كان الاغتيال السياسي في لبنان الطريق الاقصر الى اضعاف الخصم واحيانا شطبه من المعادلة. هكذا كان الامر مع اول اغتيال سياسي في لبنان بعد الاستقلال حين صرعت رصاصات اعضاء من الحزب السوري القومي رئيس الحكومة رياض الصلح في عام 1949 انتقاما منه لتوقيعه على مرسوم اعدام زعيم الحزب انطون سعادة.
واراد القوميون باغتيال الصلح في عمّان التأكيد على قدرتهم على الضرب في اي مكان يختارونه. لكن البعد السياسي للاغتيال هو الاطاحة باحد اركان الصيغة اللبنانية ورجل من رجالات الاستقلال ولذلك يقرأ اغتيال الصلح من الجانب الاكثر تأثيرا على لبنان.
ومن الطبيعي ان تهتز الصيغة اللبنانية القائمة على التعايش بين الطوائف بازاحة احد صانعيها ولذلك شكل اغتيال الصلح عاملا اخر من عوامل الاضطراب الداخلي الذي تفجرت بسببه احداث طائفية في عام 1958 والتي اطلقت شرارتها باغتيال الصحفي اللبناني نسيب المتني.
وعلى الرغم من الطريقة اللبنانية بحل المشاكل والازمات والتي تقوم على التسويات على قاعدة رضا الجميع الا ان الاحداث المذكورة كانت المؤشر على ان لبنان معرض بين فترة واخرى الى الاحتراب الداخلي. وبدا المشهد اللبناني في اوائل السبعينيات برميل بارود حيث امتدت المعارك والصدامات المسلحة بين الجيش والمقاتلين الفلسطينيين الى مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين في العاصمة بيروت كمؤشر على ضعف قدرة الجيش اللبناني على الحفاظ على السيادة الوطنية التي تشلعت بشكل فظيع في عام 1975 حين اندلعت الحرب الاهلية اللبنانية.
وكانت الحرب التي سعرت الصراعات الاقليمية والدولية على ارض لبنان. لكن السيطرة السورية العسكرية على لبنان تحت يافطة قوات الردع العربية لوقف الحرب الاهلية قابلها تصميم اسرائيلي على اضعاف العامل السوري في المنطقة وتهشيم المقاومة الفلسطينية لتهشيم قدرتها على الاستمرار بخيارها لاقامة دولة فلسطينية مستقلة فكان عام 1982 العام المفصلي في وضوح صورة الصراع الاقليمي والدولي على ارض لبنان فاحتلت اسرائيل اكثر من ثلثي لبنان ومعهما العاصمة بيروت واستطاعت بذلك انهاء الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان وطرد السوريين من العاصمة.
وحاولت تل ابيب تدعيم انجازاتها العسكرية على الارض بتركيب نظام سياسي موال لها من خلال دعم انتخاب بشير الجميل رئيسا للجمهورية.
لكن الجميل اغتيل قبل ان يدخل قصر الرئاسة في بعبد ودخل لبنان باغتياله اتون احداث عنف مريرة سقطت فيها بيروت العاصمة بأيدي الاسرائيليين وحدثت ابشع مجزرة في القرن العشرين مجزرة صبرا وشاتيلا التي قضى فيها اكثر من ألفي مدني فلسطيني ولبناني على ايدي ميليشيا القوات اللبنانية الموالية لاسرائيل.
وحاول الامريكيون احكام سيطرتهم على لبنان عبر نشر قوات متعددة الجنسيات امريكية وفرنسية وايطالية في العاصمة والضاحية الجنوبية الا ان تفجيرين انتحاريين استهدفا القوات الامريكية والفرنسية حمل هذه القوات على الانسحاب من لبنان كاعلان فشل في السيطرة السياسية والامنية على هذا البلد الذي اشتدت فيه حماوة الصراعات الداخلية المسلحة.
في هذا الوقت كان السوريون يعدون العدة للعودة الى بيروت عبر حلفائهم الفلسطينيين الذين جهزوا ألوية عسكرية اطلقوا عليها اسم العودة الى بيروت وخاضوا معارك عنيفة مع الجيش اللبناني والقوى المسيحية واستطاعت القوات الفلسطينية الدخول الى بيروت من بوابة الزعيم الدرزي وليد جنبلاط الذي يسيطر على مناطق جبل لبنان الدرزية.
وحاول السوريون الامساك بلبنان سياسيا عبر الاتفاق الثلاثي الذي ابرمته القوات اللبنانية المسيحية بزعامة ايلي حبيقة مع الحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة الزعيم الدرزي وليد جنبلاط وحركة امل الشيعية بزعامة نبيه بري الا ان سمير جعجع انتفض على حبيقة واطاحه مطيحا معه الاتفاق المذكور فيما انقلب الحليفان امل والحزب التقدمي الى عدوين واندلعت بينهما مواجهات مسلحة حولت العاصمة بيروت الى مدينة مسكونة بالخوف والرعب ولم تنته الا بعد الاستنجاد بالقوات السورية التي دخلت بيروت لنشر السلم فيها ونشلها من براثن الصراعات المسلحة.
لكن الدخول السوري مجددا الى بيروت لم يمنع تزايد الانقسام الداخلي والذي اججه اغتيال مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ حسن خالد وشخصيات دينية وسياسية سنية اخرى من بينها رئيس الحكومة رشيد كرامي والشيخ صبحي الصالح والنائب ناظم القادري.
وبعد سنة ونيف على الوجود السوري في العاصمة شغرت سدة الرئاسة اللبنانية في ظل عدم الاتفاق على رئيس يخلف الرئيس امين الجميل الذي انتهت ولايته وشكل حكومة انتقالية عسكرية برئاسة العماد ميشال عون قائد الجيش آنذاك لكن القوى الاسلامية والوطنية اللبنانية طعنت بشرعية الحكومة المذكورة وطلبت من الوزراء المسلمين الانسحاب منها فاستقرت حكومة عون على وزيرين فقط هما ادغار معلوف وعصام ابو جمرة في حين اعلن الرئيس سليم الحص شرعية حكومته وهكذا اصبح في لبنان حكومتان واحدة في المنطقة الشرقية المسيحية والاخرى في المنطقة الغربية الاسلامية.
واخذ الصراع يشتد بين الحكومتين وبات لبنان مهددا بالتقسيم اكثر من اي وقت مضى.
وذهب العماد عون في مواجهته مع السوريين الى حد اعلان حرب تحرير ضد سوريا واضعا كل المناطق التي يوجد فيها هؤلاء في بيروت الغربية وباقي المناطق اللبنانية على خريطة اهدافه العسكرية مهددا ايضا بقصف العاصمة السورية دمشق ورافضا في الوقت نفسه الاعتراف باتفاق الطائف الذي ارسى مسيرة السلم الاهلي بين اللبنانيين واطلق الجمهورية اللبنانية الثانية.
موقف عون السلبي من اتفاق الطائف وجهه موقف ايجابي لقائد القوات اللبنانية سمير جعجع الذي يتقاسم مع عون السيطرة على المناطق المسيحية.
واندلعت بين الطرفين حرب اطلق عليها جعجع حرب الالغاء انتهت بنهاية المطاف بدخول سوري ويساري الى قصر بعبد وازاحة العماد ميشال عون وبالتالي البدء بتطبيق اتفاق الطائف. وقد كان انهاء ظاهرة العماد عون طبعا بضوء اخضر امريكي ودفعة على حساب تأييد دمشق للتحالف الدولي ضد نظام صدام في حرب الخليج الاولى بداية هادئة وفعالة لسوريا لاعادة ترتيب لبنان سياسيا وعسكريا واقتصاديا بحيث اجريت انتخابات رئاسية انتخب خلالها الرئيس الياس الهراوي بعدما اغتيل الرئيس رينه معوض اول رئيس بعد توقيع اتفاق الطائف لكنه لم يشهد بدء تنفيذه حيث قتل بسيارة مفخخة يوم عيد الاستقلال في الثاني والعشرين من نوفمبر عام .1989 والهراوي المدعوم سوريا استعاد قصر بعبد بقوة الجيش السوري.
واجريت انتخابات نيابية في عام 1992 هي الاولى بعد انتخابات عام 1972 وعرف لبنان استقرارا امنيا وحتى سياسيا الى عام 1998 حين انتخب الرئيس اميل لحود رئيسا للجمهورية وهو ما اعتبره البعض تعزيز القبضة السورية على لبنان.
لكن تسلم الرئيس بشار الاسد الرئاسة في سوريا اشعل فتيل خلاف بين تيار الاسد وامتداداته اللبنانية وتيار لبناني اخر له امتدادات سوريا ولا سيما نائب الرئيس عبدالحليم خدام وبلغت المواجهة بين سوريا وانصارها من جهة والمعارضين لها من جهة اخرى اشدها حين اغتيل الرئيس رفيق الحريري في فبراير عام 2005 ودخل لبنان على اثره نفقا ما يزال يفشل في تلمس نهايته.
واغتيال الحريري ادخل سوريا في مواجهة مع امريكا التي طالبت بانسحاب سريع للجيش السوري من لبنان وبالتالي انهاء الدور السياسي والعسكري لها.
واصدر الرئيس بشار الاسد اوامره بانسحاب سريع لقواته في السادس والعشرين من ابريل 2005 لكن هذا الانسحاب لم يقفل باب السجال بين المناهضين لسوريا والمؤيدين لها حول وجود مخابراتي لدمشق في بيروت واستمرار تدخلها في الحياة السياسية اللبنانية خصوصا مع حدوث موجة اغتيالات في عام 2005 لعدد من الشخصيات المناهضة لسوريا وتستمر في عام 2006 باغتيال النائب بيار الجميل واخيرا في عام 2007 وليس اخرا النائب وليد عيدو بعد ايام على دخول محكمة الحريري ذات الطابع الدولي موضع التنفيذ تحت الفصل السابع الذي يجيز للامم المتحدة القيام باعمال حربية على ارض لبنان لتطبيق العدالة.
وكان البعض يعتقد ان اقرار المحكمة سيشكل حماية للبنان من الاغتيالات السياسية لكن على ما يبدو المسألة هي وجهة نظر غير جدية.
ولكن السؤال هو لماذا اغتيال عيدو؟ والى اين يؤشر؟ على المدى القريب ان اغتيال النائب وليد عيدو الذي ينتمي الى الاكثرية النيابية يهدف الى فرط نصاب انتخاب رئيس الجمهورية اللبنانية بعد اشهر قليلة بالاكثرية النيابية فالموالاة تحوز على اكثرية نيابية في مجلس النواب اللبناني تزيد على 71 نائبا فيما المعارضة تحتفظ بـ54 نائبا ويدور جدال دستوري وقانوني بين الطرفين حول دستورية انتخاب الرئيس بحيث ان الموالاة تعتبر ان جلسة الانتخاب قانونية ودستورية بالنصف زائد واحد من عدد افراد المجلس النيابي الذي يبلغ عدد افراده 128 نائبا بينما المعارضة تقول ان الجلسة الانتخابية بحاجة الى الثلثين زائد واحد وهذا لا تملكه الاكثرية ولا المعارضة بحيث يصبح التوافق مطلوبا.
ووفقا لهذا الجدل قالت الموالاة ان هدف المعارضة هو فرط نصاب الاكثرية من خلال الاغتيال او العمل على سحب نواب منها.
وقد كان انسحاب النائب العلوي مصطفى حسين من تيار المستقبل الموالي مؤشرا على ان هناك عملا مضنيا للمعارضة على انقاض كتلة الاكثرية ولذلك فان مقتل بيار الجميل الوزير والنائب في 21 نوفمبر الماضي اضعف الاكثرية في الحكومة حيث باتت الآن على شفير الانهيار بعدما اصبح نصابها مكتملا على وزير واحد وان استقالته او وفاته يطيح بها في حين تناقص عدد نواب الاكثرية بانسحاب التائب حسين واغتيال الجميل وعيدو الى 68 نائبا وبالتالي فان اكثرية الموالاة قائمة على اربعة نواب اذا فقدتهم فانها لاتستطيع عقد جلسة انتخاب بنصاب النصف زائد واحد.
على المدى الابعد لعملية الاغتيال هي في سياق تأجيج الانقسام اللبناني ودفعه الى الاهتزاز الامني الواسع.
* كاتب ومحلل
تعليقات: