سماحة السيّد حسن نصر الله
خُتم العام بسجال حاد مع دعوة السيّد حسن نصر الله أطرافاً سياسيين مسيحيين إلى مراجعة واستخلاص عبر، مشفوعة بطمأنات ويد ممدودة. نُظر إلى الدعوة بوصفها تشاوفاً وشماتة وتأكيد غلبة. لهجة الأمين العام لحزب الله ولّدت انطباعاً لدى المعترضين الساخطين، بأنّ ذلك تكرار لتبنّي أحداث السابع من أيار لعام 2008 وإضفاء طابع انتصاري «مجيد» عليها.
لقد بالغ الفريق المعترض في ردّة فعله. لا شكّ في أنّ كلام السيّد قد انطوى على تسجيل خلاصة أحداث عصفت بالمنطقة وبلبنان منذ الغزو الأميركي للعراق في نيسان عام 2006. أكد قائد المقاومة الإسلامية أنّ المشروع الأميركي قد فشل، وأنّ المراهنة على نجاحه كانت خاطئة، وأنّ تكرار ذلك ليس في مصلحة الفريق المسيحي الذي التحق بهذا المشروع وبحلف أتباعه من «عرب الاعتدال». في امتداد ذلك أيضاً، سجّل الأمين العام لـ«حزب الله» أنّ سلاح المقاومة باق وثابت ومحميّ، ولن يقدر على النيل منه أعداء الخارج وخصوم الداخل.
كان يمكن تفادي بعض ما بدا نزعة انتصارية في خطاب السيّد نصر الله. لكنّ ما قاله قد انطوى على حقائق أكيدة قائمة في العالم وفي المنطقة وفي لبنان، وإن تأخّرت نتائجها عندنا حوالى سنة بالقياس إلى ما حصل في «البيت الأبيض»، أي الولايات المتحدة الأميركية نفسها!
أما المبالغة في ردّة الفعل فمردّها إلى أمرين: الأوّل، إمعان فريق سياسي «مسيحي» في اعتماد نهج طالما درج عليه حيال القضايا والمسائل الداخلية والخارجية. والثاني، تحريضي ـــــ تعبوي ذو شقين: أوّلهما موجّه إلى رئيس «التيار الوطني الحر» العماد ميشال عون، بهدف إضعاف نفوذه المسيحي. وثانيهما موجّه إلى رئيس الحكومة ورئيس «تيار المستقبل» سعد الحريري، ولو على طريقة مخاطبة الجارة لإسماع «الكنّة»، كما يقول المثل الشعبي.
الواقع أنّ أقسى وأسوأ ما اختُتم به العام الماضي بالنسبة إلى فريق «القوات اللبنانية» وحزب الكتائب وبعض من يتبنّى سياستهما من روحيين ومدنيين، إنّما تمثّل في زيارة الرئيس سعد الحريري لدمشق. سياق الزيارة والنتائج التي أفضت إليها، فضلاً عن طابعها الاحتفالي والاحتفائي لدى الطرفين، حوّلاها إلى ما يشبه الكابوس بالنسبة إلى هذا الفريق وإلى بعض آخر في تحالف قوى 14 آذار المترنّح. حصل ذلك، ولم يكن الفريق المذكور قد استوعب بعد الصدمة الكبيرة التي أحدثها التحوّل الجنبلاطي الذي أُطلق على نحو مدوٍّ في الثاني من آب الماضي ولا تزال أصداؤه وارتداداته تتواصل حتى اليوم.
يشير ما تقدّم إلى بعض تحوّلات أساسية في الوضع الداخلي اللبناني وفي توازناته خصوصاً. عبّر عن جزء من ذلك تأليف الحكومة وبيانها الوزاري. جزء آخر مرشّح للبروز أو البلورة في مراحل ليست بعيدة. تنامي الدور السوري سيكون أحد أهم التحوّلات المذكورة. المعادلات التي حكمت الوضع اللبناني وتوازناته تتغيّر باطّراد.
«الخارج» الذي قدّم الدعم والتوجيه والوصاية في السنوات الخمس الماضية (حتى «اتفاق الدوحة» خصوصاً) تراجع إلى حدود غير متوقّعة. تأثير المحور الإيراني ـــــ السوري بات أكبر بما لا يُقاس. لعبة تفاعل الخارج والداخل راسخة في المشهد اللبناني منذ عقود طويلة. الخشية، إذا لم يستخلص البعض العبر الضرورية والسليمة، أن تتوجّه أنظار البعض، مجدّداً، إلى «الجار» الإسرائيلي. إسرائيل تمارس الآن سياسة نشيطة حيال الوضع اللبناني. إنّها سياسة ترقّب ومتابعة وقلق وتحفّز للعدوان. الشواهد كثيرة. البعض يجزم، كالنائب وليد جنبلاط مثلاً، أنّ قرار العدوان قد اتُّخذ بالفعل بانتظار توقيت وذرائع مناسبة. الولايات المتحدّة نفسها التي تعثّر مشروع رئيسها السابق جورج دبليو بوش وفريقه من «المحافظين الجدد»، تلجأ الآن إلى تكتيكات جديدة. السمة الأساسية لهذا التكتيكات محاولة تغذية التناقضات المتنوّعة: السياسية والإثنية والمذهبية.
هذا وسواه يستدعي مراجعة عميقة من «الطرف المسيحي» الذي دعاه السيّد حسن نصر الله إلى ذلك فاستفزّه واستثار ردود فعله وحرّك فيه مواجع كامنة! غير أنّ دعوة المراجعة المذكورة تصبح أكثر مشروعية وأكثر سهولة إذا جرت مساعدة الطرف المذكور على ممارستها. المقصود بذلك، أنّ فريق «القوات» والكتائب ليس وحده المطالب بالمراجعة، وإن اختلفت الأسباب والاستنتاجات. وأوّل ما تتجه إليه الأنظار، في هذا الصدد، السعي نحو حوار عميق وهادئ ومثابر وهادف، يجري إعداد عناصره وظروفه لبناء دينامية تفاعل جديدة في الوضع اللبناني. ليس من المفيد لأحد (باستثناء الفئويات المعروفة) أن يستمرّ الوضع اللبناني على ما هو عليه من الانقسام، ومن الصراع، ومن الاستقواء بالخارج، ومن الضعف والشرذمة والتفتّت ومن عدم الاستقرار.
التفكير يجب أن يتجه نحو مخارج نجاة جديدة. طاولة الحوار عامل أساسي في ذلك. يمكن الاستفادة أيضاً من موقع رئاسة الجمهورية ومن نزعة الرئيس ميشال سليمان التوافقية. نظرية الـ«لا غالب ولا مغلوب» قد تصبح مفيدة إذا كُسر وعاؤها الطائفي والمذهبي لمصلحة بناء إطار وسياق وطنيين مناسبين. لا يوفّر ذلك سوى تحوّل تدريجي نحو بناء مؤسسات سلطة متحرّرة من القيود التي مثّلت تاريخياً عوامل صراع وانقسام ومنعت قيام دولة موحّدة وحصينة. المساواة بين اللبنانيين أمر تأسيسي في هذا السياق. هذا ليس كلام شعر وتمنيات. إنّه مخرج ممكن من دوامة الانقسام ومن نتائجه الباهظة الثمن على كلّ صعيد. يصبح تحصين الوضع الداخلي في وجه اختراقات إسرائيلية ومعادية، أمراً يقع في صلب عملية تعزيز ثقافة وبنية المقاومة. هذا أيضاً واجب قومي وتحرّري أممي. عزل الانتماء الأوّلي، الديني أو الطائفي أو المذهبي... عن الموقف السياسي، هو سلاح مهمّ في مواجهة سياسة التفتيت الناشطة الآن في العراق وفلسطين واليمن والسودان والصومال و...
يستطيع التحوّل الإيجابي اللبناني، أن يكون فاعلاً في المحيط العربي في أكثر من اتجاه. هذا أيضاً يصبّ دون شك في مصلحة تحصين المقاومة وتفعيلها ومنع إغراقها في الرمال المتحرّكة التي تؤجّجها العصبيات والجاهليات من كلّ نوع.
تغيير قواعد اللعبة التقليدية في لبنان، أمر مطروح من القوى التقدّمية والديموقراطية منذ زمن بعيد. المراجعة هنا أيضاً أكثر من ضرورية وملحّة. هذه القوى هامشية الدور والحضور حالياً. هذا أمر خطير استمراره. علاج ذلك أيضاً لا يمكن أن يحصل بوسائل تقليدية معروفة ومستهلكة وعاجزة...
إنّها بداية سنة جديدة. وعودها ومتطلّباتها يجب أن تكون كذلك. العصر الأميركي المتسلّط والمهيمن، إلى أفول يلوح واضحاً في الآفاق. الصراع من أجل تخفيف الأضرار والآلام مهمة إنسانية عظيمة وشاملة. بالنسبة إلى البعض، يجب إعادة النظر في كثير من التوجّهات. وبالنسبة إلى آخرين استكمال مقوّمات المواجهة والحفاظ على الإنجازات. وبين هذا وذاك يعطي حضور القوى الديموقراطية في هذه المعركة دوراً ومشروعية. أما القعود فلا يعني سوى الموت. إنّه اقتراح لكي نبدأ: كلّ من مكانه، فهل نبدأ؟!
* كاتب وسياسي لبناني
تعليقات: