عراقيّة مهجّرة في إحدى قرى جنوب النجف
يرمز رقم 4 ملايين بلغة العراقيين، اليوم، إلى عدد المهجّرين إلى خارج بلادهم. لكن هناك ظاهرة قلّما تستحوذ على الاهتمام، رغم ضخامتها، وهي النزوح الإجباري إلى القرى هرباً من القتل على الهوية... الطائفية. وكالعادة، تكون المرأة أضعف ضحايا العنف في جميع أشكاله. هنا نماذج لعراقيات غادرن مدنهنّ إلى أريافهنّ، حيث معظم متطلّبات الحياة مفقودة
بغداد ــ
تضاءلت نسبة عمليات التهجير الطائفي والعرقي في العراق، وفي بغداد خاصة، إلى حدّ كبير، ولكن بعدما حققت أهدافها، إذ أصبحت معظم المناطق المختلطة سابقاً مقسَّمة عملياً اليوم. ولم تستطع العوائل التي شُرّدت في موجة العنف الطائفي، العودة إلى مناطقها حتى الآن رغم «المغريات» الحكومية «الكبيرة»: منح كل عائلة عائدة ما يعادل 850 دولاراً، وهو مبلغ لا يكفي لإصلاح غرفة واحدة في المنازل التي نُهبت وتعرّضت للتخريب والتدمير، فضلاً عن الشعور بالغربة الذي يلازم من يريد العودة، بعدما غادرت منطقته الوجوه التي ألفها سنوات.
وتبدو مسألة التهجير، أو النزوح الإجباري، أكثر عمقاً مما يتصوره كثيرون، من ناحية البعد النفسي والاجتماعي، وخاصة بالنسبة إلى المرأة. فهي تغادر المجتمع الذي ألِفَته، مرغمة، إلى مجتمع آخر قد يختلف جذرياً من ناحية الأعراف والتقاليد وطبيعة العلاقات.
ساجدة نموذج حيّ ومعبّر للعراقيات المهجرات؛ بعد عثورها على ورقة تهديد مطويّة وفي داخلها رصاصة، كان على عائلة الإعلامية ساجدة أن تختار بين مغادرة العراق إلى سوريا، حيث استقر الابن الأكبر وبعض الأقارب، أو العودة إلى القرية التي تنحدر منها والدتها ويسكن فيها أخوالها.
وسيلة التهجير في العراق ورقة داخلها رصاصة ترمز إلى «الرحيل أو القتل»
ومعروف في العراق أن العائلة التي يُراد تهجيرها، تُترك لها عند باب الدار ورقة مرفقة بها طلقة مسدس أو بندقية، وهي ترمز إلى «الرحيل أو القتل»، وتكون كافية لإثارة الذعر ومغادرة المنزل أو المنطقة في أسرع وقت، تاركة وراءها كل شيء.
حاولت عائلة ساجدة السفر إلى سوريا أولاً، فلم تحتمل الغربة التي يضاف إليها ضنك العيش، فعادت أدراجها إلى العراق لتستقر في تلك القرية البعيدة عن كل مظاهر الحضارة الحديثة، التي تحتاج إليها ساجدة على الأقل.
أخذت إجازة طويلة من عملها في إحدى الدوائر الإعلامية في بغداد، ولم يكن في إمكانها الإقامة الدائمة في محافظة بابل التي تقع فيها تلك القرية؛ فهي إن بقيت في العراق، ولو في قرية نائية، ستجد عذراً لزيارة بغداد بين فترة وأخرى، رغم أنها تشعر في القرية بالحزن والكآبة الشديدين لابتعادها عن عملها الذي تحبه، ولافتقار القرية إلى شبكة إنترنت أو شبكة هاتفية منتظمة، أو خطوط مولدات كهربائية خاصة بالأحياء السكنية. في النهاية، فضّلت ساجدة أن تضحّي من أجل والدتها التي عوّضتها عودتها إلى أهلها عن تهجيرها من منزلها وفقدانها اثنين من أولادها في جحيم العنف الطائفي.
وواجهت الطبيبة جنان علي مشكلة أكبر لدى استقرارها في قرية زوجها، الضابط السابق في الجيش، في المنطقة الغربية، بعد هربه من العاصمة خشية على حياته. لكن حتى في قرية زوجها، وجدت جنان نفسها سجينة الخوف من المسلّحين الذين انتشروا بكثرة، ولم تقف في طريقهم روابط الدم والقربى، فصاروا يقتحمون عيادتها باستمرار ليأمروها بمعالجة أحدهم أو تزويدهم بالأدوية. كذلك صارت جنان مهدّدة من القوات الأميركية لـ«ضلوعها» في مداواة المسلّحين، ما دفعها إلى الفرار من القرية إلى ذويها في إحدى محافظات الوسط العراقي. في النهاية، افترقت عن زوجها مجبرة، إذ بقي هو في قرية أهله ليواجه الاعتقال من قبل قوات الاحتلال في ما بعد.
تقول جنان اليوم إنها نادمة بشدة على مجاراة زوجها في الذهاب إلى القرية، لأن قرى المناطق الغربية تحوّلت بعد سقوط النظام السابق إلى «خطوط حمراء»، وخاصة بعد المعارك الشرسة التي خاضها المسلحون ضد القوات الأميركية والحكومية، حيث لم تنفعها مهنتها الإنسانية في تجنّب الخطر أو خدمة الناس بالطريقة الصائبة.
وتنظر وفاء صادق إلى زواجها من شاب ريفي من زاوية مشرقة، فتقول إن أخلاق أبناء الريف وتمسّكهم بالقيم الأصيلة يهوّنان عليها كثيراً معاناتها. فزوجها مرتبط بأهله ارتباطاً وثيقاً، ولا يتخلى أحدهم عن الآخر مهما حدث، لذا تجد نفسها، باستمرار، موضع اهتمام الآخرين ومساعدتهم.
لكنّ وفاء، التي لا تزال تحلم بإتمام دراستها الإعدادية رغم إنجابها ثلاثة أطفال، تعترف بأن الاستقرار في الريف قتلٌ لأحلام المرأة الطموحة، وهي تخشى على ابنتها الصغيرة من مصير فتيات القرية؛ فعدم وجود مدرسة متوسطة للفتيات، إضافة إلى النظرة المتخلّفة تجاه تعليم الإناث، سيحرمانها من إتمام دراستها والتوقف عند الشهادة الابتدائية.
وتعود وفاء لتبحث عن جوانب مشرقة في حياتها فتقول: أنا أؤمن بالقسمة والنصيب، وأؤمن كذلك بأنه لا أحد ينال كل ما يتمناه، لذا أكتفي بالحصول على زوج صالح وأبناء رائعين، وأترك للمستقبل مهمة تحقيق أحلامي تجاه أبنائي، بعدما فقدت فرصة تحقيق أحلامي الخاصة.
تتردد العائلات المهجّرة في اللجوء إلى السلطات لاستعادة منازلها خشية الانتقام
أما هناء عبود، فهي مهندسة سابقة وتسكن حالياً في إحدى قرى قضاء المحمودية. هجرت وظيفتها بعد تهجير عائلتها خوفاً على حياتها، ولا سيما أن الدائرة التي كانت تعمل فيها دخلت ضمن لعبة المحاصصة الطائفية، وأصبحت مغلقة على طائفة بعينها.
وتشكو هناء من شحّ فرص العمل ومن صعوبة تنقّل الفتاة وحدها في الأرياف، أو انخراطها في أي مهنة. كذلك تشير إلى نقطة مهمة أخرى، وهي «قلة فرص الزواج» بفعل ابتعاد فتاة المدينة عن المحيط الذي يمكن أن تجد فيه من يلائمها، ما أرغمها على القبول بابن عمها الحاصل على الشهادة المتوسطة، خوفاً من انقضاض «وحش العنوسة» على ما بقي من سنوات شبابها.
ولا تشعر هناء بالندم لاتخاذها مثل هذا القرار، فهي تؤمن أيضاً بـ«القسمة والنصيب». ولكنّ شعوراً بالحزن يرافقها دائماً لعدم عثورها على الجو الاجتماعي الذي اعتادته، ولابتعادها عن صديقاتها وعن الأسواق وأماكن الترفيه التي كانت ترتادها بصحبتهن.
بدورها، تنظر أم علاء، وهي ربة منزل وأم لسبعة أولاد، إلى هذا الموضوع من زاوية مختلفة. ببساطة، هي تجد في الريف اختصاراً لتكاليف المعيشة في المدينة، لأنها لا تدفع إيجاراً لمنزلها حالياً بعد تهجيرها منه، وتسكن في حجرتين بناهما لها والد زوجها المعتقل حالياً، على أرض سيرثها من أهله.
وتجد أم علاء أنّ لديها استعداداً كافياً لزراعة الخضر التي تحتاج إليها في حديقتها الواسعة، إضافة إلى تربية الدواجن. كذلك اشترت بقرة لتضمن حصولها على الحليب ومنتجاته. إذاً، يعود السكن في الريف لأم علاء، حالياً، بمنفعة اقتصادية بعد تخلّصها من ضغط الحياة المعيشية الصعبة في المدن، ومتطلبات أولادها الكثيرة هناك، فهم يكتفون بممارسة لعبة كرة القدم ومشاهدة التلفزيون، ويدرسون مؤقتاً في مدارس ريفية متواضعة، ولا يحتاجون إلى ملابس غالية الثمن، أو إلى مصروف كبير لينفقوه على نزهاتهم، كما يحصل في المدينة.
لكنّ أم علاء تصرّ أيضاً على اعتبار مكوثها في الريف أمراً مؤقتاً. فهي لا تريد حرمان أبنائها نهائياً الحياة التي اعتادوها، أو حرمان بناتها الثلاث الصغيرات فرص زواج مناسبة بعد إتمام دراستهن. وهي لا تزال تؤجّل قرار العودة إلى حين خروج زوجها من المعتقل، إذ «تبقى المدينة قبلة لأنظار الشباب الراغبين في مواكبة العصر».
أما وداد عبد الحق، المتخرّجة من كلية الآداب، فقد شملها التهجير أيضاً بعدما فقدت والدها وشقيقها في موجة العنف الطائفي. هربت مع من بقي من أفراد الأسرة، لكنها تحلم بالعودة إلى منزلها الذي «تحتله» إحدى العائلات المهجرة أيضاً، وتصرّ على البقاء فيه إلى حين استعادة منزلها.
ولا ترغب عائلة وداد في اللجوء إلى السلطات لاستعادة المنزل، خشية الانتقام، لذلك آثرت البقاء في القرية التي يعيش فيها أعمامها، حيث لم تستطع الانسجام مع الفتيات فيها لعدم وجود مشتركات فكرية، على حدّ تعبيرها. إلا أنها تؤكد طيبة فتيات القرية و«سطحيّتهنّ»، وتظل تحلم بالعودة إلى بغداد وبالحصول على وظيفة مناسبة «عندما ينتهي هذا المسلسل المزعج من الأزمات».
وتجمع النساء والفتيات الهاربات من المدينة إلى القرية على أن الحياة في الريف كان يمكن أن تكون أفضل لو كان هناك بعض الخدمات المناسبة، ولو كان هناك عمل مناسب للرجال. فالزراعة انحسرت من جرّاء شحّ المياه وتعطّل مضخات الري لعدم وجود الوقود الكافي لتشغيلها، إضافة إلى انعدام الدعم الحكومي للمزارعين من ناحية توفير البذور والأسمدة ومبيدات الآفات الزراعية والحيوانية. إلا أنهن يلفتن أيضاً إلى أن الخدمات المطلوبة تكاد تكون معدومة في المدن أيضاً. وفي كل الأحوال، خرجن سالمات من المدينة مع بعض أبنائهن، إلا أنّ منهن من فقدت الزوج أو الأخ أو الأب أو الابن، ودأبهن أن يحافظن على من بقي على الأقل.
12 ألف أسرة لم تعد إلى أبو غريب
كشف وزير الهجرة والمهجرين عبد صمد رحمن سلطان أن أكثر من 12 ألف أسرة عراقية لا تزال مهجرة من المناطق التابعة لقضاء أبو غريب، غرب بغداد، فيما أكد عودة أكثر من 48 ألف أسرة مهجرة إلى منازلها في باقي مناطق العراق منذ 2008، مطالباً بتشريع قانون لتعويض تلك الأسر. وقال سلطان إن «48 ألفاً و125 أسرة مهجرة عادت إلى مناطقها الأصلية خلال عامي 2008 و2009، بعد تحسّن الأوضاع الأمنية في البلاد»، مشيراً إلى أن 17 ألف أسرة منها عادت من الخارج. ولفت إلى أن «عدد الأسر التي عادت وحصلت على منحة الحكومة البالغة مليون دينار (854 دولاراً)، بلغ 5 آلاف أسرة فقط»، عازياً سبب عدم تسلّم بقية الأسر للمنحة إلى «عدم تقيّدهم بالتعليمات التي تنص على تسليم المنحة إلى الأسر التي قضت ثمانية أشهر في الخارج على الأقل».
تعليقات: