منتظر الزيدي: العراقي الذي دخل التاريخ من دون حذاء

منتظر الزيدي: العراقي الذي دخل التاريخ من دون حذاء
منتظر الزيدي: العراقي الذي دخل التاريخ من دون حذاء


الحذاء بنّيّ، ملمّع بعنايةِ رجل أنيق. كعبه أسود، ومقاسه... المقاس غير واضح. مع ذلك، تشعر بنظرك معلّقاً إلى الحذاء. إنّه أول ما يتجه نظرك إليه عندما تلتقي منتظر الزيدي: الحذاء! ذلك الذي أدخله التاريخ من الباب الكبير، فيما كان الكاوبوي يتهيأ للخروج من المدخل الخلفي. تستعيد المشهد في رأسك مجدداً، وتتذكّر وجه جورج بوش المذعور، فيما فردة منتظر الثانية تطير فوق الرؤوس. لقد أطلق الصحافي العراقي الشاب فعل احتجاج سلمي ورمزي، سيبقى في ذاكرة القرن الحادي والعشرين.

التقينا منتظر الزيدي في بيروت. لا يشبه الصحافي الشاب الذي يتنقّل بين أوروبا وبيروت، تلك الصورة التي رسمناها في أذهاننا، ولا الكليشيهات التي روّجتها بعض وسائل الإعلام الغربية و... العربية. تتخيّله دائم العبوس، فتراه ضاحكاً يردّد أبيات الشعر. تتخيّله مضطرباً بعد التعذيب الذي تعرّض له في معتقلات «الديموقراطيّة» و«حقوق الإنسان» على طريقة اليانكي، فتُفاجأ به شاباً أنيقاً، يزن كلماته ويدرك جيداً خطورة المخططات التي تحاك للمنطقة. تتخيّله باحثاً عن الشهرة، فإذا به يرفض الحديث عن نفسه إلا في الإطار العراقي العام.

البداية طبعاً، من الحذاء، الذي حوّله في دقائق إلى بطلٍ عربي. يذكر الشاب الأسمر، والهادئ الملامح، ذلك اليوم جيداً. كل التعذيب في الاعتقال لم ينسِه تفصيلاً واحداً من تلك الحادثة: كان ذلك في 14 كانون الأول (ديسمبر) 2008، وصل الرئيس الأميركي بوش إلى العراق، وقرّر إقامة مؤتمر صحافي مفاجئ مع رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي. اتخذ الصحافي الشاب قراره، وأبلغ القناة التي يعمل فيها أنّه سيغطّي المؤتمر. دخل الرئيسان، وبدآ بالكلام. ما هي إلا دقائق، حتّى نطق منتظر بالشهادتين، خلع حذاءه وأطلقه باتجاه بوش، صارخاً بكلّ القهر الجاثم على صدره منذ سقوط بغداد: «هذه قبلة الوداع يا كلب».

لكن قبل الحذاء وقبل المقاومة... كان العراق، وكان شاب يحلم بمستقبل مزدهر لبلاده بعيداً عن الاحتلال والديكتاتورية. هل تذكرون مقابلته مع الإعلامي اللبناني زافين قيومجيان في 2008؟ يومها صرّح بأنه يريد أن يصبح رئيساً للوزراء. اليوم، يبدو ابن مدينة الصدر بعيداً كل البعد عن «هذه الأحلام المشروعة لكل عراقي» كما يقول. نظره مركّز إلى مكانٍ آخر. مكان لا يدخله فساد السياسيين ولا تحكمه سلطة الغزاة. «أريد أن أبقى مع شعبي، العراقيون يحبونني اليوم. لكن إن أصبحت سياسياً، فسأصبح مكروهاً». يبتسم ابتسامة الواثق ويقول: «أنا الناطق الشعبي باسم المظلومين العراقيين».

ليس غريباً على «الرجل الذي رمى الحذاء» ـــــ كما تعرّفه الصحافة الغربية ـــــ أن تكون لديه تلك العلاقة الحميمة مع شعبه. كوّن وعيه السياسي في كنف عائلة، لم تنتم إلى أي حزب «نحن وطنيون عراقيون» يقول. ورغم تكتّمه على تفاصيل حياته الخاصّة ـــــ باستثناء اعترافه بأن أخاه ميثم هو الأقرب إليه ـــــ يعود قليلاً إلى الوراء، يوم كان يرى سنّة وشيعة ومسيحيين وتركماناً وأكراداً مجتمعين من دون أي تمييز: «كان الجميع يعتبرون أنفسهم عراقيين، رغم الاختلاف في وجهات النظر السياسية». تلك الصورة كانت تلازمه حين شقّ طريقه إلى كلية الإعلام في «جامعة بغداد»، لتبدأ قصّة حبّ بينه وبين «مهنة المتاعب». ينتفض بشراسة حين ينتزع منه أحد صفة الصحافي: «الصحافة مرادف للإنسان بالنسبة إليّ. لقد عشقت هذه المهنة إلى حدّ العبادة، وأنا صحافي حتى الأبد». أما الذين انتقدوه بعدما رمى بوش بالحذاء، غيرة على المهنيّة، فيستغرب أنّهم لم ينتبهوا إلى أنّه مواطن تحت الاحتلال: «ثاروا على المهنية، لكنهم لم يثوروا لكل ما يعيشه العراق تحت الاحتلال».

تعود أساريره لتنفرج، وهو يتذكّر السنوات التي قضاها في تلفزيون «البغدادية» مراسلاً ميدانياً: «كنت أجول في كلّ المناطق من دون أن آخذ في الاعتبار خطوط التماس التي رسموها لنا». لكنّ هذا الاندفاع لم يكن من دون مخاطر. هكذا تصدّر اسمه عناوين الصحف العراقية صباح 17 تشرين الثاني (نوفمبر) 2007. قبل هذا التاربخ بيوم واحد، تعرّض للاختطاف على يد جهة مجهولة. ثم أُطلق سراحه بعد ثلاثة أيّام في عملية لم يكن لها أبعاد سياسية، كما أكّد مراراً، بل كان ضحية استهداف الصحافيين من قبل تنظيمات أغلبها مجهولة الهوية.

ولم تكن تلك العملية سوى «بروفة» للمأساة التي سيعيشها بعد «عمليّته الانتحارية» ضدّ بوش: انقضّ عليه رجال الأمن، أخذوه إلى الباحة الخلفية للقاعة التي عقد فيها المؤتمر وانهالوا عليه بالضرب. كسروا أنفه ورجله وأسنانه، واستمرّ التعذيب أياماً من دون أن يفهم المحقّقون دافعه الحقيقي «ضربوني بالخواتم التي يلبسونها في أصابعهم... كانوا كلّهم من المؤمنين».

لكن أيام التعذيب الجسدي انتهت، ويبدو الزيدي أكثر ثقة بقدرته على تحقيق «شيء ما» ملموس على أرض العراق. وقد تكون «مؤسسة منتظر الزيدي» التي أسسها في جنيف، هي الخطوة الأولى في سبيل تحقيق أحلامه. المؤسسة التي تموّلها جهات مختلفة تهدف إلى مساعدة ضحايا الاحتلال من أرامل وأيتام ومعوّقين، إضافة إلى عائلات شهداء الصحافة: «سنقوم بإنشاء مشاريع استثماريّة منتجة ومفيدة، تحتضن هؤلاء الضحايا». وبين كلّ هذه الانشغالات والطموحات والأحلام، تبدو بيروت في حديث الزيدي، جنّة العالم العربي. يقول «بيروت هي حبيبتي». وللتعبير عن حبّه لهذه المدينة، يستشهد بما يقوله أخوه ميثم بأنّ العاصمة اللبنانية مثل الخالة «حين يخسر الولد أمه، تصبح خالته ملجأه. وكذلك نحن، خسرنا العراق حالياً، فبيروت هي حاضنتنا».

يعبّر منتظر عن تقديره للمبادرة العربيّة بإرسال معونات إلى هايتي المنكوبة بالهزّة الأرضيّة... قبل أن يستدرك: «ليتهم يفعلون الشيء نفسه مع غزّة. غزة أولى بالمعروف، وكذلك العراق». أما أمنيته الأغلى اليوم، فلن تفاجئكم على الأرجح: أن يرى «جورج بوش خلف القضبان». يريد أن يحاكمه «بصفته مجرم حرب». لكن لعلّه يعرف في قرارة نفسه أن تلك «الأمنية» قد يصعب تحقيقها في وقت قريب.

5 تواريخ

1979

الولادة في مدينة الصدر، بغداد

2005

بدأ العمل في قناة «البغدادية»

2007

اختطافه على يد جهة مجهولة

2008

رمى جورج بوش بالحذاء

2010

يعمل في مؤسسته الإنسانية بعدما أُطلق سراحه عام 2009. ويُطلّ مساء غد مع غادة عيد في برنامج «الفساد» (21:30 بتوقيت بيروت)

تعليقات: