مرسيل خليفة
كانت العربُ، في ما تقول الروايات، تصنع آلهتها من التمر وتعبدها. فإن جاعت ـ وكان ذلك يحصل في سنوات القحط والجدب ـ تأكلها. وهي تكاد اليوم لا تفعل مع رموزها غير ذلك. ترتفع قامات في الوجدان العربي وتسمق ويمتد سلطانها في النفوس ما شاءت لها الظروف أن تمتد. حتى إذا خِلتها بلغت من العلياء حدّاً، أتى من يهبط بها تحتا وكأنه ما أعلاها أمس طائعاً مختارا! وليست الرموز أوثاناً في ما نحسب حتى يُحمل قولنا في تحطيمها على وجه الاسترابة، وإنما نُدركها بما هي حاجات تصنعها الثقافة الجمعية. إذ ما مِن مجتمع في التاريخ ـ ماضيا وحاضرا ـ يخلو من رموز على ما تعلّمنا الانثروبولوجيا السياسية وعلم النفس الاجتماعي. حتى أنها في بعض المجتمعات تقوم من تمثلاتها الجماعية مقام الديناميات العميقة التي تولّدها.
ولقد ألف البعض منا عادة تحطيم الرموز واستمرأها لا لمنزع نقدي لديه يأبى على الواقعي أن يتأسطر، وإنما لِما يجلب عليه ذلك التحطيم من عائدات مجزية أو هكذا الظن به يذهب. إذاً لما كان للرمز حرمة في مجتمعاتنا ـ دينيا كان أو سياسيا أو ثقافيا ـ وكانت الناس تكلف به أشد الكلف، فقد يميل الغمر من الناس إلى النيل منها سبيلا إلى استدرار انتباه إليهم يخرجهم من حال الشعور بالمغمورية والهامشية. ولست هنا في معرض التماس تفسير سيكولوجي لهذه «النازلة»، لكني إخال فعل التدمير هذا عبثي النتيجة على صاحبه الذي يأتيه. إذ لا «رمز» ينشأ من تحطيم رمز «سابق» ولا أحد يجب ما قبله، وإن سعى أحد في «النجومية» من هذا الباب، فقد ذهل عن السبيل الأقوم وأقفل في وجهه طريق المستقبل: ذلك أن القاعدة الذهبية في مثل هذه الحال أن الذين يبنون ليسوا كالذين يهدمون، وليس مَن يملك إزميلا كَمَن يملك معولا.
فلسطين
لهذا القول مناسبة تستدعيه. والمناسبة هي ما قرأته للسيد خالد جبران في جريدة «السفير» (عدد السبت 16/1/2010) قدحا وذمّا في الفنان مرسيل خليفة وتشهيرا به! أعرف مرسيل خليفة ولا أعرف الذي هاجمه. وكان يمكن أن لا أعرف مرسيل خليفة شخصيا، وأن أكتفي بمعرفته العامة أسوة بملايين الناس الذين يعرفونه من فنه: موسيقيا كبيرا وفنانا ملتزما. وكان يكفيني ذلك ـ مثلما يكفي غيري ـ كي أعلم من أي معدن نفيس هو. لكن مما أفاء به حظي عليّ أنني عرفته منذ ما يزيد عن عشرين عاما، واتصلت بيننا العلاقة من دون انقطاع. وبت لذلك السبب ـ أو هكذا أدعي ـ أملك أن أقيس المسافة بين مرسيل الفنان ومرسيل الإنسان، بين الذي تلتقيه الجموع في الملاعب والميادين والصالات والذي تصحبه أنت في بعض تفاصيل الحياة اليومية وتقف على الشخصي فيه. بين الذي يعلنه للناس والذي يمارسه في الحياة. ولي أن أقول إني ما أبصرت فجوة بين الرجلين، فهما واحد حتى لا أقول إن الخاص والشخصي فيه أغنى من العام وأبعد مدى. والحاصل أن الذي تحدث عنه السيد خالد جبران في مقاله شخص لا أعرفه، وقطعا لا يعرفه غيري من ملايين العرب، شخص متخيل على مقاس مَن تخيله، مصنوع من مادة هلامية غير قابلة للتعيين!
ليست أخلاق مرسيل خليفة تلك التي أتى عليها صاحب المقال بالنقد والتشهير. إنها (أخلاق) مصممة تسلفا لتتناسب مع تشهير أعد قبلا. فمن ذا الذي يملك أن يُجاري المدعي فيصدق دعواه، ويصدق فيها أن مرسيل خليفة كيدي او مُجحف أو منحاز حين يحكّم رأيه الموسيقي في مشاريع معروضة على التحكيم العلمي؟ ولماذا يكيد مرسيل لمن لا يعرفه فيجحف بحقه؟! وأية مصلحة شخصية او عامة يتحصلها من ترجيح زيد على عمرو وهو لا يعرفهما؟ ثم لماذا عليه أن ينحاز إلى فلسطيني ضد آخر في مسابقة مشاريع موسيقية وهو الذي لا ينحاز إلا إلى فلسطين؟!
وأخيرا، مَن أدرى مرسيل خليفة وغيره من أعضاء لجنة التحكيم الموسيقية أن صاحب العرض الموسيقي الفائز على علاقة مشبوهة بالمؤسسة الصهيونية؟ ناهيك بأن من المشروع أن يتساءل المرء كيف للمرشح المحتج أن يرتضي لنفسه المشاركة في منافسة مشاريع موسيقية مع مرشح مشبوه إذا كان وجدانه زاخرا بكل هذه الوطنية التي يعلنها احتجاجه؟!
منافسة
لا يحتاج مرسيل خليفة إلى شهادة أحد منا على عمق وصدق صلته بقضية فلسطين ونضال شعبها، فعطاؤه الفني يشهد بذلك منذ ما يزيد عن ثلث قرن. ويشهد على ذلك ـ بالدرجة نفسها ـ تخصيصه ريع العشرات من حفلاته الغنائية والموسيقية في العالم لفائدة مشاريع مدنية وإنسانية في فلسطين وفي مناطق الانتشار الفلسطيني. وهو ما لم يفعله أحد غيره ممن أعرضوا عن قضيتها في انتاجهم الفني او أتوا على ذكرها بالاسم في مناسبات معلومة! ثم ان مرسيل لا يحتاج ـ قطعا ـ إلى من يشكك في صلته تلك بالقضية حتى يدافع عن نفسه او يؤدي في الاتهام دور الظنين المشتبه فيه. ذلك ان المدعي، في مثل هذه الحال، لا يعدو أمره ان يكون على أحد وجهين: إما جاهل بأمر تلك الصلة، أو عارف بها ولكنه يعتمد الإساءة لمرسيل خليفة. ولما كان كاتب المقال غير جاهل بتلك الصلة ـ مثلما هو نفسه يعلن ـ فإني أخشى عليه من أن تكون الرغبة في الإساءة إلى هذا الرمز الثقافي الكبير قد أخذته إلى الخروج عن طوره وكتابة ما كتبه من كلام مسيء في «السفير». أما إن صدّق بأنه يستطيع بهذه الإساءة الجارحة وغير الحضارية أن يلوث سمعة مرسيل خليفة او يخدش صورته او ينال من مكانته ورمزيته في وجدان ملايين العرب، فقد أخطأ إدارك حدوده المتواضعة في تخليق المستحيل من الممكن، حتى لا نقول انه سمح لنفسه بأن يتقمص دورا نديا لا يعرفه عنه أحد!
ولست أخفي أني شعرت بالإهانة الشخصية وأنا أقرأ هذا «المقال»، وعجبت للجرأة كيف لها أن تتجاوز حدود المألوف والمعهود. وحزّ في نفسي أن يأتيها فلسطيني بالذات تجاه رجل كبير كان، وما زال، وسيظل، أعظم رمز ثقافي عربي لفلسطين بعد محمود درويش.
في مثل هذه الحال، يملك المرء ان يخاطب مرسيل بالعبارة الأثيرة على نفس الشهيد ياسر عرفات: «يا جبل، ما يهزّك ريح».
تعليقات: