لا يمكن لمحاضرة يلقيها الدكتور أسعد أبو خليل أن تبدأ بهدوء. أستاذ العلاقات الدولية في جامعة كاليفورنيا، الذي يُعرف باسم مدوّنته على الإنترنت: «العربي الغاضب»، يعرف تماماً كيف يلاقي جمهوره. وبما أن اللقاء كان في «قاعة عصام فارس»، في «الجامعة الأميركية في بيروت»، بدعوة من «النادي الثقافي الفلسطيني» فيها، فلا بد من تفسير يستهل به أبو خليل حديثه: «هذه الجامعة التي أتحدث فيها اليوم، بيني وبينها عداء مستحكم.. على جدرانها كتبت شعارات ثورية، ورسمت مطارق ومناجل وكلاشينكوفات».
إشارة كهذه هي للتعبير عن رفض الكثيرين لما تمثله هذه الجامعة بالتحديد، كما يقول. وما تمثله يحكي عنه أبو خليل بلغة الوثائق المنشورة عن تاريخها: لم يوارب بعض رؤسائها وكبار الموظفين فيها في طلب تدخل عسكري أميركي في عدة دول في المنطقة. ولم تتوانَ عن ممارسة دور سافر في «مكافحة» الشيوعية في بيروت. وقد تسرب الفكر الصهيوني إلى مناهجها الدراسية. وأيضاً: كان رؤساؤها، مع رؤساء الحكومات اللبنانية، يبحثون أفضل السبل لقمع المتظاهرين والمتضامنين مع فلسطين.
من هنا، يدخل أبو خليل إلى عنوان المحاضرة: «فلسطين في السياق اللبناني». فالجامعة هي عنصر من العناصر التي ارتبطت، كغيرها من المكونات السياسية في البلد، بمواجهة القضية الفلسطينية، حسبما يقول.
وقضية فلسطين، بحسب المحاضر، لا يجب أن تُختزل بالأرض، ولا بالرموز المرتبطة بها. ليست القضية فقط أشجار الزيتون والبرتقال ومفاتيح المنازل المحفوظة في مخيمات اللاجئين. هي أيضاً المقاومة المستمرة منذ قرن من الزمن، وهي رفض الانصياع الممثل بالأنظمة العربية للمشيئة الإسرائيلية، يقول أبو خليل.
والحديث عن القضية في السياق اللبناني لا بد أن يبدأ من نشأة الكيان. نشأة يرى أبو خليل أنها تماثل نشأة الكيان الصهيوني. فالقابلة القانونية لها هي نفسها: الاستعمار الغربي.
وفق هذا التسلسل الزمني، يتابع أبو خليل استعراض المراحل التي مرّت بها القضية الفلسطينية في لبنان، أمام جمهور بمعظمه شاب، ملأ مدرجات القاعة وأدراجها. في عهد الرئيس فؤاد شهاب، يتحدث عن العقيدة العسكرية للجيش اللبناني ودورها في تحييد البلد وطمأنه إسرائيل.
وفي المرحلة ذاتها، يتحدث عن المكتب الثاني الذي تسلم زمام التسلط على الشعب الفلسطيني وقمع المخيمات. سياسة يستنتج أبو خليل أنها كانت مخططة ومرسومة، بحسب ما تكشف له الوثائق، بهدف «السيطرة على هؤلاء الذين يجنحون للثورة».
وفي السياق نفسه، يضيف أبو خليل: «عندما نتذكر ما فعلته بعض التنظيمات الفلسطينية (وليس جميعها) في لبنان، علينا أن نتذكر أيضاً، في الجانب الإنساني، ما عاشه وعانى منه الفلسطينيون في المخيمات، في مرحلة الخمسينيات والستينيات».
وفي مرحلة الحرب الأهلية، يتحدث عن اتفاق 17 أيار عام 1983، «الذي رُفض بالقوة وليس بالسياحة والرخاء». اتفاق رُفض تحت ضغط عنفي لا سلمي. إشارة وجهها أبو خليل إلى «بعض الحاضرين بيننا من دعاة اللاعنف».
إشارات كهذه، التي يشتهر بها «العربي الغاضب» عادة، كانت تلقى تأييداً من جمهور بدا واضحاً أنه لا يقلّ غضباً عن المحاضر نفسه.
يتابع أبو خليل سرد المراحل التاريخية التي مرت بها القضية الفلسطينية في لبنان، وما تعرضت له من مؤامراتٍ لم يستثنِ المحاضر أيّاً من الأطراف المحلية والإقليمية، من الاتهام بالمشاركة في التدبير لها. يصل إلى السلوك الثوري لقيادة أبو عمار وإصراره على القطرية، الأمر الذي أدّى، بحسب أبو خليل، إلى إبعاد الشعوب العربية عن القضية الفلسطينية. وفي هذه الأثناء، يعيد التذكير بدور «حزب الكتائب» والحركة اليسارية الثورية خلال الحرب.
انتهت الحرب ولم ينته استهداف فلسطين وأهلها: تحقير الشعب الفلسطيني، المساواة بين المخيمات والإرهاب والإجرام، كتابة التاريخ على أساس المنهج الكتائبي، رفع شعار رفض التوطين الذي يخفي المطالبة بطرد الفلسطينيين.. و«كل ذلك جرى بتواطؤ الجميع، بمن فيهم سوريا وحلفاءها في لبنان».
الحقبة الحالية كانت الأكثر إثارة في محاضرة أبو خليل، بالنسبة إلى الجمهور. يستعين المحاضر بما اشتهر به من كلمات وعبارات حادّة، ليتناول «ثورة حراس الأرز»، كما يحلو له تسمية «ثورة الأرز»، وعلاقتها بما كان يخطط للمنطقة وضرب القضية الفلسطينية. وفي السياق، شدد أبو خليل على الوثائق والكتابات والمقابلات التي نشرت بمعظمها في الغرب.
اللقاء الذي بدأ بتواطؤ شبه كامل بين المحاضر وجمهوره، انتهى إلى ما يشبه المناظرة. ختم أبو خليل كلمته، ثم توالت أسئلة قليلة عن الدور الذي يمكن لطلاب الجامعة أن يؤدوه في ظل «الحصار» المفروض عليهم. أبو خليل، الذي جاءت إجاباته مختصرة، علّل ذلك برفضه لمنطق النخبة التي تعرف الحلول وتفرضها على المعنيين الفعليين بإيجادها.
لاحقاً، تحوّلت الأسئلة المختصرة إلى مداخلات مطولة، تصدى خلالها أصحابها إلى الاتهامات التي وجهها أبو خليل لياسر عرفات حول دوره في إضعاف القضية الفلسطينية، من خلال تمسكه بشعار «القرار الفلسطيني المستقل». المداخلات هذه قسمت الجمهور بين مصفق للمحاضر ومؤيد لما قاله، وبين مستهجن لصمته وامتناعه عن التعليق. لكن الردود التي غلب عليها التذكير بشهداء القضية، في زمن ياسر عرفات، بدا واضحاً في لهجتها أن فيها أيضاً الكثير من الغضب تجاه ما آل إليه مصير فلسطين، وإن اختلفوا مع أبو خليل بالتفسير.
تعليقات: