لحوم معلّقة...
مخالفات قاتلة وتسيّب وبائت يدمج بالطازج... ولا حماية للمستهلك !
جراثيم وبكتيريا..
ذبح عشوائي..
لا معيار للنظافة..
قذارة واضحة...
يعتبر سوق صبرا للحوم احد اكبر اسواق بيع اللحوم بالجملة والمفرّق في لبنان، ويعدّ المصدر الاساسي لبيع اللحوم التي تأخذ طريقها الى معظم مناطق بيروت وضواحيها، بما تحويه من مطاعم وفنادق ومنازل وسوبرماركت، ولا يقتصر مجال العمل في السوق على بيع اللحوم وحسب، بل يتعداه الى وجود العديد من المسالخ غير القانونية بين منازله ومحاله وازقّته، التي يتم فيها ذبح المئات من المواشي يومياً.
في غمرة الاقبال والازدحام الذي يشهده سوق صبرا على مدار الاسبوع يتم تجاوز كل الخطوط الحمر التي تمسّ صحة المواطن وتهدد أمنه الغذائي. فمن الذبح غير القانوني، الى وجود الملاحم غير المرخّصة، الى الغش وعدم مراعاة ابسط شروط النظافة والسلامة الصحيّة في نقل اللحوم وتخزينها وعرضها وبيعها، يُطرح السؤال عن تعامي المسؤولين عن المخالفات الصارخة التي تحدث في هذا السوق.
"ما من احد يستطيع كشف عمليات الغش ومنعها التي يمارسها بعض اصحاب الملاحم، اذ يحرص هؤلاء على ان يكون كل العاملين في الملحمة امّا من الابناء او الاخوة او ابناء العم او الاصهرة، او على ابعد تقدير ابناء منطقة واحدة، وذلك حرصاً منهم على عدم فضح الممارسات والتجاوزات التي تحصل داخل الملحمة. ولست ابالغ حين اقول إنهم بهذا يشكّلون ما يشبه المافيا"... هكذا اختزل أيمن جوابه عن عشرات الاسئلة، رغم عمله لأكثر من 13 عاماً في ذبح المواشي وبيع لحومها في منطقة صبرا، رافضاً رفضاً قاطعاً الحديث عن طرق وأساليب الغش، ومردداً طوال الوقت "هذه اسرار المصلحة وسأتعرّض للاذى اذا كشفت عنها".
غش وتضليل
الخوف الذي منع ايمن من الكلام عن غش بعض اصحاب الملاحم والعاملين فيها، لم يمنع قاسم، العامل في المهنة والمنطقة عينهما، لسنوات عدة عن القول: "يتم دمج اللحم البائت او المثلّج وتعليقه بين اللحوم الطازجة، في عملية اشبه بالتضليل والخداع البصري. كما تعلّق ايضاً قطعة من "ليّة" خروف بلدي في شكل متلاصق مع فخذ للحم بيلا (خروف ابو دنب). ويباع هذا النوع بسعر اللحم البلدي، رغم انّ سعره في الحقيقة أرخص بكثير. ويمكن تمييز الفارق ما بين النوعين من خلال اللون، اذ يميل اللحم البلدي الى اللون الزهري بينما يكون لون اللحم غير البلدي مائلاً الى الحُمرة، ويبرز طعم ورائحة اللحم الرديء في الطبخ او الشوي. لكن احياناً يضيع اللون والطعم الحقيقيان لهذا اللحم عند استعمال الخلطات بإضافة الحوامض والتوابل وانواع البهارات المختلفة، والتي تدخل كلها في تحضير بعض الاصناف، مثل الشاورما، البفتاك، الهمبرغر، البسطرما، اللحم بعجين... وبالتالي فإن الزبون لن يميّز هذه التغييرات بسبب تغيّر الطعم واللون والرائحة".
وعن اساليب الغش الاخرى، يشرح قاسم كيف "ان بعض بائعي اللحوم يقومون بجمع "الجلاميق" والقطع التي ظهرت عليها بقع لونية، ويتم بيعها كلحم مفروم سلفاً، او خلطها بالكباب والكفتة الجاهزة. وكثيراً ما يتم فرم الكليتين او "الطحالات" و"الفشّة" و"القلوب"، ومعظم الشحوم واللواصق التي تكون في جوف الماشية فرماً ناعماً وضربها بخلطة السجق والمقانق. اما بالنسبة الى السودة (الكبدة) فكثيراً ما تكون مصابة بداء ما ويظهر فيها نوع من الحلزونات او الديدان، وبالتالي فإن بعض البائعين يقومون باستئصال هذا الشكل الحلزوني قبل عرضها للبيع، وهذا ما يفسّر وجود التجاويف الصغيرة في "السودة" في بعض الاحيان".
ويتحدّث قاسم عن اسلوب آخر من الغش عند البعض قائلاً "اذا طلب الزبون كيلو لحم مفروم، يقتطع البائع كمية اقل ويضعها داخل مكنة الفرم، ويخلط معها اللحم الفاسد الموجود داخل المكنة او في الجزء الاعلى منها، فتمزج الكميّة الفاسدة غير المرئية بالكمية السليمة المقتطعة".
سوء النظافة والبكتيريا القاتلة
لعلّ ابرز المخالفات التي تشهدها معظم الملاحم في منطقة صبرا هي قلة النظافة. فمن عدم التنظيف للادوات المستعملة، من سكاكين وآلات فرم و"شناغل" وألواح التقطيع، بالماء المغلي والصابون، الى قذارة الارض والجدران، وانعدام النظافة الشخصية لأكثر العاملين، وعدم مراعاة ارتداء "البرنس" الابيض والقبعات والقفازات... اضافة الى مشكلة نفايات الملاحم التي توضع خارج الملحمة قريباً من اللحوم المعلقة خارجاً ايضاً، فالى مشكلة عدم وجود المياه في شكل دائم في بعض الملاحم، يمكن تصوّر حجم الخطر الذي تشكله هذه المخالفات على صحّة المستهلك جرّاء الامكان العالي لتلوّث اللحوم وتكاثر البكتيريا والجراثيم فيها، مما يؤدّي الى حالات التسمم الغذائي.
وتلفت اختصاصية الامراض الداخلية والجرثومية ندى شمس الدين الى "ان عوارض التسمم الغذائي لا تكون متشابهة عند الجميع. ويجب الانتباه اولاً الى ان كمية اللحم التي يتناولها الشخص ليست المعيار الذي يحدد حجم التسمم، انما تحدده نوعية الجرثومة الموجودة في هذا اللحم.
أبرز عوارض التسمم عموماً هي: الصداع، الاسهال، الآلام الحادة في البطن، الدوار، التقيّؤ المستمر، وارتفاع في درجة حرارة الجسم. فكل انواع البكتيريا والجراثيم خطيرة وقاتلة، لكن قدرة تصدي الجسم لها هي التي تجعل التأثير مختلفاً ما بين مصاب وآخر، وذلك وفق نسبة التلوث التي اصيب بها، ووفق عمره ووضعه الصحي ومناعة جسمه. وهناك الكثير من المصابين الذين تتفاعل اجسادهم مع التلوّث في شكل قوي جداً قد يعرّضهم الى هبوط قوي في ضغط الدم والى نشاف حاد، مما يشكّل خطراً كبيراً قد يودي بهم الى الوفاة في حال عدم حصولهم على العلاج الفوري".
وشددت شمس الدين على اهمية اجراءات النظافة للعاملين في الملاحم والمطاعم، اذ ان "هناك انواعاً من البكتيريا، مثل السالمونيلا التي تنتقل عبر اليدين في حال لم تُغسل جيّداً بعد استعمال المراحيض. وقد لا تظهر عوارض الاصابة بالسالمونيلا الا بعد 18 ساعة، وفي بعض الحالات تظهر بعد 3 اسابيع".
التلوّث المتبادل
يعمد معظم محال سوق اللحم في صبرا الى بيع اللحوم بالجملة فجراً وبالمفرّق نهاراً. لذلك فهي تعتبر مصدر بيع وتوزيع اساسياً لمنطقة بيروت وكثير من المناطق اللبنانية. وتشير المسؤولة عن سلامة الغذاء في جمعية حماية المستهلك ندى نعمة الى ان "هناك الكثير من المطاعم والفنادق، بما فيها تلك المصنّفة خمس نجوم، تشتري اللحوم من منطقة صبرا، سواء اكانت مثلّجة او طازجة". وتحدّثت نعمة عن ان "بعض الملاحم لم يعد فقط مكاناً لبيع اللحوم بل أصبحت مكاناً لتصنيع الخلطات وتحضير وبيع المشاوي الجاهزة واللحم بعجين". وأشارت الى ان "القانون يمنع الجمع ما بين عملية بيع اللحوم وتصنيع الخلطات للمشاوي والاصناف الاخرى، الا اذا حاز صاحب الملحمة على رخصة مستقلة لكل من البيع والتصنيع، وبشرط توافر الشروط المطلوبة، وذلك بسبب الامكان الكبير لحصول التلوث المتبادل. وهذا ما أظهرته نتائج دراسة أجرتها الجمعية، حيث تم فحص 266 ملحمة تابعة لبلديات عدة في بيروت وضواحيها، وتبيّن بنتيجتها وجود نسبة تلوّث كبيرة في هذه الملاحم، اضافة الى الكثير من المخالفات".
الذبح والنقل والعرض
غير القانوني
تُعتبر المسالخ الحائزة على الشروط الصحية والقانونية المكان الوحيد الصالح لذبح المواشي في لبنان، والذي يفترض أن يكون مسلخ بيروت من أهمّها. الا ان هذا المسلخ للأسف يفتقر الى أدنى الشروط الفنية والصحية والقانونية. وسيلحظ أي زائر، ومن دون أي جهد، انه ليست هناك اي مراقبة او معاينة طبّية فاعلة لدخول الماشية او خروج الذبائح وتفقد صلاحيتها، عدا عن الحالة المزرية للمبنى عموماً، وخصوصاً سقفه الذي ترشح منه الماء في الشتاء وجدرانه التي تدخل القوارض من ثقوبها وتسرح في المسلخ ومحيطه.
وينتشر بعض المسالخ الخاصة غير القانونية في محيط مدينة بيروت التي ليس عليها رقيب او حسيب، ولا تُعنى بأي شرط من شروط الصحة والنظافة. ويتحدث قاسم عن المسالخ في صبرا قائلاً: "عمليات ذبح المواشي تجري على قدم وساق في منطقة صبرا بعد منتصف الليل، في غرف مغلقة وغير مؤهلة". وهذا ما يتبيّن بالفعل عند تفقّد هذه المنطقة، اذ توجد مثل هذه الغرف بين البيوت السكنية والتي يتم الوصول اليها عبر زواريب ضيّقة جدّاً، مما يجعل من الصعب رصدها ومشاهدة ما يحصل داخلها. وتنبعث منها روائح كريهة وترمى عند مداخلها فضلات الذبائح. وتسيل دماء الذبائح عبر قنوات مفتوحة في أرضية الغرف.
ويكشف منصور، الذي يعمل في زريبة للمواشي منذ نحو التسع سنوات، عن وجود عمليات ذبح مكثّفة تجري هناك، مما يشكّل مخالفة جسيمة للقانون. ويؤكّد أنّ "بعض التجار يقومون بذبح فوري للمواشي المريضة وبيعها من دون التأكد من صلاحية لحومها. ويتم نقل هذه اللحوم الى سوق صبرا وغيره عبر سيارات وشاحنات مكشوفة، وغالباً ما تكون بالوسائل عينها التي نقلت فيها المواشي وهي حيّة مما يعرّضها للتلامس مع البقايا والاوساخ".
ويتعارض نقل المواشي بهذه الطريقة مع القانون الذي نصّ على وجوب حفظ اللحوم ونقلها في شكل مبرد وعزلها عن التلوث الخارجي والذباب والحشرات بواسطة قطع من الشاش النظيف وعدم تركها في الهواء الطلق، اضافة الى اكتمال بطاقة المعلومات البيانية الخاصة باللحوم المنقولة الى الملاحم او المطاعم او محال بيع اللحوم. اذ يجب ان تختم اللحوم الطازجة المجازة من المفتّش البيطري الرسمي، مما يفيد بخلوّها من الامراض المعدية وصلاحيتها للاستهلاك البشري. كما يجب ان تختم الذبائح على الجانبين من السطح الخارجي من الفخذ والخاصرة والظهر والصدر والكتف. ويبيّن الختم نوع اللحم، درجة البرودة، تاريخ الذبح، رقم الدفعة، اسم المسلخ، وبلد المنشأ.
ولا تقتصر المخالفات على نقل اللحوم الذي يتم احياناً عبر عربات حديد مكشوفة تُجر بالايدي، بل تتعداها الى طريقة عرضها، اذ تعمد بعض الملاحم الى تعليق اللحوم بـ"الشناكل" على الطريق او على الخيم الحديد فوق رصيف المشاة، وتقطيع اللحوم وجرمها على طاولات على الرصيف ايضاً، مما يعرّضها للغبار والحشرات والتلامس مع ثياب وأيدي المارّة، وحتّى الى رشقات من مياه الحفر التي تملأ الشارع جرّاء مرور السيارات.
رقابة وتفتيش صُوَري!
تتولى مديرية حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد والتجارة مهمة النظر في الشكاوى وقمع المخالفات القانونية المتعلقة بالملاحم. وتقوم البلديات ضمن نطاق صلاحيتها بإرسال دوريات للمراقبة والتفتيش الصحّي. لكن تبقى الحاجة الى تفعيل الرقابة وصولاً الى قمع جدّي للمخالفات. ويكشف قاسم "ان للحامين أساليب متعددة للتخلّص من الرقابة والتهرب من التفتيش الذي يكون صُورياً في أغلب الاحيان ولا أحد يكترث له".
ويفتح واقع هذه المخالفات الصارخة باب التساؤل عن الكيفية التي يتم على أساسها منح الرخص والشهادات الصحية وتجديدها لمثل هذه الملاحم والعاملين فيها، وعن السبب في عدم اغلاق الملاحم غير المرخصة اصلاً، والتي لا تزال تعمل حتّى اليوم، علماً أن قانون حماية المستهلك ينصّ في المادة 109 على انّه "يعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر الى سنة وبالغرامة من 25 مليوناً الى 50 مليون ليرة من أقدم، وهو عالم بالامر، على الغش في مواد مختصة بغذاء الانسان، كذلك بالاتجار بمواد غذائية فاسدة او ملوثة او منتهية مدة استعمالها او التعامل بها اضافة الى حيازة اي من هذه المواد او المنتجات".
ويرى الامين العام المساعد للاتحاد العربي للمستهلك ورئيس الدائرة القانونية لجمعية حماية المستهلك المحامي وجدي الحركة انه "يجب عدم التراخي في ما يخصّ الرخص والشهادات الصحية. فالرخصة تعني ان يكون للملحمة رقم في البلدية، وبالتالي ان يكون هناك امكان لمتابعة السلامة الغذائية واجراءات النظافة في هذه الملاحم من المراقبين التابعين للبلدية او الوزارات المعنية".
وعن نسبة تطبيق العقوبات في ما يخص المخالفات القانونية، أشار الحركة الى انه "توجد غرامات تفرضها مديرية حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد والتجارة التي يقع على عاتقها النظر في الشكاوى والمخالفات القانونية". وأسف الى "وجود الكثير من العقوبات التي لم تنفّذ حتى اليوم، في انتظار تفعيل لجنة حل النزاعات، وهي محكمة المستهلك التي انشئت منذ نحو 4 أعوام". وتمنّى الحركة على المواطنين "الاطلاع على قانون حماية المستهلك لأننا في حاجة الى تعزيز "ثقافة المستهلك" اضافة الى معرفة الحقوق والواجبات".
نصائح
عن غياب الكثير من المستهلكين عن الشروط التي يجب الانتباه اليها عند شراء اللحوم، تحدثت اختصاصية التغذية في مستشفى الجامعة الاميركية في بيروت مريم علّيق قمر الدين عن المواصفات والخصائص الواجب توافرها في اللحوم الحمراء، "اذ يجب ان تحتفظ اللحوم بلونها الطبيعي مع خلوّها من الروائح غير الطبيعية والبقع اللونية الرمادية، البنّية او الخضراء، وان تكون غير مغطاة بطبقة بيضاء لزجة. أما بالنسبة الى اللحوم المثلجة فيجب ان تكون مغلّفة ومحكمة الاغلاق وضمن صلاحية الاستهلاك. وفي حال شرائها من السوبرماركت يفضّل ان تكون آخر ما يوضع في سلّة المشتريات للمحافظة على برودتها". وعن الطرق الصحيحة والصحّية لحفظ اللحوم والتعامل معها شدّدت قمر الدين على "اهمية النظافة وغسل اليدين لمدّة 20 ثانية بعد ملامسة اللحم النيء. ويجب ان تحفظ اللحوم في الثلاجة على درجة 18 مئوية تحت الصفر، وان تكون درجة حرارة البرّاد بين الصفر والخمس درجات، وان لا يحفظ اللحم لاكثر من 4 ايام منه، والا سيصبح غير صالح للاستهلاك. وفي ما يخصّ اللحم المفروم الناعم او اللحوم العضوية، يجب ان لا تحفظ في البرّاد لأكثر من يوم واحد". ولفتت الى "خطأ اعادة تجميد اللحوم التي سبق ان ذابت، ومراعاة تذويبها عند اللزوم بوضعها في البراد او الميكرويف او تحت المياه الجارية الباردة".
تعليقات: