«بلا هوادة» مجموعة الشاعر محمد العبدالله
كان ذلك في نهاية سبعينيات القرن المنصرم، حين صدرت «رسائل الوحشة»، مجموعة الشاعر اللبناني محمد العبدالله. مجموعة، لم تكن بحاجة إلى كثير وقت، لتعلن عن نفسها، بأنها واحدة من أهمّ مجموعات تلك الفترة، الشعرية، كما لم يكن قراؤها بحاجة إلى كثير وقت، ليجدوا أن صاحبها، كان يملك صوتا مختلفا في المشهد الشعري اللبناني والعربي. صوت مميّز، سرعان ما تأكد بعد سنوات قليلة، عبر مجموعة ثانية (1981) بعنوان «بعد ظهر نبيذ أحمر.. بعد ظهر خطأ كبير»، التي أفردت لصاحبها مكانة بارزة على الساحة اللبنانية الجديدة.
مجموعتان امتلكتا هذا العصب الذي يشدهما من الداخل، كما امتلكتا تلك اللغة التي حاولت أن تبني عالمها الخاص المدهوش بتفاصيله الداخلية، كما حاولت أن تقترب من إنشادية ما، كانت تتوافق ـ إذا جاز التعبير ـ مع «ملحمية» تلك الفترة التي عرفت بدايات الحرب الأهلية. لا اقصد بالتأكيد أننا كنا أمام نص «ملتزم» بالمعنى الضيق للكلمة، ولكنه نص كان يحمل شروطه التاريخية والاجتماعية والثقافية الراهنة، العائدة لتلك الفترة، وبخاصة أن غالبية أفراد جيل السبعينيات الشعري ـ (وأستعمل هذه الكلمة بالمعنى الاصطلاحي المجرد، للدلالة فقط على فترة زمنية معينة) ـ كانوا يأتون من تنظيمات وأحزاب وأفكار وأيديولوجيات، انخرطت في لحظة الصراع تلك، التي كانت تطغى على كل شيء. ومع ذلك كله، عرف قسم كبير من هؤلاء الشعراء، أن يتخلصوا من التأثيرات السياسية والأيديولوجية المباشرة ليكتبوا نصهم، الراغب في الشروط الفنية قبلّ أي شيء آخر.
مرّت الحياة بتواريخها ومحطاتها المتنوعة، غادر من غادر وبقي من بقي. وما بقي من كلّ تلك الحالات: الكتابة. كتابات لكنها لم تتوقف عند شروطها الأولى، بل تبدلت عند كثيرين، وما هذا التبدل بالتأكيد إلا نتيجة لانهيار الكثير من المسلّمات التي كانت سائدة آنذاك، من هنا، تبدلت اللغة الشعرية عند كثيرين. كما تبدلت مناخاتهم، مثلما تغيرت مقترباتهم الكتابية. من هنا نجد أن أكثر هذه المتغيرات أصابت كتابات محمد العبد الله. لكنها تبدلات واعية، أيّ أن الشاعر هو الذي ذهب عامدا متعمدا إلى هذه الكتابة الأخرى، التي قد تبدو للوهلة الأولى أنها لا تمت بصلة إلى مجموعتيه الأوليين، وإن كنت أجد شخصيا، أن كتاباته لا زالت تحافظ على هذا «السياق الثقافي» بمعنى من المعاني، أقصد رغبته الدائمة في كتابة هذه اللحظة الراهنة التي يعيشها بكل متفرعاتها، لدرجة أن هذا التشابك بين نص محمد العبدالله وحياته الشخصية يبدو حاضرا بقوة، في مجموعاته الأخيرة، التي يكللّها اليوم بمجموعة جديدة بعنوان «بلا هوادة»، صادرة حديثا عن «دار الحرف العربي» في بيروت. وهي تأتي بعد مجموعة من الكتب المتنوعة، ما بين الشعر والقصة القصيرة والنصوص والمسرح، لتشكل الكتاب الخامس عشر للشاعر.
نجوم السماء
«يلزمك الشمس والماء
كي تُخرِج من هذا التراب الترابي
معجزة من الأصفر والأخضر والبنفسجي
حقولا من الزهر
تندى مع الفجر
تبث الأريج ملء الفضاء
يلزمك الالتفات نحو نجوم السماء
كي تتناول الحزن مبتسما
كما يفعل الشعراء»...
مقطع من قصيدة «أحيانا أخرى» (ص: 75) أقتبسه هنا للدلالة، على كل «الرغبة الشعرية» التي تؤرق محمد العبد الله في كتاباته الأخيرة. رغبة كتابة نص «بسيط» لا يقوم على أي لعبة بلاغية ولا على أي لعبة شعرية (هذا إذا استثنينا التفعلية بطبيعة الحال). وفي غياب هذه «اللعبة الكتابية»، يبدو نص محمد العبدالله نصا عاريا، إذ أعتقد أنه من أكثر الأشياء صعوبة كتابة هذا النص العاري من كل الاتكاءات التي يلجأ إليها الشعر عادة والتي تجعله يبدو على كثير من «الجديّة».
هو شعر ضد «الجديّة» بمعنى من المعاني، أيّ هو شعر وكأنه يحمل في طيّاته نقدا لقسم كبير من شعر يكتب حاليا. من هنا، وأظن ذلك، تبدو هذه الرغبة الملحة عند الشاعر، في جعل عاديات الأشياء شعرا، وهي رغبة ليست، في واقع الأمر، سوى محاولة كبيرة في الكتابة، إذ كيف تجعل من الكلام العادي، اليومي، شعرا يجد تماسكه؟
كل كتابة محمد العبدالله الأخيرة، في الشعر كما في غيره، تقوم على هذه الإشكالية، من هنا أجد أننا نخطئ حين نقول إن الشاعر تخلّى عن لغته وأنه لم يعد ينبع من تلك القوة التي كانت تميّزه سابقا. على العكس من ذلك، هذه الكتابة المبسطة (وفق البعض) تتطلب قدرة كبيرة على التقاط تفاصيل وثنايا لغة لا يمكن لأيّ كان أن يذهب في تجريبيتها إلى آخرها، مثلما يفعل الشاعر الذي ينحاز إلى هذا المفهوم الجديد من كتاب إلى آخر.
كتاب «بلا هوادة» يقع فعلا عند هذا الحدّ الفاصل للكلام، حين يستعير من لغة الحياة اليومية ومشاربها وتفاصيلها موضوعاته، لينطلق بها إلى هذا المناخ الذي يكتب به ضجره كله، تماما مثلما يقول في قصيدة «ضجر» (ص: 50):
«أيّهما ذريعة للآخر
القهوة أم المقهى؟
الجريدة خالية من أيّ شيء
والعيون فارغة من أيّ معنى
إلى متى سوف نغازل هذا الضجر؟».
بهذا المعنى، لا بد أن يطرح سؤال نفسه: «أيهما ذريعة للآخر عند محمد العبدالله؟ الكتابة أم الحياة؟» ربما لا أملك جوابا واضحا على هذا التساؤل، وإن كنت أميل إلى القول، إن لغته لا تشبه الحياة، بل صارت حياتنا تشبه هذه اللغة التي يكتبها الشاعر والتي بدأ الحفر فيها، مؤخرا، باضطراد من كتاب إلى آخر.
بمعنى ما، يبدو كتاب «بلا هوادة» نابعا من اللغة والعوالم التي وجدناها بوضوح في مجموعتين سابقتين للشاعر هما «حال الحور» (دار الحرف العربي ـ 2005) و«زهر الصبار» (دار الفارابي ـ 2008). لكن ما هذا التشابه، في الواقع، سوى هذه المحاولة للذهاب أكثر في اللعبة الشعرية التي اختارها محمد العبدالله، أي «أكتب فصلا جديدا في خريف الفصول» كما يقول في قصيدة «ديانا» (ص: 63). لكن بالتأكيد لسنا أمام كتابة خريفية، إذ ما تزال اللغة نضرة، وتحاول أن تبني أسوارها المتعددة.
تعليقات: