قرية صفد البطيخ صارت مدينة... للجيران

أبنية جديدة تولد في صفدالبطيخ
أبنية جديدة تولد في صفدالبطيخ


لم تعد صفد البطيخ تشبه ما كانت عليه قبل التحرير. كانت قرية صغيرة هادئة، بعيدة عن صخب المدن، هجرها أبناؤها بسبب الاحتلال. لكن، بعد أعوام من التحرير، تغيرت ملامح القرية تماماً. أصبحت مدينة غزتها المحال التجاريّة والمباني الحديثة... والجيران من القرى والبلدات المجاورة الذين وجدوا فيها ملاذهم ولقمة عيشهم

صفد البطيخ ــ

لم تكن صفد البطيخ الجنوبية، قبل التحرير عام 2000، سوى قرية صغيرة يسمع اسمها في نشرات الأخبار كموقع لعملية أو قصف إسرائيلي. في حينها، كانت تلك القرية النائية مكتفية بما بقي فيها من السكان، بعدما هاجر الكثيرون منها بسبب الاحتلال. لكن، حتى هذا العدد القليل، وخصوصاً من المسيحيين (الطائفة الكاثوليكية 35%)، عمدوا مع الوقت إلى بيع أراضيهم وهاجروا. لم يبق في القرية، أيامها، سوى مجموعة عائلات، غالبيتها من آل زين الدين (65%) وبعض العائلات المسيحية. كان ذلك قبل أن يزول الاحتلال، لكن ما إن رحل الإسرائيليون، حتى بدأت ملامح القرية بالتغيّر، لا بل إن هوية ساكنيها هي الأخرى تغيرت. لم يعد أبناؤها الذين هاجروا، فيما لم يتجاوز عدد المقيمين فيها من السكان «الأصليين» 1700.

حلّ مكان هؤلاء أشخاص جدد، كانوا قد اشتروا أراضيهم في وقت سابق. وتغيّرت القرية كثيراً. أولاً، لم تعد قرية، أصبحت مدينة... ولكن لجيرانها. حتّى البيوت الصغيرة العتيقة اندثرت وحلّت مكانها مبان حديثة، واليوم في صفد البطيخ أكثر من 23 مبنى، يضمّ كل منها نحو 10 شقق سكنية و10 محال تجارية يملك غالبيتها الوافدون الجدد، فيما أبناء القرية الأصلية ينشغلون بأعمال الزراعة والوظائف العامة. واللافت في تلك «المدينة» أن غالبية هذه المباني هي ملك لتاجر عقارات واحد، كان قد اشتراها في «عزّ الاحتلال بتراب المصاري».

مدينة تجارية جديدة إذا نبتت في صفد البطيخ، ولو على عجل. تضمّ مبانيها عشرات المحال التجارية على مسافة 2 كلم فقط. وليس في داخل البلدة فحسب، فعلى طول الطريق العامة الممتدّة من أطراف بلدة برعشيت إلى أطراف بلدة تبنين، تغيرت الملامح أيضاً. محال تجاريّة «بالجملة»، يملك غالبيتها السكان الجدد. ولا يبدو أن أبناء القرية الأصليين راضون كثيراً عن هذا «التطور» الخارج عن إرادتهم. فهم يعتبرون أنفسهم «الخاسر الأكبر» من التحوّل الذي طرأ على قريتهم لأنّ 90% من التجّار وسكّان الشقق الجديدة هم من خارج البلدة (دير الزهراني والشهابية وعيترون وبيت ياحون). ما يعني «أن الفائدة الاقتصادية لا تعود علينا»، يقول أحد أبناء صفد، سامر زين الدين. يضيف متحسّراً: «لقد تغيّرت معالم البلدة الطبيعية، وسيطر عليها طابع المدينة، من دون أن يرافق ذلك توسيع شبكات الماء والصرف الصحّي والكهرباء». وما يؤلم زين الدين أكثر هو «أن الكثيرين منا انتقلوا للعيش على أطراف البلدة هرباً من زحمة البلدة القديمة، لكنهم اليوم نادمون على ذلك لأن المحال التجارية والشقق السكنية أحدثت زحمة أكبر حيث ظنوا أنهم سيكونون في منأى عن كل هذا الضجيج».

ما الذي يشجّع سكان القرى المجاورة على الإقامة في صفد البطيخ؟ الجواب واحد: تدني أسعار الشقق السكنية مقارنة بأسعار الشقق في المدن. ثمة سبب آخر لهذا الإقبال هو ارتفاع كلفة البناء، وخصوصاً بالنسبة إلى الذين لا يملكون أراضي، لذلك يلجأون إلى الشقق الجاهزة. ويعطي ابن بلدة برعشيت، حسين شهاب، مثالاً على ذلك: «سعر الشقة السكنية الآن نحو 40 ألف دولار أميركي مع إمكانية تقسيطها أو استئجارها بمئتي دولار شهرياً، بينما كلفة شراء الأرض وبناء منزل تزيد على 60 ألف دولار». هذه المعادلة دفعت بشهاب لترك منزله المستأجر في بيروت والشراء في صفد البطيخ. ليس هذا فحسب، فقد استأجر الأخير محلاً بـ100 دولار شهرياً.

دفعت الحماسة بعض التجار إلى مطالبة المجلس البلدي بتغيير اسم البلدة

وعن هذا الانتقال، يقول شهاب: «هنا المعيشة أفضل من المعيشة المرتفعة في بيروت، على الأقل يمكنني بمئة دولار شهرياً ورأسمال صغير لا يزيد عن ألفي دولار أميركي تأمين حياة مستورة لعائلتي».

يعوّل شهاب كثيراً على التطوّر في صفد البطيخ، على عكس السكان الأصليين، فهو يرى أن «كثرة المحال والشقق السكنية تزيد من الحركة الاقتصادية، وخصوصاً أن صفد البطيخ تقع في الوسط بين عدد من القرى والبلدات». أما ما يسعد صاحب المحل الجديد فهو «كثرة العمّال السوريين المقيمين في البلدة الذين يضطرّون إلى شراء كل ما يحتاجون إليه من المحال هنا». وقد دفعت هذه الحماسة للحركة الاقتصادية بعض التجار إلى مطالبة المجلس البلدي بتغيير اسم البلدة، «إلا أن المجلس لم يتجاوب معهم»، يشير زين الدين. رغم هذا التطور والدعوة لإيجاد اسم يلائمه، إلا أن المباني الجديدة تعاني الكثير من المشاكل. ولعلّ أهمها مشكلة غياب آبار المياه فيها، ما يدفع ساكنيها إلى الاعتماد على حصة البلدة من مياه الليطاني من جهة وشراء مياه الشفة من جهة أخرى. وفي هذا الإطار، تقول المقيمة في إحدى الشقق، أم ربيع فضل الله: «أضطرّ إلى شراء صهريجين من المياه أسبوعياً بخمسين ألف ليرة». لا تقتصر المشاكل على غياب المياه، إذ تفتقد هذه المباني أيضاً لمساحات أمامها قد يستطيع الأطفال على الأقل اللهو فيها بعيداً عن الطرق. لذلك تضطر الأمهات في أحيان كثيرة إلى إبقاء الأطفال في الشقق خوفاً عليهم من السيارات العابرة. كل ذلك، لم يمنع الأهالي الجدد من رؤية الجوانب الحسنة في مدينتهم الجديدة، إذ يجمع هؤلاء على أنّ المحال التجارية أمّنت للأهالي سوقاً لشراء حاجياتهم وزادت من أسعار العقارات وأمّنت فرص عمل، وخصوصاً فتيات البلدة اللواتي يعملن في المحال التجارية الجديدة، ولو برواتب ضئيلة. ربما لا تهم قيمة الراتب، فما يهم الآن هو «العيشة ولو على قدّ الحال، وقد وجدناها في صفد»، تختم أم ربيع.

تعليقات: