جزء من الموقع وتبدو حفرتين من الحفر التي حفرها اللصوص
الموقع يعود إلى الحقبتين الرومانية والبيزنطية ويُعتبر امتداداً لكامد اللوز..
المحيدثة:
لم تنج المدينة الأثرية المعروفة باسم «كفير العبس» في خراج بلدة المحيدثة في قضاء راشيا من عبث اللصوص الذين أقدموا تحت جنح الظلام، في غفلة من الأهالي على العبث بكنوزها الأثرية التي تمثل حضارات شعوب تاريخية مرت أو استوطنت هذه البلاد. واستولى اللصوص على ما وصلت إليه أيديهم من كنوز تمهيداً لبيعها.
وتعتبر «كفير العبس» واحدة من أكبر المدن التاريخية وأهمها حضارة، بعد كامد اللوز (كاميدوس)، إن لم نقل بموازاتها، وكانت لا تزال قائمة بكل معالمها ومواصفاتها وهياكلها ومغاورها وآبارها الصخرية حتى يومنا هذا، لكنها منسية ومغيبة عن دائرة الاهتمام الرسمي، باستثناء ما وصلها من «نعمة» إدراجها على خريطة المواقع الأثرية في لبنان. وبقيت كنوز «كفير العبس» التاريخية التي تختزنها المنطقة مهددة بالزوال، إثر تعرضها للتخريب والسرقة منذ حوالى اسبوع، على أيدي لصوص استخدموا حفارة وآلات أخرى معدة للحفر والتفجير، مستغلين ظلام الليل لتنفيذ فعلتهم.
وتقع منطقة «كفير عباس» على قمة مرتفع مطل على منطقة البقاع الغربي لناحية الغرب، وتواجه قمم جبل الشيخ وما تحويه من آثارات شرقاً، وهي تبعد من ثلاثة الى اربعة كيلومترات عن بلدة المحيدثة لجهة الغرب. وتغطي الآثار فيها منطقة لا تقل مساحتها عن 15 دونماً، وهي عبارة عن كتل صخرية ضخمة، تحوي عشرات النواويس والقبور والمغاور المنحوتة، الى جانب المدرجات والمصاطب والآبار المنحوتة بالصخر لتجميع المياه، ناهيك بانتشار القلاع والحصون الصخرية. وبالأمس وفي خلال جولة على موقعها بدا التخريب والعبث واضحين، وتمثل الاعتداء بعشرات الحفريات العميقة التي تم ردمها على عجل، تمويهاً على ما اقترفته أياديهم من أذية.
وتنبسط أمام المنطقة مساحة تقدر بمئات الأمتار المربعة، بدت كأنها كانت ساحة للعمل اليومي للعامة من أبناء المدينة الأثرية، نظراً لانتشار آبار تجميع المياه و«مداعس» منحوتة بالصخور، وهي بالأشكال والأحجام كافة. وكانت تستخدم على ما يبدو لسحل المواد الأولية، لاستخراج زيوتها، فيما يشبه معاصر العنب القديمة، حيث يعتقد ابناء القرى المجاورة أن المنطقة كانت بمثابة المصنع لاستخراج دبس العنب وزيت الزيتون، وزيت اللوز والجوز، فضلاً عن تصنيع الأدوية التي كانت تستخرج في تلك الحقبة من الزمن من بزور (نوى) العنب. ويرتبط اعتقاد هؤلاء ببقايا أشجار الجوز والزيتون المعمرة، وبساتين اللوز وكروم العنب التي ما زالت عشرات الأشجار منها قائمة كدليل حي في محيط المدينة حتى يومنا هذا. كما تحتوي هذه المنطقة على بئرين لتجميع المياه، تعجز عن تصميمهما ونحتهما وتظهيرهما بهذا الشكل المكاتب الهندسية والآلات الحديثة.
ويصف رئيس بلدية المحيدثة نبيل جمال آثار المنطقة بالثروة التاريخية، كونها تمثل حضارات أكثر من حقبة زمنية في التاريخ، بحيث تعود بحسب علماء الآثار الى العهدين البيزنطي والروماني. ويرى جمال «أن أهميتها تكمن في أن معالمها ظلت قائمة، بعدما غابت خلال الأحداث التي عصفت بلبنان عن أعين لصوص الآثار، الذين عبثوا بمعظم الكنوز الأثرية التي تمثل حضارات شعوب استوطنت أو مرت على بلادنا».
ويعتبر جمال أن أعمال التخريب التي تعرضت لها المنطقة منذ حوالى الاسبوع كارثية «بعدما عبث اللصوص بالمعالم والنواويس والمغاور القائمة وذلك باستخدامهم معدات ثقيلة للحفر». وأشار إلى أنه «يبدو أن اللصوص عملوا تحت جنح الظلام، وفي غفلة من الأهالي، نظراً لبعد المنطقة عن الاماكن السكنية، لافتاً الى أن المجلس البلدي أبلغ القوى الأمنية ومديرية الأثار بواقع الأمر، بحيث سارعوا الى الكشف على ما اقترفته الأيادي المجرمة التي لا تفهم معاني التاريخ، ولا تفقه أهمية الحضارات التي تمثلها الشعوب». وأشار جمال إلى أنه «تم وضع التقارير والمحاضر بهدف ملاحقة الفاعلين، وإحالتهم على القضاء المختص لإنزال العقوبات بهم، مؤكداً «أن المجلس البلدي لن يتوانى لحظة عن متابعة القضية لكشف العابثين».
وحث جمال المعنيين في مديرية الآثار التابعة لوزارة السياحة الى تصنيف منطقة « كفير العبس « كمنطقة سياحية، والعمل على تعبيد الطريق التي تربطها بالبلدة، ليتسنى للزوار الوصول إليها، الى جانب إتخاذ قرار بالتنقيب في المنطقة لكشف حقيقة الحضارة التي تمثلها.
ولفت جمال الى أن المجلس البلدي وضع على لائحة إهتماماته، أولوية الحفاظ على الثروة الأثرية، بالتعاون مع مديرية الآثار.
ويؤكد عضو المجلس البلدي في المحيدثة الدكتور محمود الشوفي، أن آثار «كفير العبس» تعود إلى حقبة تاريخية غير معروفة على الأقل بالنسبة لأبناء البلدة، إنما ما سمعه وما عرفه بالتواتر من المسنين، من غير توثيق رسمي، يشيران الى ان آخر عائلة سكنت هذه المنطقة وهجرتها هي من «آل السيقلي» وهي عائلة كبيرة ومعروفة اليوم في بلدة كفرمشكي القريبة.
ويلفت الشوفي إلى أن أهالي البلدة حافظوا على هذا المعلم الحضاري التاريخي، وتمكنوا من تجنيبه التخريب أو التهديم أو السرقة، خلال الأحداث التي عصفت بلبنان.
ويوضح الشوفي بأن رعاة الماشية والفلاحين ما زالوا يستفيدون من مياه البئرين الصخريتين للمنطقة في ري الأراضي الزراعية وسقي الماشية، مشيراً إلى أن المنطقة تعرضت للتخريب والنهب منذ سنوات بأدوات يدوية، «لكن يبدو أن اللصوص طوروا عملهم هذه المرة، مستخدمين آلات ثقيلة وحديثة للحفر لإزالة الصخور الضخمة»، مؤكداً أن مديرية الآثار والقوى الأمنية أخذت علماً بهذا العمل التخريبي، وتم الكشف ميدانياً على اعمال التخريب، وتم تسجيل محضر بواقع الأمر.
واعتبر الدكتور الشوفي أن المحافظة على هذا الموقع الأثري الذي يعود تاريخه الى آلاف السنين، هي جزء من المحافظة على الأرض والوطن، وطالب مديرية الآثار بالتنقيب وكشف الحقبة التاريخية التي تعود إليها هذه الحضارة، الى جانب ترميمها وتأهيلها وتحويلها الى معلم سياحي معروف، يحمل في مضمونه المستقبلي، نظرة اقتصادية للواقع السياحي والأثري في راشيا.
ولفت مدير محترف راشيا للثقافة والفنون شوقي دلال إلى أهمية هذه المنطقة الأثرية، كونها تعتبر امتدادا تاريخي لآثار كامد اللوز، والى كونها ايضاً كانت مقراً لملوك بيزنطيين ورمانيين في الألفين الأول والثاني قبل الميلاد، بحيث يستدل على ذلك من المدافن والنواويس والمغاور المنتشرة بصورة واضحة بمواجهة جبل حرمون، فضلاً عن بقايا الفخاريات ذات اللون الفاقع. ويلفت دلال إلى أن الموقع يحوي أيضاً آثاراً تعود الى العهد الروماني، ولا سيما ان الآثار البيزنطية بنيت على أنقاض الرومانية، مؤكداً ان المدافن المحفورة في الصخر ذات الفتوحات المقابلة لجبل حرمون، تكسب المنطقة قدسية دينية، وهذا ما تدل عليه معظم الآثارات الممتدة من قب الياس الى عميق الى السلطان يعقوب وكامد اللوز ومعبد النبي صفا وكفردينس امتداداً إلى الهبارية وعين عطا وغيرها الكثير من المعابد المنتشرة على جانبي حرمون. وينبه دلال الى عملية التخريب التي تتعرض لها هذه الآثارمطالباً بمراقبة الموقع حرصاً على محتوياته.
ويطالب دلال الدولة باستحداث فصيلة من الشرطة السياحية، يكون مقرها قلعة راشيا وتزويدها بالمعدات والعناصر الكافية لملاحقة لصوص الآثار وكل من تسوله نفسه المساس بالمعالم الأثرية والتراثية والسياحية، كما يحث مديرية الآثار ووزارة الثقافة على إدراج الموقع وغيره من المواقع الأثرية في المنطقة على خريطة الاستكشاف، لتمكين المجموعات العلمية الأجنبية والمحلية المختصة بعلم الآثار، من كشف النقاب عن تاريخ هذه الحضارات.
ويطالب دلال بإقامة متحف في قلعة راشيا، تعرض فيه القطع الاثرية المستخرجة من المنطقة بعدما أهّلت مؤسسة الوليد بن طلال الإنسانية بعض الأجنحة والأقسام في القلعة.
تعليقات: