قطاف الزيتون موسم الخير والبركة والمونة في لبنان
يذكّر بالخابية والزير وزيت الجرن..
لبنان:
يحتل موسم قطاف الزيتون وعصر الزيت في ذاكرة اللبنانيين مساحة لا يطمسها مرور الأيام، وإن كانت الآلة والآلية قد حجبتا بعض الصور التراثية التي طالما أضفت على الموسم طابع الخير والبركة.
وإذا عدنا خمسين عاماً إلى الوراء لوجدنا موسم الزيتون يختلف عما هو اليوم، سواء على مستوى القطاف أو على مستوى نقله من الحقل إلى البيت، وبعدها إلى المعصرة، أي معصرة الزيت، ومن ثم إلى الخوابي (للزيتون) والزير للزيت. في أوائل «التشارين» (أكتوبر ونوفمبر) كان المزارعون ينكبون على هزِّ أشجار الزيتون هزِّاً أولياً لجمع الحبوب اليابسة أو «المضروبة»، أي المتسوسة، ليستخدم زيتها في صناعة الصابون البلدي، وليس للأكل على الاطلاق، لأنه بالغ الحدة وسيئ المذاق. وبعد عدد من «الشتوات» (الأمطار) تنصرف العائلة بكل أفرادها إلى جمع الموسم، حيث كانت تستعمل «المفاريط» (المفراط هو قضيب طويل وقاس) لاسقاط الزيتون عن الأغصان العالية و«مرشقة» للزيتون على الأغصان القريبة من الأرض، في حين تنصرف النساء والصغار والعاملات إلى جمع الزيتون عن الأرض ووضعه في أكياس من الجنفيص. وكانت معظم حقول الزيتون في الماضي لا تصل إليها السيارات، فكانت الأكياس إما تنقل على الأكتاف والرؤوس، أو تنقل على الحمير في أحسن الأحوال، إما بالاستعارة أو بالأجرة، وغالباً ما كان موسم القطاف يشهد تجوال بائعي العنب والفواكه بين الحقول، حيث تتم المقايضات بين الزيتون المقطوف والعنب أو أي فاكهة أخرى.
وكان المزارعون يحرصون على نشر الزيتون على مساحة واسعة، لأن تكديس بعضه فوق بعض يسرِّع في تلفه، كما يحرصون على تنقيته من الورق وبعض الحبوب اليابسة أو التالفة.
وقبل أن تنقل كميات الزيتون إلى المعصرة، كانت العائلة تهتم بـ«مونة» الزيتون، فتختار الحبات السليمة والناضجة وتنصرف إلى رصها بواسطة حجر بحري وبطريقة يدوية ثم توضع في خوابٍ (آنية فخارية مستديرة وكبيرة) إذا كانت الكميات كبيرة، أو في فخاريات صغيرة إذا كانت الكمية محدودة، ثم يضاف إليها الماء والملح وورق الغار وشرائح الليمون الحامض، ومنهم من يضيف إليه الصعتر البري، أو قضبان «الشومار».
وفيما يكون قسم من العائلة منصرفاً إلى تكوين «مونة» الزيتون يكون القسم الآخر منصرفاً إلى نقل الكميات المكدسة في المنزل، وغير المعرضة لأشعة الشمس، إلى المعصرة، التي كانت تدار يدوياً. ويبدأ مشوار العصر مع هرس الزيتون بواسطة حجر ضخم ومنحوت باليد، ومربوط بحصان أو «كديش» (ابن الحصان والحمار) يتولى إدارة الصخر المستدير في كل الاتجاهات. وعندها ينقل الزيتون المهروس إلى «خواص» (وهي كناية عن بسط متوسطة الحجم ومصنوعة من شعر الماعز) تلف الواحدة كالفطيرة، ثم تكدس في المكبس الفولاذي الضخم الذي يتم تشغيله يدوياً بحيث يسقط من أعلاه لولب حديدي ضخم بحجم الخواص، ثم يضغط على هذه، فيهرع الزيت إلى جرن صخري محفور باليد أيضاً، الذي لا يلبث البعض أن يأتي بخبز الصاج الساخن وغمس صفحته بزيت الجرن، ثم لفه وتناوله بشهية لا توصف، والبعض الآخر كان يأتي بـ«الطلمية» (كناية عن قطعة من العجين مخبوزة على الصاج) لالتهامها مع الزيت الجديد واللبنة أو الزيتون. ثم ينقل الزيت بالتنكة إلى أقبية المنازل، حيث تفرغ في زير أو أكثر (وهو كناية عن نوع من الفخار المطلي من الداخل، والأكبر والأعلى من الخابية)، وإذا كانت الكميات محدودة، فإما توضع في خوابٍ او «الفيات» (وعاء زجاجي مستدير غالباً ما يوضع في شبكة من حديد في داخلها طبقة من القش أولاً لحمايتها وثانياً لحجب تعرض الزيت للنور). وكان يباع الزيت بالتنكة (الصفيحة أو نصف التنكة أو ربعها، وكان بعض الباعة المتجولين يبيعونه بواسطة «الضرف» (وهو جلد الماعز المتماسك والمعد أشبه بكيس).
وكانت المعصرة تقام في قرية تتوسط مجموعة قرى صغيرة، لا يلبث أن يقصدها المزارعون من كل هذه القرى، لأن كثيراً من هذه القرى كانت تفتقد الكهرباء، وبالتالي المعاصر العاملة على الكهرباء. أما اليوم فقد أحصت إحدى النقابات اللبنانية في قطاع زيت الزيتون وجود نحو 435 معصرة في لبنان، 20% منها تعتمد أحدث الأساليب الجديدة، في موازاة تطوير عملية القطاف بواسطة آلة الهز والرجرجة بدلاً من المفراط، ومع ذلك فإن «دليل إنتاج زيت الزيتون العالي النوعية» لا يحبذ اللجوء إلى هاتين الوسيلتين مفضلاً القطاف اليدوي (أو المرشقة) الذي «يحترم» الثمرة والشجرة على السواء، كما يقول البير شرفان، أحد مزارعي وتجار الزيت والزيتون، رغم أن هذه الطريقة تمثل بين 40 و50% من كلفة الانتاج، باعتبار أن العامل أو العاملة الواحدة لا تستطيع أن تجمع أكثر من 50 كيلوغراماً في اليوم، علماً أن «الفراط» يتقاضى اليوم بين 15 و20 دولاراً وعامل جمع الزيتون بين 10 و15 دولاراً، في حين كان الأول يتقاضى قديماً ليرتين ونصف ليرة، أما الثاني فيتقاضى ليرتين فقط.
تعليقات: