس الآداب الفرنسية والبرازيلية، وحاضر فيها متنقلاً من جامعة الأمازون الفيديرالية الى جامعة بركلي في الولايات المتحدة الاميركية، واليوم في جامعة ساو باولو. عمل كذلك في مجال الترجمة، كما شارك وحلّ ضيفاً على معارض كتب ومؤتمرات عالمية عن الرواية البرازيلية في فرنسا والمانيا والمكسيك...
يعرف ميلتون حاطوم بدقته وحرصه على كل التفاصيل في أعماله، ولعل هذا السبب جعله قليل الاصدارات، ويقول في هذا الخصوص: "لا تهمني الكمية بل النوعية... انني متأكد بأن القارئ يعرف الفارق بين العمل الجيد والعمل المتسرّع" ويضيف مازحاً: "قد أكون الكاتب الوحيد الذي يملك أكبر مجموعة من الكتب الجاهزة والتي لم تنشر... على الاقل ثلاثة كاملة منها: "نهر بين عالمين" من 600 صفحة، وهو رواية تمتزج أحداثها بين اسطورة الهجرة في جوانبها التاريخية والسياسية وتجربتي الباريسية... اني أفضل أن أنشر الاعمال التي تجسّد مشاعري الداخلية القوية جداً".
ولا بد من الاشارة هنا الى أن حاطوم يكتب نصوصه مرات عدة، وقد أعاد كتابة نصوص "شقيقان" ثلاثاً وعشرين مرة ممّا دفع بتلميذته Maria De Cristo الى اتخاذ هذا الجانب موضوعاً لأطروحة دكتوراه في العام 2005 مستندة على وثائق الكتاب المذكور.
ميلتون حاطوم هو إبن المهاجر اللبناني حسن ابرهيم حاطوم الذي هاجر والده في العام 1939 الى ولاية الأمازون البرازيلية، التي كان قد زارها والده في بداية القرن الماضي وبقي فيها لسنوات عدة عاد على أثرها الى لبنان. تزوج حسن نهى عاصي في مناوس، وولد فيها ابنهما ميلتون في العام 1952، حيث تلقى دروسه الابتدائية ثم انتقل الى برازيليا حيث اكمل دروسه الثانوية، نال بعدها شهادة الهندسة المعمارية في جامعة ساو باولو. وفي الوقت نفسه كان يقوم بترجمة بعض نتاج الشعر الفرنسي الى البرتغالية.
دفع به ميله الى الأدب للانتقال الى باريس، حيث حاز إجازة في اللغة الفرنسية وآدابها، خوّلته الدخول الى جامعة الأمازون الفيديرالية كأستاذ محاضر في هذه المادة. ومع اصدار روايته في العام 1989 "حكاية شرق ما" وحصولها على جائزة جابوتي انفتحت أمامه ابواب جديدة، فحقق النجاحات التي تحدثنا عنها. ومن المؤكد أن الفضل في ذلك لا يعود فقط الى الجائزة المذكورة، انما لثقافة الكاتب وأسلوبه المميز والابداعي الذي ميّزه عن عدد من كتاب عصره، وبحثه الدؤوب نحو الأفضل...
تعرفت على ميلتون حاطوم في العام 1994 خلال افتتاح معرض الفنان التشكيلي سيرجيو كاردوسو في الـCook Club في مدينة مناوس، وقد بادرتني صديقته ريتا آنذاك عند وصولهما، بقولها: "هذا ميلتون الذي تسألني دائماً عنه..." وبالواقع كنت قد تعرفت عليها قبل ذلك بفترة بعدما وصلتني رسالة من صديق فرنسي يخبرني فيها انه اشترى كتاب: Recit D'un Certain Orient من إحدى المكتبات في قرية فرنسية نائية، لكاتب أمازوني من أصل لبناني هو ميلتون حاطوم. ولما سألت ابنة عمي اديلايد عنه اجابتني: "ألا تعرفه إنه حفيد صديقتك اميلي عاصي...". واكتشفت أن ريتا، التي تشارك أحد اصدقائي في محترفه الفني لتصنيع المنتوجات الورقية هي رفيقة درب حاطوم، فربطتنا صداقة عرفت من خلالها الكثير عنه قبل أن التقيه شخصياً... وجلسنا أنا وميلتون طوال السهرة الى طاولة جانبية في المعرض نتحادث فيها عن لبنان وقصصه، كنت أنا أشرب البيرة خلالها وهو يأكل الموز المقلي. كان يسألني عن الاسماء القديمة والتقليدية في بلادنا ويدوّنها، وعن بعض القصص والعادات الشعبية وسط مزاح الاصدقاء الذين كانوا يحوطوننا: "ما بالكما كالعاشق والمعشوق لا تفارقان بعضكما...". كان شغوفاً بتدوين هذه المعلومات لاستعمالها لاحقاً في كتاباته...
وتعددت بعدها اللقاءات بيننا، قمت خلالها بتسجيل وتدوين مقابلات عدة معه عن الاغتراب اللبناني الى بلاد الأمازون، وعن اعماله الادبية، منها: مقابلة أجريتها معه ومع جمال فضول عن الوجود اللبناني في المنطقة المذكورة، كنت قد اقترحتها على معدّ برنامج En Cena المدعو إيناسيو أوليفيرا على تلفزيون T.V Cultura لمناسبة الاحتفال بعيد سيدة لبنان في العام 1997، وسجّل في الوقت نفسه لهذا البرنامج مقابلة مطوّلة عن كتابه الجديد "عالم بين نهرين" الذي لم ينشره كما ذكرنا سابقاً. وبعدها طلب مني ميلتون مرافقته لتسجيل حديث مع جمال فضول التي وصلت الى مناوس مع جدّته اميلي حوّاط في أوائل القرن الماضي لاستعمال المعلومات والقصص في كتاباته... وضحك ميلتون كثيراً عندما أخبرته جمال عن الحساسية التي أحدثها زواج اميلي المارونية بالشيعي محمد عاصي وألحّ عليها لتخبره تفاصيل هذه القصص والوشوشات التي كانت تحدث في أوساط الجالية اللبنانية آنذاك...
ولعل أحلى وأجمل الجلسات التي حصلت بيننا هي في العام 1995 في المكتب الجانبي داخل منزل عمي ابرهيم في مناوس، والذي دام ساعات عدة حرصت خلالها على تقديم شراب الورد اللبناني له والقهوة العربية، وكان هو من وقت الى آخر يلف سيجارة من التبغ الهولندي الأشقر بتأنِ وهدوء ويحدثني عن زيارته الوحيدة الى ربوع لبنان في العام 1992 برفقة والده الذي كان يتلهّف الى القيام بها بعد ثلاثة وخمسين عاماً أمضاها في المهجر... "لقد كانت هذه الزيارة ولادة جديدة لأبي...". وقد حدثني عن اللقاء الحار الذي لقيه من اقربائه وأهله في برج البراجنة، وعن زيارته لعدد من مناطق لبنان للتعرف على تاريخها ومعالمها... "فلبنان من أعرق الدول في التاريخ" وكيف انه يعتبر نفسه ابن هذا الجبل الأصيل وأحد المطالبين بحقوق شعبه وعن تعلّقه، بكل القضايا العربية ودفاعه عنها... وأخبرني عن اطلاعه على الادب العربي واللبناني من خلال قراءاته للاعمال المترجمة لكتّاب وشعراء أمثال: أدونيس، قيصر عفيف، حنان الشيخ، الياس الخوري، منصور عجمي، جوزف أبي ضاهر، أمين معلوف، محمود درويش ونجيب محفوظ وغيرهم. وانه يتمنى أن يُترجم كتابه "حكاية شرق ما" الى العربية، "لأن ذلك لا يفرحني فقط بل يُسعد أبي الذي يودّ أن تقرأ كتاباتي في ارض الجدود"... وغاب الوالد في العام 1998 قبل أن يرى ترجمة لثاني كتب ميلتون، "شقيقان" في وطنه الأم... وأخبرني كيف أصرّ على التجوّل في أرجاء بيروت المدمّرة آنذاك "أردت أن أزور مدينتي وأدوس أرضها رغم الخراب فيها لأشمّ من باطنها رائحة التاريخ المنبعث منها...". وعندما سألته كيف كان شعوره خلال هذه الجولة رأيت في عيونه التأثر البالغ، فكان ينتقي الكلمات انتقاء بين مجّة من سيكارته ورشفة قهوة، وأحسست بأنه لا يريد اعطائي انطباعاً سيّئاً لها فختمها قائلاً: "لقد كانت بيروت لؤلؤة الشرق، ومن المؤكد أنها ستنبعث من جديد مثل طائر الفينيق كما عوّدتنا عبر تاريخها...".
وفي العام 1997، توفيت اميلي حواط عاصي، جدة ميلتون حاطوم وبطلة روايته الاولى عن عمر يناهز مئة عام. وبعدما أعلمتني اباراسيدا صفير بالخبر، توجهنا برفقة زوجها فكتور الى الصالون حيث سجي الجثمان ووقفنا لالقاء النظرة الاخيرة عليها، فانحنت أباراسيدا فوق جثمانها باكية تلامس الزجاج فوق وجهها بعطف وحنان. وعندما طلبت منها مرافقتي للجلوس طلبت مني تركها بجانبها، فهي رفيقة عمرها ورفيقة غربتها، وما ادراكم ما هي رفقة الغربة...
وبالفعل لم تفارق جثمانها حتى ووريَ في الثرى في اليوم التالي... و بعد وقت قصير وصل ميلتون حاطوم فقمت بتعزيته وجلس بقربي قائلاً: "لقد رحلت جدتي الحنون يا جاك... ورحل معها دهر من الذكريات والقصص الحلوة... لقد كانت تطلب مني دائماً انجاب ولد ليخلدني وكنت أجيبها مازحاً أن انتاجي الادبي هو الذي سيحفظ ذكري الى الابد، فتغضب كثيراً مني..." وبالواقع في العام 2005 رزق ميلتون بصبي فحقق بذلك أمنية جدته، واعماله الادبية تحقق اليوم نجاحات متواصلة وتنشر في البرازيل والعالم لتخلّد اسمه كواحد من أكبر الادباء البرازيليين من أصل لبناني، مع التذكير باسمين كبيرين آخرين مثله هما رضوان نصار وانطونيو عويس...
غلاف كتاب \"شقيقان\"
تعليقات: