القصر البلدي في حبوش
حفر ونوافير ومجارير وسيول توازي إهدار مليارات الليرات..
تكاد حفر الطرق تتحول سمة ثابتة في معظم شوارع المدن اللبنانية، اذ تستغل مادة خصبة لحشد الناخبين في سلة مطالب، من دون ان يوازيها فعلا اهتمام ومعالجات تعيد تأهيل البنى التحتية، بدليل ظهور نوافير المجارير من دون سابق انذار وتفجر السيول شتاء بما يغرق المواطن في واقع لا كلمة له فيه.
اين البلديات من مسؤولياتها الانمائية؟ لا جواب، ليبدو في المقابل ان اموال الجبايات تتحوّل طوعا من العمل الانمائي الى ظاهرة بناء القصور البلدية، وكأن في الامر تسابقا الى احتلال موقع "اجمل قصر بلدي"... وربما الاكثر فخامة.
"النهار" جالت على بعض القصور البلدية في المناطق استطلاعا وتحقيقا في الكثير مما يقال عنها من هنا وهناك.
في الحدت، يبدو القصر البلدي لافتا في هندسته ومساحته وكلفته التي تناهز، مع قيمة العقار، مبلغ 10 ملايين دولار، "أي ما يعادل حجم ميزانية البلدية لعامين"، وفق اصوات معارضة لم تأت من فراغ. اذ يتحفظ هؤلاء عن اهتمام رئيس البلدية ببناء قصر بلدي بمليارات الليرات، بينما تحتاج البلدة الى بنى تحتية وتأهيل طرقها ومجاريرها وارصفتها وانارتها وشبكة مياه جديدة. "نشبه حال من يشتري ربطة عنق من ماركة عالمية، ولا يملك بذلة لها".
رئيس البلدية انطوان كرم يتحدث عن كلفة 470 دولارا لبناء المتر المربع (المساحة الاجمالية للبناء 6600 متر مربع). لكن للمعارضين ارقاما اخرى: كلفة شراء العقار 3 مليارات و500 مليون ليرة، ونحو 500 الف دولار لشراء الاثاث. هذا ما ينفيه كرم "اذ لم تتجاوز كلفة الاثاث مبلغ 65 الف دولار".
ينطلق المعارضون من انتقاد رئيس البلدية "كأنه باق طوال العمر. فمساحة مكتبه تصل الى 200 متر مربع". واذ لا يرون مانعا من تشييد قصر بلدي، يؤكدون، في الاولويات، ضرورة الالتفات الى حاجات البلدة "ليأتي تشييد القصر في مرحلة اخيرة، أي من فائض الصندوق البلدي".
لكن للرئيس تبريرا آخر: "لم يكن المبنى القديم يليق بالبلدة الممتدة على مساحة 5 كيلومترات مربعة، ولا يتسع لخدمة نحو 150 الف مواطن (عدد المقيمين في النطاق البلدي) فتم تحويله مكتبة عامة. ويتحدث بفخر عن البناء الجديد "الذي بنيته كأنه منزلي، بتمويل من البلدية من دون مساعدة او قرض". بعد إستملاك الارض، وبعد جولات على نحو 30 بلدية في العالم (فرنسا وبلجيكا، وأسبانيا)، عاد الى بيروت ليطلق مسابقة بين الجامعات اللبنانية "وتسلمنا نحو 30 مجسما، لكنها لم تف بالمطلوب. فتمت الاستعانة بمهندسي البلدة الذين عرضوا نحو 12 مجسما. وكان المجسم الفائز من نصيب المهندس جوزف صعب".
وفي جولة لـ"النهار" على اقسام القصر البلدي المؤلف من 4 طبقات (طبقتان تحت الارض)، حوّلت الطبقة السفلية ملجأ بمواصفات عالمية يستوعب نحو 1500 شخص، مع نحو 10 مراحيض مجهزة بتقنيات حديثة تمنع انبعاث الروائح. وفي الطبقة السفلية الاولى مرأب بمساحة 1750 مترا مربعا. وتضم الطبقة الارضية النادي البلدي ومكاتب نوادي البلدة وقاعات النشاطات الاجتماعية والمحاضرات والمعارض وناد للسينما. كذلك تضم مستودعا او مرأبا لاصلاح سيارات البلدية، وقسما خاصا للشرطة البلدية ومكاتبها، وقاعة مجهزة بكاميرا لمراقبة شوارع البلدة، الى مركز للجباية ومركز استيعاب المعلوماتية.
اما الطبقة الاولى فمخصصة لرئاسة البلدية والاعمال الادارية، وفيها قاعة استقبال فسيحة ومركز القلم لتسلم معاملات المواطنين وتسليمها. وتضم الأقسام الادارية والمالية والفنية. وثمة قسم للارشفة يعتبر من الاهم في لبنان. بموازاة ذلك، ثمة أربعة مكاتب للجان البلدية وقاعة اجتماعات كبرى مخصصة للمحاضرات والاجتماعات تتسع لنحو 700 شخص مجهزة بـAudio visual، تعلوها قاعة أخيرة مخصصة لنشاطات النادي البلدي.
اين حاجات البلدة؟ يلوم كرم الروتين الاداري، مبررا تقصيرا في خدمات البنى التحتية. "الروتين يؤخرنا عن توسيع طريق، لاننا في حاجة الى مرسوم. لكننا نقوم بالخدمات البلدية على الوجه الاكمل، ولا داعي لذكرها لأنها من واجباتنا". وفي رده على المعارضين يقول: "لو كان الناس غير راضين لما كانت جبايتنا 100 في المئة. فالمواطن لن يدفع رسومه اذا لم يثق بالبلدية". وفي الاولويات توفير المياه وتأهيل المجاري. "وأكبر دلالة الى اهتمامنا، هو ان الحدت هي البلدة الوحيدة التي لم تطف فيها مياه الشتاء". لا يأبه كثيرا للانتقادات، والقصر البلدي لن يكون آخر الانجازات "اذ نعد لانشاء مدينة رياضية فيها ملعب للتنس وآخر لكرة القدم وكرة السلة".
الحازمية
وقريبا من الحدت، ثمة مبنى بلدي حديث قيد الانشاء في الحازمية. التمويل من البلدية والكلفة نحو 4,5 مليارات ليرة، وفق نائب رئيس البلدية بيار عكرا الذي قدم تصميم المشروع بكلفة نحو 7 في المئة من القيمة الاجمالية.
كلفة المرحلة الأولى بلغت مليارا و850 مليون ليرة، لكن العمل توقف لخلافات لم يشأ عكرا الحديث عنها. وفي حال تذليلها، تقدر كلفة تلزيم المرحلة الاخيرة بنحو ملياري ليرة، بما يرفع الكلفة النهائية الى ما بين 4 و4,5 مليارات ليرة، من دون احتساب كلفة الاثاث وتجهيز النادي الرياضي (نحو مليون دولار).
رخصة المشروع عام 2001 خضعت لتعديلات تعود الى الاستملاكات، وخفّضت تاليا المساحة الاجمالية من 10 آلاف و600 متر مربع الى 6 آلاف و400 متر مربع، بينها نحو 1200 متر مخصصة لمبنى البلدية، اضافة الى مساحات اضافية مخصصة لمرائب السيارات تحت الارض، وناد رياضي ومقهى للانترنت ومطعم بأسعار تشجيعية لأبناء البلدة.
حاجات الحازمية لا تختلف عن سائر المناطق: ارصفة، محطة تكرير للمياه الآسنة، اقنية تصريف لمياه الشتاء، حدائق عامة، شق بعض الطرق، والحاجة الى تنظيم مجتمع البلدة وتأطيره ضمن نشاطات تستوعب الشباب والمسنين.
ماذا عن دور البلدية؟ لا يبدي عكرا رغبة في الاجابة، بعذر ابتعاده عن الشأن البلدي منذ فترة، فيما يغيب موقف رئيس البلدية جان الأسمر لتعذر لقاء "النهار" به. لكن ثمة مصادر معارضة تتحدث عن بذخ وترف في المبنى الجديد على حساب الحاجات الاساسية للبلدة التي تحتاج الى البنى التحتية. الى ذلك، تتحدث عن إنفاق غير مجد في البلدية "إذ ثمة أموال باهظة تنفق على الاعلانات والاشتراكات في مجلات لا يطالعها أي من اعضاء البلدية. كذلك ثمة تخمة في السيارات المخصصة لرئيس البلدية وبعض الموظفين، في مقابل نقص فادح في الآليات المخصصة للعمل البلدي". وفي موسم الانتخابات البلدية، يتحدث هؤلاء عن عمليات نقل نفوس على حساب البلدية، وانفاق اموال على صور عملاقة لسياسيين، وعن مساعدات زيدت نحو 10 أضعاف لعائلات محتاجة. "هذا كله يبرر عدم الإنفاق على البنى التحتية للبلدة بميزانية دون الـ5 مليارات ليرة سنويا".
بريتال
البذخ في بناء القصور البلدية لا يقتصر على بيروت والضواحي بل يتعداه الى خارجها، حيث قصور في قرى وبلدات، بينها بريتال في قضاء بعلبك.
قصرها البلدي مميز بهندسته المعمارية، لكن كلفة بنائه أقل من عادية (275 مليون ليرة من دون ثمن العقار)، وفق رئيس البلدية عباس اسماعيل. فكرة بنائه على هذا النحو انطلقت من اقتناع بضرورة ان يكون للبلدة "بيت" يليق بها، لذا ارتأينا انشاء مبنى متواضع يعكس واجهة البلدة".
"القرار ببناء القصر اتخذ العام 2000 وانجز العام 2004، إذ لم يكن للبلدة مبنى بلدي، بل شقة صغيرة استؤجرت لتخليص معاملات الاهالي". "بيت البلدة"، كما يفضل اسماعيل تسميته، مؤلف من 3 طبقات: ارضية تضم قاعة محاضرات ومعارض وقسما خاصا للدفاع المدني، طبقة اولى فيها مكاتب خدماتية وشرطة البلدية ومكتب للتنمية الاجتماعية، وفي الثانية مكاتب اللجان ورئيس البلدية ونائبه.
في الحديث عن حاجات البلدة، وخصوصا تعبيد الطرق موضع شكوى بعضهم، يرفض رئيس البلدية الدخول في "سجالات" مع "أبواق تريد "الزكزكة" على ابواب الانتخابات البلدية. لكنه يؤكد الاهتمام بميزانية البلدية وإمكاناتها، "وهي لا تفتقر الى خدمات ملحة تستوجب وقف بناء القصر البلدي". وعن الحفر الظاهرة على طرق بريتال يقول ان الحفر موجودة في كل المناطق وليس في بريتال فحسب، "لكن عمل البلدية يكفي لسد ابواق المنتقدين".
حبوش
من بيروت الى البقاع فالجنوب، باتت القصور البلدية سمة للتباهي بالديكور المميز والمساحات الفسيحة. لكن رئيس بلدية حبوش سميح حلال يعتبر أن القصر البلدي كان وليد الحاجة، "وخصوصا انه لم يكن للبلدة ما يليق بها". القرار بالبناء اتخذ العام 1999 بتمويل من صندوق البلدية، اذ كان يقتطع 50 مليون ليرة سنويا حتى بات التراكم نحو 300 مليون ليرة بعد 6 اعوام. المبنى مؤلف من طبقتين: ارضية تضم مكتبة عامة وارشيفا وغرفة اعضاء اللجان ومستودعا للآليات الخفيفة، واولى فيها غرفة الرئيس وامين الصندوق والشرطة وغرفة الكتبة والجباة وقاعة اجتماعات.
يعترف حلال باهتراء وضع الطرق الى حد يصفه بـ"الزلزال"، بسبب مدّ شبكات الصرف الصحي من احدى الشركات بتكليف من مجلس الانماء والاعمار. وإذ يقر بحاجات البلدة الى مجاري للصرف الصحي وتحديث شبكة مياه الشفة التي يذهب نصفها اهدارا على الطرق، يؤكد ان هذه ليست من مسؤولية البلدية "بل الدولة لأن إمكانات البلدية محدودة، ولا يمكنها القيام بمشاريع بكلفة كبيرة". لا يبالي حلال كثيرا بالانتقادات، "إذ لم يسلم احد من الاعتراضات، حتى الأنبياء... ".
... وبعد، فإن المقار البلدية ضرورة لا بد منها لتسهيل امور المواطنين والعمل البلدي. ولكن الحفر وسيول الشتاء ونوافير المجارير تفضح مئات ملايين الليرات التي تنفق على بناء القصور البلدية. رؤساء البلديات يبررون "الإنفاق المتواضع" على بناء القصور البلدية "لانها واجهة البلدة". اما المواطن فيسأل: "ما نفع القصور إذا كانت الخدمات البلدية لا تغني ولا تسمن من جوع!".
القصر البلدي في الحدت
تعليقات: