منذ سنين طويلة، وأنا أتوهّم أنني أعيش في البلد الأكثر علمانية والأقل تديّناً في العالم. وتلك، بالنسبة لي، سعادة لا تضاهى! وها أنا أكتشف أنني لم أكن سوى «أحمق سعيد»، كما يقول التعبير الفرنسي! فقد استفقتُ أخيراً على مقالة تصدّرت صفحة الرأي في «لوموند»، تدعو الوافدين الجدد إلى فرنسا من المسلمين إلى التحلّي بالاحتشام وتفادي الزّهو، احتراماً للهوية الكاثوليكية للمجتمع الفرنسي!
لم تحمل تلك المقالة توقيع المونسنيور لوفيبر أو أحد أتباعه من غلاة «الأصولية الكاثوليكية»، الذين نبذهم البابا الراحل يوحنا بولس الثاني، لما يشوب دعوتهم من نوستالجيا كولونالية ذات منحى فكري يميني متطرف. بل كانت مقالة بقلم «الموسيو» ساركوزي، الذي يجدر التذكير بأنه يرأس جمهورية تنصّ المادة الأولى من دستورها على علمانية الدولة وإقصاء الدين من الفضاء العمومي!
في الظاهر، جاءت تلك الدعوة للاحتشام، تعليقاً على استفتاء منع المآذن في سويسرا (ما حاجة الرئيس الفرنسي للتعليق على شأن داخلي لا يعني سوى السويسريين؟). لكنها، في حقيقة الأمر، لم تكن سوى فصل جديد في مسلسل الإسلاموفوبيا، الذي مثّل على الدوام إحدى دعائم الفكر الساركوزيّ.
وقد بدأ ذلك أيام كان «نيكولا الصغير»، كما يلقّبه خصومه اليساريّون، وزيراً للداخلية ومرشّحاً للرئاسة، حيث لم يتردّد في التلاعب بالإحصاءات الوزارية المتعلقة بالانحراف والإجرام، للإيحاء بأن البلاد تعاني انعدام الأمن، وربط ذلك بأحياء الضواحي والمهاجرين المسلمين، أملاً في استقطاب أصوات ناخبي اليمين المتطرف.
لم يكن نزيل الإليزيه ليتخلى عن فزّاعة الإسلاموفوبيا، بعدما أثبتت فاعليتها، ولعبت دوراً بارزاً في إيصاله إلى سدّة الحكم. لذا، استحدث وزارة عجيبة غريبة أسماها «وزارة الهوية الوطنية والهجرة». يومها، احتجّ كثيرون على «الردّة الرجعية» التي يمثّلها تأسيس وزارة للهوية الوطنية في موطن الفكر الكوسموبوليتي، حيث شعار الدولة: «الحرية ــــ المساواة ــــ الأخوة».
لكن تلك الاحتجاجات المنادية بالتصدي للمنحى التحريفي للساركوزية، بوصفه تهديداً لإرث «الثورة الفرنسية»، حجبت قنبلة موقوتة أخرى تمثلت في ربط «الهوية الوطنية» بالمهاجرين. قلّة نادرة جدّاً من المحللين الفرنسيين فطنوا، عندما تأسّست تلك الوزارة، قبل عامين ونيف، بأنها تنطوي على منزلق آخر لا يقل خطورة، يتمثل في اللعب على وتر الشوفينية لجعل «الهوية الوطنية» رديفاً لمعاداة الأجانب والفرنسيين المتحدّرين من أصول مهاجرة.
المقرّبون من ساركوزي ردّوا على حملة شنتها مجلة «ماريان» في هذا الشأن، بأن الرئيس لا يمكن أن ينجرّ إلى منزلق التفرقة العرقية، لأنه هو نفسه يتحدّر من أصول مهاجرة! لكن، مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي المتعلق بتجديد حُكّام المقاطعات الفرنسية («الانتخابات الجهوية»، التي ستجري في آذار/ مارس المقبل)، وحيال الاستطلاعات التي ترجّح بروز نوع من «الاقتراع العقابي» ضد الائتلاف الرئاسي للتعبير عن استياء الناخبين من الأداء الساركوزي، على كل الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لم يتردّد «ابن المهاجر المجري» عن إشهار العصا السحرية مجدّداً لمغازلة ناخبي اليمين المتطرف، أملاً في الالتفاف على الغضب المتصاعد الذي بدأ يصل إلى صفوف الحزب الموالي له، بعد رفض عدد من النواب وأعضاء مجلس الشيوخ الموالين لحزب الرئيس أخيراً التصديق على بعض قوانينه المجحفة، التي رأوا فيها استفزازاً للطبقات الشعبية الأكثر تضرّراً من الأزمة.
وهل من وسيلة أفضل، لاستقطاب أصوات اليمين المتطرف، من اللعب على وتر الإسلاموفوبيا؟ هكذا، تحيّنت وزارة الهوية الوطنية والهجرة الأجواء المحمومة التي أفرزها استفتاء منع المآذن في سويسرا، لإطلاق «نقاش وطني» موسّع حول ماهية الهوية الفرنسية، سرعان ما تحوّل، كما هو مخُطَّط له، إلى نقاش حول الإسلام وهل يمثّل تهديداً للقيم الفرنسية!
لن تتوقف الأمور عند هذا الحدّ، بل ستتبعها خلال الشهر المقبل، عشية انطلاق الحملة الانتخابية، خطوة أخرى تتمثل في طرح مشروع قانون أمام البرلمان الفرنسي لحظر ارتداء «النقاب» أو «البرقع» في فرنسا، بحجة أنه يتنافى مع «القيم الجمهورية». ويأتي ذلك رغم أن تحقيقاً برلمانياً بيّن أن عدد المبرقعات في فرنسا لا يتجاوز 150 امرأة، ورغم أن أصواتاً كثيرة، من المثقّفين المدافعين عن العلمانية تحديداً، اعترضت على مثل هذا الحظر، بوصفه تضييقاً على الحريات الشخصية. على اعتبار أن القيم الفرنسية تتمثل تحديداً في تلك الحرية اللامحدودة، التي تسمح بتجاور وتعايش الـ«ميني جوب» و«البرقع»!
كيف يمكن أن تمثّل 150 امرأة تهديداً لهوية بلد يتجاوز تعداد سكانه 60 مليوناً؟
لكن الحكومة الساركوزية أصرّت على حظر «النقاب» بوصفه تهديداً لـ«الهوية الوطنية». تساءل كثيرون: كيف يمكن أن تمثّل 150 امرأة تهديداً لهوية بلد يتجاوز تعداد سكانه 60 مليوناً؟ إلا أن الماكينة الساركوزية لن يوقفها أي وازع. ألم يتدخل الرئيس ووزيرته للعدل رشيدة داتي، قبل أشهر، لإلغاء حكم قضائي أُصدر في «ليل» قضى ببطلان عقد زواج، لأن الزوجة غشّت زوج المستقبل، وأوهمته بأنها عذراء؟
أقام أقطاب الساركوزية الدُّنيا، حين تبيّن أن الزوجين المتنازعين مسلمان، وارتفعت أصواتهم بالتحذير من مخاطر تطبيق «الشريعة» في فرنسا! عبثاً حاولت نقابة القضاة التوضيح بأن إلغاء عقد الزواج المذكور استند فقط إلى بند في قانون نابليون (قانون الأحوال المدنية) ينصّ على بطلان أي زيجة يتضح أنها كانت مبنيّة على غش أحد الطرفين للآخر، بقطع النظر عن كون الأمر يتعلق بغشاء البكارة أم بلون العينين أو الشعر!
لكن «الموسيو» ساركوزي ووزيرته ذات الأصل العربي، التي كانت قد أنجبت خلال الشهر ذاته مولوداً خارج الزواج، وذلك حقها الكامل (يُطالب أحد بتطبيق «الشريعة» عليها كونها «فرنسية مسلمة»)، أصرّا على إلغاء ذلك الحكم، ضاربين عرض الحائط بمبدأ استقلالية القضاء، بحجة أن مفهوم البكارة يتنافى مع القيم الفرنسية.
حيال تلك التمثيلية التراجي ــــ كوميدية، ردّد العديد من المحلّلين المثل الفرنسي القائل Le ridicule ne tue pas (الأضحوكة أو «الهُزْأَة» لا تقتل). لكن التاريخ علّمنا أن مثل هذا النوع من اللعب بنار النعرات الشوفينية يكون له دوماً مفعول قاتل!
* كاتب وصحافي جزائري مقيم في باريس
تعليقات: