شارع الحمرا متى يستعيد بريقه؟
هنا كل شيء له نكهة... مطاعم ومقاهٍ ومكتبات تعيد إليّ شيئاً من الماضي
يختزن شارع الحمرا ذكريات العديد من اللبنانيين، ولا سيما من عاش الحقبة الذهبية للشارع في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. إلا أن الوضع الحالي للحمرا يبدو مختلفاً عما كان عليه رغم النهضة الاقتصادية التي يشهدها الشارع من ناحية إعادة افتتاح المطاعم وعودة الحياة الثقافية إلى قسم من مقاهيه
يجلس علي العلي وسمير عجوز في «بار» مقهى الريغوستو. يتحدثان بشغف «عن تجربتهما مع شارع الحمرا»، يقول علي: «أنا آتي دائماً إلى هنا. لا يحلو لي تناول الغداء في مكان آخر، في هذا الشارع خليط جذاب من كل العالم، هنالك الغني والفقير، الطلاب والأغنياء والشحاذون، فكيف لا أحب الحمرا؟»
يثني سمير على تعليق رفيقه، ويعبر عن إعجابه وتعلقه بشارع الحمرا: «أنا أسكن في الضاحية الجنوبية، وأعمل في الحمرا، لذلك تعودت على الحياة هنا بكل اختلافاتها». يصمت محاولاً إيجاد التعبير الذي يناسب انجذابه للحياة في الحمرا ويقول: «هنا الحمرا وهذا يكفي. أجد فيها خليطاً يستحيل إيجاده في أي منطقة أخرى في بيروت إن لم أقل لبنان».
تعصّب علي وسمير لشارع الحمرا لا يخفي أسفهما على بعض التراجع الذي شهده الشارع في الآونة الأخيرة، ولا سيما في الليل. فيقول علي: «في الليل تموت الحياة في شارع الحمرا»، وذلك، بحسب رأيه، بسبب الأوضاع الأمنية المتردية التي يشهدها لبنان، ولا سيما موجة التفجيرات المتنقلة. وإثباتا لكلامه، يستعين علي بصاحب المقهى ناجي غندور الذي يؤكد أنه في السنوات السابقة كانت المقاهي تعمل على مدار أيام السنة دون توقف، أما الآن فالوضع مختلف. إذ إن الزبائن خائفون من عدم الاستقرار الأمني منذ حرب تموز حتى اليوم. إلا أن انفراجات بدأت تظهر في شارع الحمرا كما يقول غندور، إذ إن عدداً من المطاعم افتتح أخيراً.
جولة في شارع الحمرا تؤكد ما قاله غندور، فأكثر من أربعة مطاعم ومقاهٍ افتتحت في الأسابيع الماضية، وعدد آخر يتم التحضير لافتتاحه، كما إن زحمة الشباب المتهافتين على المقاهي توضح الصورة أكثر.
قبل الحرب الأهلية، كان شارع الحمرا يشهد ازدحاماً من السياح، لكنه كان أيضاً مقراً لحياة ثقافية نشيطة، ويبدو أنه يستعيد في هذا المجال شيئاً من بريقه «أي أنه يعود إلى حالته الطبيعية» كما علّق بعض المارة، فالمقاهي «الثقافية» عادت لتشغل زوايا الشارع كـ«ة-مريوطة» وجدل بيزنطي ومقهى ليلى وكافيه دو براغ التي تزدحم بالشباب ولا سيما طلاب «الجوار» أي الجامعة الأميركية والجامعة اللبنانية الأميركية والتي تستقبل نشاطات ثقافية عديدة: موسيقية، أدبية، شعرية وحتى ترفيهية، وهي أمور ضرورية لجذب الزبائن كما يؤكد رواد هذه المقاهي، فتقول أمينة أبيض بعدما تنتهي من لعبة الشطرنج: «أجد في شارع الحمرا الحياة التي حدثني عنها أهلي، مع أنه يواكب في بعض الأحيان الحياة العصرية الشبابية التي نفتقدها في هذه الأيام، مثلاً لا يمكنني أن ألعب الشطرنج أو أن أبحث عن كتاب في أي مقهى خارج الحمرا».
أما توفيق يموت، فله حكايته الخاصة مع هذا الشارع. فالرجل الستيني لم يخطئ يوماً موعده مع «فنجان قهوة في أحد مقاهي الحمرا»، وظلّ وفياً لعادته هذه رغم الحرب الأهلية والتراجع الذي عانى منه شارع الحمرا.
يبدأ توفيق حديثه بترداد قصائد نزار قباني عن بيروت، وهو يرمي بذلك إلى التأكيد على أهمية هذه المدينة العربية التي يختصرها يموت بشارع الحمراء، يقول: «علمني حبك أن أرى بيروت امرأة طاغية الإغراء...امرأة تلبس كل مساء أجمل ما تملك من أزياء». عند انتهائه من البيت، يرتشف يموت قهوته ويعلق: «حتى طعم القهوة في الحمرا غير شكل» ويضيف: «في الماضي كنا نخرج من السينما الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، عندها تبدأ سهرتنا فنتعشى ونشرب ويكون الشارع مزدحماً أكثر مما هو عليه خلال النهار».
أما اختلاف الحمرا القديمة عن الحمرا اليوم فيختصره يموت بسبب بسيط: «الحمرا في الماضي كانت أرخص، أما اليوم فإن كل شيء صار عالي الكلفة». ويبدأ بتعداد أسعار الثياب والكتب والطعام. «في الماضي كان سندويش الفلافل بربع ليرة والشاورما بنص ليرة...»، وقبل أن ينهي حديثه، يعلّق تعليقاً مليئاً بالحنين إلى أيام شبابه في الحمرا: «الأيام يللي عشناها ما حدا عاشها، سقى الله أيام الحمرا القديمة».
«ناندو» من المطاعم التي افتتحت أخيراً ـــــ وهو سلسلة مطاعم عالمية ـــــ تدخل إليه أربع فتيات يخترن مكان جلوسهن ويطلبن لائحة الطعام. ومن تعليقاتهن يبدو أنها المرة الأولى التي يقصدن فيها هذا المكان: «ليك شو حلو المطعم، لازم دايماً نجي لهون» تقول إحداهن.
لا يخفي المسؤول عن فرع الحمرا للمطعم سلام بتديني بأن أبناء الطبقة الميسورة وحدهم يرتادونه، ويقول «وهؤلاء موجودون في شارع الحمرا بعكس ما كان يُشاع في السابق من أن الميسورين لا يقصدون الحمرا منذ فترة طويلة». أما عن سبب اختيار هذا الحمرا مجدداً فقال: «كنا نحضّر لافتتاح فرع في وسط بيروت، إلا أن اعتصام المعارضة أوقف المشروع، وافتتحنا فرعاً هنا بما أن شارع الحمراء انتعش بعد إغلاق وسط المدينة». غير أن سلام يأسف لأن «الوضع في الليل سيئ جداً في الحمرا. فمنازل معظم النواب والوزراء هنا، وبالتالي فإن الحواجز الأمنية الكثيرة ترعب الناس. لذلك يفضل عشاق السهر الذهاب إلى مكان آخر». ويتحدث عن تجربته الخاصة في هذا المجال: «أنا أعيش في منطقة الأشرفية، والعودة ليلاً إلى بيتي تستغرق أكثر من ساعة، الوضع متعب إلى حد كبير».
من ناحية أخرى، لا يمكن لمن يزور شارع الحمرا إلا أن يقوم بزيارة مكتبة عصام عياد. فهذا الرجل يختزن في ذاكرته كل تفاصيل الحياة في الحمرا منذ عام 1973 حتى اليوم. يسرد عياد أيام «عز الحمرا» كما يسميها بتفاصيل كثيرة. يروي كيف كان مقهى المودكا مقصداً لكل اللبنانيين والعرب: «كانت الحمرا داون تاون بيروت بالمفهوم الحديث»، ويضيف بأسف: «المودكا تحوّل اليوم إلى متجر للألبسة وكذلك الأمر مع الويمبي الذي أقفل أخيراً، ويتم تجهيزه ليصبح متجراً للألبسة أيضاً. أما الكافيه دو باري فوضعه تغيّر وانخفض عدد زبائنه، لولا أن الحمرا فيها بعض الوزارات والمصارف والمرافق العامة لكان الشارع مات من زمان».
إلا أن عياد يرى أن الشارع بدأ يعود إلى طبيعته على «رغم الحركة الخفيفة في الليل»، التي يراها عياد طبيعية في كل لبنان وليس في الحمرا فقط «بسبب ما يمر به لبنان» على حد قوله. وينتقل عياد إلى الحديث عن وضع السياحة إجمالاً والذي له التأثير الأكبر على انخفاض نسبة روّاد الحمرا: «معظم العرب والأجانب كانوا يأتون من المطار مباشرة إلى شارع الحمرا، أما اليوم فلا أرى أحداً منهم».
كما زحمة المطاعم الجديدة، شهد شارع الحمرا في الآونة الأخيرة ازدهار المكتبات، ويتجاوز عدد المكتبات القديمة والحديثة الـ 15كما يقول عياد: «من يحب الحياة الثقافية والمطالعة لا بد له من أن يحب شراء الكتب من الحمرا، نكهة الكتاب هنا مختلفة».
يتوقف عن الكلام ليساعد زبوناً في البحث عن كتاب قديم في مكتبته، يجده له ويعطيه إياه فيعود معلقاً: «منيح يللي العالم بعدها بتحب تقرا».
الشحاذون أيضاً مرّّوا من هنا
«وبشارع الحمرا... بيّاعين العلكة فقرا ومساكين...» يبدو أن الأغنية التي غنّاها خالد الهبر عن شارع الحمرا ما زالت صالحة في هذه الأيام. رغم مظاهر الترف التي عادت لتظهر في الشارع، تزدحم الأرصفة والزوايا بالشحاذين و«البويجيي» (ماسحي الأحذية) وبائعي العلكة.
أحمد حموي، أحد مفترشي هذه الأرصفة، رجل ستيني، شابَ شعره، رثّ المظهر. يتكّئ على عصاه ويمد يده للمارين طالباً المال ثمن أدويته وطعامه: «منذ أربعين سنة وأنا أتسوّل في هذا الشارع، عايشت أيام مجد الحمرا وفترات الحرب وأيام تحولت إلى مدينة أشباح لأن أحداً لم يكن يقصدها». يدّعي حموي أنه يعرف كل من يمر على أرصفة الحمرا، حفظ مواعيد تلامذة الجامعات والمدارس ودوامات الموظفين، وأوقات استراحاتهم، كما يقول.
حموي تأثر أيضاً بالحركة الليلية الخفيفة في الشارع، ويقول: «كنت أجمع أكبر قدر من المال في الليل لأن الشباب يقصدون الحمرا ليلاً، أما اليوم فالوضع سيئ».
الأولاد الشحاذون يحتلون أغلب الأرصفة. تجلس آية على درج قرب الرصيف تطلب المال من مارّة. ترفض المرأة إعطاءها المال، فلا تتردد بسؤالها إن كان بالإمكان أن تعطيها زجاجة العصير التي تشربها، تقبل الأخيرة، فتأخذ آية العصير وتختبئ خلف أحد الجدران لتشرب العصير وحيدةً، وتقول «إن لم أشربها في الخفاء فسيهجم رفاقي عليّ ليأخذوا العصير مني».
آية البالغة من العمر ست سنوات قضت أربعاً منها على هذا الرصيف: «هون العالم معن مصاري وبيعطوني كتير». تتوقف عن تعليقها لتطلب المال من شاب: «عطيني 500 ليرة الله يخليك»، يقول لها الشاب بأنه لا يملك المال. وما يلبث أن ينهي عبارته حتى تفاجئه آية بعبارتها: «إيه صدقتك! كذاب، قل إنك لا تريد أن تعطيني شيئاً!».
لإبنة الست سنوات أيضاً ذكريات في هذا الشارع: «مرة أتى دركي وضربني لأني رفضت أن أتزحزح من الطريق»، تصمت لتتذكر تفاصيل الحادثة: «حينها أتى صاحب أحد المتاجر وبدأ يدافع عني». تبتسم ابتسامة المنتصر وتغادر مكملة «عملها».
الشارع مشع ليلاً لكن الزوّار قلة
تعليقات: