الديك الرومي.. عريس موائد أعياد الميلاد ورأس السنة
أيام ويحتفل العالم بأعياد الكريسماس ورأس السنة، وتدق أجراس الكنائس، وتعم الفرحة ابتهاجا بمقدم عام جديد. بينما ينزوي في ركنه بالحظيرة طائر وحيد، نافشا ريشه في خيلاء مكسورة، فبعد ساعات سيحل الديك الرومي عريسا على الولائم والمناسبات السعيدة التي تصاحب هذه الأعياد في شتى أنحاء العالم، مضحيا بنفسه كقربان ورمز على كرم الاحتفاء والضيافة.
ففي أميركا وكندا يُعتبر الديك الرومي عمدة مائدة عيد الشكر، بلا منازع. وفي أوروبا، وبخاصة في بريطانيا المحافظة على التقاليد، يرتبط بطقوس عيد الكريسماس. وفي الوطن العربي، يقدم في المناسبات الاجتماعية كالأفراح والولائم الأسرية، والأعياد الدينية أحيانا.
أحد أسباب ذلك الارتباط اقتصادي بحت: لحم وفير، مذاق جيد، قيمة غذائية عالية، لحم أبيض أقل ضررا من الأحمر، مع سعر معقول. معادلة تبدو «عادلة» ورائعة، بخاصة مع ارتفاع أسعار اللحوم والدواجن. وهناك سبب آخر، موسمي تاريخي، حيث موسم تكاثر الطائر يتزامن مع الشهور الأخيرة للعام، مما جعله الوجبة الأساسية للأعياد المتزامنة مع نهاية العام. وهناك سبب آخر، يتبناه بعض محبي نظرية المؤامرة، تقول إن الأوروبيين يذبحون الديك في أعيادهم، كرمز للانتصار على الإمبراطورية العثمانية، وعلى نفس نمط مصارعة الثور في إسبانيا، حيث كان الثور رمزا لدولة الأندلس، واندثرت الحكاية القديمة، وبقيت اللعبة.
يقول الباحثون التاريخيون إن الديك الرومي دخل إلى أوروبا عن طريق تركيا، ولذلك سُمّي الطائر الـ«تركي»، وظلت هذه التسمية موجودة حتى العصر الحالي في اللغة الإنجليزية. ويؤكد أصحاب نظرية المؤامرة، على وجهة نظرهم مجددا، بأن لفظة «تركي» الإنجليزية لها ثلاثة استخدامات: الدلالة على الدولة، أو الطائر، أو تستعمل كنعت دالّ على الغطرسة والتعالي مع مسحة من الغباء وضيق الأفق أحيانا. والمفارقة في الاستخدامات الثلاثة أنها تتوقف على ما إذا ما كان النعت يشير إلى الطائر أم الدولة، أم كليهما معا. وتدور الدائرة على الباغي في كل الأحوال، فيكون أشهر من يحصل على هذا اللقب عالميا الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش، حيث نعته مواطنوه، قبل غيرهم، بأنه منفوش كالديك الرومي.
لكن يظل السؤال المثير للدهشة دوما، هو: من أين أتي الديك الرومي فعلا؟ وما أصوله؟ إذ إن تتبع الاسم وحده يقود إلى حلقة مفرغة، فاسمه بالعربية «الرومي»، نسبة إلى الإمبراطورية الرومانية في جنوب شرق أوروبا، أو «الحبشي» في بعض الأقاليم العربية. في حين أن بلغاريا تطلق عليه «المصري»، واليونان «الغالي» ـ نسبة إلى بلاد الغال، أصل فرنسا الحالية ـ والبرتغال «بيرو»، وروسيا «الهندي الأحمر» ـ نسبة إلى أميركا الشمالية، وفي جزر الملايو يدعي «الهولندي»، بينما في هولندا والدنمارك وأستونيا والنرويج والسويد وفنلندا وإندونيسيا يدعي الـ«كلكتي» نسبة إلى إقليم كلكتا بالهند، ونرى الإشارة أكثر وضوحا في الفرنسية، «الدندي» (الهندي)، التي تشاركها في الاسم كل من الكتالونية ـ لغة شمال إسبانيا ـ والبولندية، والاسكوتلندية، والمالطية، والعبرية. ومن هنا نستخلص أن الديك الرومي هو طائر «بلا هوية»، ينسبه كل شعب إلى الآخر، أو إلى نفسه، ومع ذلك لم تشأ أي أمة منحه شرف المواطنة! أما إذا حاولنا البحث عن طريق علم الحيوان، فإن الدكتور محمد ماجد ـ اختصاصي علوم الحيوان ـ يخبرنا بأن الثابت أن أصل الديك الرومي المستأنس المعروف حول العالم، هو الديك الرومي البري الذي يعيش بأميركا الشمالية، وبعض أجزاء من الجنوبية. مما يتركنا أمام استنتاج وسؤال: أما الاستنتاج فهو أن الاسم الأقرب إلى الصحة للديك الرومي، هو ما جاء في اللغة الروسية «الهندي الأحمر»، والبرتغالية «البيروفي». وأما السؤال فهو كيف انتقل الطائر من القارتين الأميركيتين إلى العالم القديم، وبخاصة أن الديك الرومي معروف منذ عهود قديمة جدا، سبقت اكتشاف القارتين بمئات السنين. يقول ماجد إن هنالك ثلاث نظريات في هذا الشأن، الأولي، وهي الأقوى، تقول إن هذا الانتقال قد حدث منذ عهود سحيقة، بعد انفصال الكتلة الأميركية عن قارة آسيا، وبينما كانت المسافة بينهما لا تزال قريبة نوعا ما، مما سمح بهجرة بعض الطيور البرية إلى آسيا وفيها تم التحور إلى النوع المستأنس، ومن هنا انتشر لفظ «الهندي».
النظرية الثانية مفادها أن الانتقال قد حدث عن طريق البشر أنفسهم، في أثناء الحضارات القديمة كالفرعونية وحضارة الأزتك بأميركا الجنوبية. ويؤيد هذه النظرية بشدة بعض علماء التاريخ والآثار الذين يؤكدون على وجود سبل اتصال بين الحضارتين، ويدللون على ذلك بأوجه تشابه كثيرة، منها مثالا الأهرامات وتشابه بالملامح والصفات والعادات. أو تنويع على نفس النظرية، يفيد بوجود وسيط بين المكانين، وهو أطلانطس المفقودة. حيث حدث الانتقال إليها أولا، ثم منها بعد ذلك.
نظرية ثالثة، لها وجاهتها العلمية أيضا، تشير إلى أن الطائر البري كان منتشرا في كل أرجاء المعمورة، ثم حدث تحور لبعضه، ما لبث أن تبعه اندثار للأصل في العالم القديم، نتيجة العصر الجليدي أو طوفان نوح أو أي سبب كان، ولم يتأثر بذلك الجزء الموجود بأميركا. فظل الأصل في مكان والمتحور في مكان آخر.
وإذا ما تركنا جانبًا ألغاز الديك الرومي، وحاولنا معرفة خواصه الغذائية، فإن لحم الديك الرومي يحتوي على كمّ قليل من الدهون والكولسترول مقارنة بلحم الدجاج كما يخبرنا الدكتور أحمد صفوت استشاري التغذية، فيما يحتوي على كم كبير من الفيتامينات والأحماض الأمينية الأساسية ـ لا تصنع في الجسم، ويجب تناولها في الطعام ـ أهمها على الإطلاق الـ«تريبتوفان»، الذي يعد أحد العناصر الهامة في صناعة «السيروتونين»، ذلك الموصل العصبي المسؤول عن تنظيم الحالة المزاجية ودرجة الغضب والعنف في المخ البشري، كما أن له تأثيرا على الشهية والتمثيل الغذائي والنوم، ولذا يزداد الشعور بالنعاس بعد تناول الديك الرومي.
أما عن آخر الغرائب في ما يخص الديك الرومي، فهو استخدام مخلفاته وحرقها في أماكن خاصة لتوليد الطاقة، كما يحدث في بعض الولايات الأميركية منذ نهاية التسعينيات.
تعليقات: