مناصرون لحزب اللّه خلال إلقاء السيّد حسن نصر اللّه كلمته أوّل من أمس
آن الأوان لتحديد المسافة بين اليسار (الثوري الحقيقي، لا السعودي) وحزب الله. لا يمكن العلاقة أن تكون حكماً ذيليّة، بمعنى أن يصفّق اليسار للحزب من دون سؤال أو مساءلة أو إعلان خلاف. المسافة يجب أن تُحدَّد خشية أن يتحوّل مصير اليسار العربي إلى مصير حزب توده والاعترافات القسريّة. اليسار عانى اغتيالات من قبل الحزب (أو من حركة أمل أو الاثنيْن معاً) في مرحلة سابقة. والحزب على لسان مسؤوليه يتجنّب ذكر كلمة شيوعي وشيوعيّة حتى في باب الإشارة إلى انطلاق المقاومة ضد إسرائيل والانطلاقة كانت شيوعيّة
قبل الحديث عن حزب اللّه، يجب أن يوضّح المرء أن الفصل بين فريق 8 آذار وفريق 14 آذار الطائفيّيْن لا يعني أن الخطر الداهم على مصلحة لبنان وفلسطين يتساوى في مشروع الفريقيْن. لا، أبداً. إن مشروع 14 آذار هو النسخة اللبنانيّة غير المُعدّلة عن مشروع بوش الإسرائيلي في كل المنطقة العربيّة. لهذا، لم تكن صدفة أن شعارات النظام الأردني والمصري والحريري كانت ولا تزال واحدة في تلك البلدان. وعلاء مبارك وسعد الحريري والملك الأردني توائم. كما أن فريق 14 آذار شكّل عوناً أكيداً، مباشراً أو غير مباشر، لعدوان إسرائيل على لبنان في 2006. مثّل فريق 14 آذار، ولا يزال يمثّل، خطة إبعاد لبنان عن كل هموم مسألة تحرير فلسطين، وتحرير لبنان من احتلال إسرائيل. قضى فؤاد السنيورة سنواته في الحكم بعد اغتيال الحريري يعظ ضد مقاومة إسرائيل، داعياً إلى «المقاومة الدبلوماسيّة» رغم أنه ترك الحكم، أو بالكاد، من دون أن يحقّق أيّاً من وعوده عن انسحاب إسرائيلي «وشيك»، ساعة من الغجر، وساعة من شبعا، وساعة من فلسطين برمّتها. إن مقاومة المقاومة أدخلت لبنان رسميّاً للمرّة الثانية في تاريخه في حلف وثيق مع إسرائيل. ولا ينفع في دحض هذه الحقيقة كلام رفع العتب الصادر بخجل عن أقطاب 14 آذار حول أن إسرائيل «عدو»، ثم يلحق هذا الإعلان كلام عن ضرورة تنفيذ كل مطالب إسرائيل في لبنان.
تَمنَّع الحزب عن تسلّم السلطة لا تعفّفاً بل اعترافاً بعدم قدرته على الحكم
مناسبة الحديث هذا هو اللقاء الأخير بين عمّار الحكيم (زعيم ميليشيا بدر الطائفيّة الشيعيّة) وحسن نصر الله. اللقاء ليس عفويّاً. وجاء في بيان رسمي عن الحزب أن الاثنيْن بحثا في «مواجهة مشاريع الفتنة الطائفيّة والمذهبيّة». هذه العبارة تحتاج لتشريح، وخصوصاً أن ميليشيا بدر شكّلت دعامة أساسيّة في مشروع تركيب العراق الطائفي والمذهبي على يد المحتل. العلاقة بين الطرفيْن لا يمكن أن تُدرج في إطار الأهداف المُعلنة لحزب الله، في لبنان أو في الشرق الأوسط، إلا إذا كانت ميليشيا بدر تحارب إسرائيل عبر تحالفها مع المحتلّ الأميركي.
لكن تحليل موقف حزب الله وموقعه يحتاج بداية لإبراز بعض الأولويّات. نجح حزب الله في مقاومة إسرائيل نجاحاً باهراً، فيما فشل اليسار في ذلك. لا تنفع التبريرات المختلفة ولا المكابرة، والكلام عن ظروف موضوعيّة قاهرة ينفع فقط في سهرات الأنس. كانت الشيوعيّة العربيّة تتمتّع بدعم الاتحاد السوفياتي وبدعم بعض الأنظمة العربيّة إبان الحرب الأهليّة اللبنانيّة، إلا أنها إما تقاعست وإمّا تعثّرت في اجتراح أساليب مقاومة إسرائيل، أو التهت بالمنافع الماليّة والترهّل البيروقراطي الذي قوّض دعائم المقاومة. المقاومة تلك عانت تدخّلات ياسر عرفات وتدخّلات النظام السوري، لكن الحركة الوطنيّة اللبنانيّة والثورة الفلسطينيّة تتحمّلان مسؤوليّة في تسييب مصادر قوة بشريّة وماديّة هائلة وفي إهدارها. كان في حوزة الحركة الوطنيّة اللبنانيّة والثورة الفلسطينيّة آلاف مؤلّفة من المقاتلين (والمقاتلات) الأشدّاء الذين كانوا مستعدّين لخوض غمار معركة حاسمة ضد إسرائيل وحلفائها في لبنان، إلا أن الطرفين اختارا أن يلتهيا عن المهمّة. الأداء العسكري للحركة الوطنيّة اللبنانيّة والثورة الفلسطينيّة كان بمجمله فاشلاً أو عاجزاً، والامتحان كان في مواجهة اجتياح 1982، إذ إن التصدّي البطولي كان عفويّاً وغير مُنظّم مركزيّاً لأن الأحزاب والمنظمّات تقاعست عن المهمّة وأبعدت الجماهير عن قضيّتها من خلال فساد مستشرٍ وعدم جديّة سياسيّة وعسكريّة، بالإضافة إلى أن النظام السوري والليبي والعراقي والسعودي والأردني تدخّلت في مراحل مختلفة من الحرب لإنقاذ اليمين اللبناني من موت محتّم. حاول حزب العمل الاشتراكي العربي ــــ لبنان وبعض الشيوعيّين الثوريّين أن يخرقوا الجمود على خطوط النار عبر إحداث «ثغرة» في الشياح في المرحلة الأولى من الحرب، إلا أن الحزب ارتبط بمصالح بعيدة عن أهدافه الثوريّة في ما بعد. طبعاً، يجب أن نشير إلى دور ياسر عرفات الذي لم يكن يريد أو يستطيع أن يثوّر الجبهة الجنوبيّة، وذلك بسبب ارتباطاته الخليجيّة واستطيابه للساحة اللبنانيّة (من دون أن يعني ذلك تصديقاً لفزّاعة التوطين التي أطلقها أوّل ما أطلقها الإقطاع الشيعي المتحشرج في أواخر السبعينيات). لم يكن عرفات يرغب بالتوطين، لكنه استعان بالورقة اللبنانيّة للحصول على تسوية سقيمة مع إسرائيل.
نجح حزب الله في تشكيل أقوى مقاومة وأفعلها ضد إسرائيل منذ إنشاء الكيان الغاصب. نستطيع أن نسوّغ فشل اليسار والحركة الوطنيّة الفلسطينيّة وأن نختلق الأعذار، لكن الحقيقة تقتضي الاعتراف بنجاح حزب الله في مقاومة إسرائيل فيما فشل الأوّلون. نجح الحزب في دراسة العدو بصورة أفعل من كل التجارب الأكاديميّة والعسكريّة العربيّة السابقة. كما أن الحزب، كحركة مقاومة ضد الاحتلال، تجنّب تسلّم السلطة، علماً بأن حركات مقاومة الاحتلال تتسلّل إلى السلطة عادة، لكن هذا التجنّب يرتبط بالتركيبة الطائفيّة للحزب. نشك بأن يكون الحزب قد تجنّب تسلّم السلطة لو كانت تركيبته متعدّدة الطوائف، أي لو كان بإمكانه جذب الرأي العام وراء شعارات وطنيّة جامعة. أي إن الحزب تمنّع عن تسلّم السلطة، لكن ليس تعفّفاً بل اعترافاً بعدم قدرته على الحكم نتيجة تركيبته الطائفيّة.
نستطيع أن نحلّل الحزب على أكثر من مستوى: التنظيمي، والداخلي اللبناني، والعربي الإسلامي، والدولي. ويجب أن يأخذ التحليل في الاعتبار تغيّر الحزب وتطوّره على مرّ الأعوام، وخصوصاً بعد مرحلة صعود حسن نصر الله. واليسار مُحقّ في حذره في التعامل مع الحزب، ليس فقط بسبب الخلافات العقائديّة التي لا تُحلّ بتفاهمات واتفاقات اختياريّة وبلديّة، بل بسبب حملات من العنف والقهر التي تعرّض لها اليسار على أيدي مَن ناصر الحزب أو حركة أمل في الثمانينيات. كان على كل الحركات السياسيّة التي تعاطت مع الحزب ومع الحركة، وخصوصاً الحزب الشيوعي اللبناني لأن محسن إبراهيم كان مشغولاً بأوسلو وبحليفه في حركة 14 آذار، أن تصرّ على تقديم جواب رسمي على الأقلّ عن الاغتيالات التي لحقت بالشيوعيّين على يد حركات إسلاميّة سنيّة وشيعيّة، إذا أردنا استعمال مصطلحات العصر السعودي الحريري في لبنان. لم يتمّ التحقيق في أي من تلك الجرائم والاغتيالات. يحقّ لزعماء الطوائف وحركاتها أن يغفروا جرائم بعضهم ضد بعض، لكن الخارجين عن الطوائف لا يدخلون في الحسبان ولا يتلقّون نعَم الغفران من أحد.
نستطيع أن نحلّل الحزب على صعيد العقيدة فنقول إن ولاية الفقيه لا تستقيم مع الطرح اللاطائفي. فالنظريّة، وهي سياسيّة ذات تفسير ديني وليس العكس، تحكّم سيادة فئة طائفيّة على غيرها لما للمرجع الفقيه من صلاحيّة تنبع من تفسيره للفقه الشيعي. والنظريّة تفرض سيادة مذهبيّة في إيران، ويمكن أن تزيد من تلك السيادة في بلد مثل لبنان. كما أن الحزب يساعد في قدرة خصومه على تعريف (مغلوط غالباً) لنظريّة ولاية الفقيه (بكّر العالم محمد جواد مغنيّة في نقدها وبكّر العالم حامد عناية في شرحها أكاديميّاً في كتابه عن الفكر الإسلامي الحديث بالإنكليزيّة) بإصراره على إعلان تمسّكه بها، وهذا حقّه، من دون أن يعطي أي شرح مفيد للعامّة عنها. لكن هذا مسلك حزب الله الإعلامي والدعائي: يظنّ أنه يتحدّث فقط لجمهوره. وتمنّع الحزب عن تقديم شرح وافٍ للعقيدة السياسيّة التي تحكم مساره وسياسته، يتيح للبطريرك الماروني وغيره أن يحتكر إساءة التعريف وإساءة الفهم لغايات سياسيّة مذهبيّة وطائفيّة.
والحركة اليساريّة على اختلاف مشاربها وأنواعها لا يمكنها إلا أن تعارض وبشدّة تبوّء الفقيه (الشيعي أو السنّي أو المسيحي، الخ) منصب أعلى مرتبة في الدولة، وخصوصاً أنه يتمتّع بالعصمة ولا يخضع للمساءلة الدستوريّة أو الاستفتائية من خلال الاقتراع. كما أن التطبيق الخميني لنظريّة ولاية الفقيه لا يدعو للاسترشاد أو للاحتذاء، بأي صورة من الصور. أما عن تجربة اليسار في الحكم الخميني، فقد باءت بالفشل، على قصرها، وبالخيبة، رغم حسن النيّة الذي أظهره حزب توده نحو الثورة الإسلاميّة وقائدها.
وليس صدفة أن تركيبة الحزب هي تركيبة طائفيّة مذهبيّة بالخالص (مع تقديرنا الحقيقي لتضحيات المُقاوم ديغول أبو طاس الذي عانى في سجون الاحتلال الصهيوني). أي إن عقيدة ولاية الفقيه تحصر الحزب بطائفة واحدة، أو بذلك الجزء من الطائفة الذي يقتنع بنظريّة الخميني في الحكم، والتي ناقضت الفكر السياسي الشيعي على مرّ القرون، رغم تثويره وهز مكامن سكينته ووداعته غير الثوريّة. وكان يمكن الحزب أن يخرج عن قوقعته المذهبيّة لو أنه اتعظ من الكتابات الديمتروفيّة (نسبة لجورجي ديمتروف) عن التجربة الجبهويّة البلغاريّة، لكنه ينفر بالممارسة من العمل الجبهوي. علم أبو عمّار أنه يحتاج لجبهة عربيّة مساندة للثورة الفلسطينيّة، أما حزب الله، فيظنّ أن انعقاداً سنوياً لمؤتمر صُوَري عن المقاومة يفي بالغرض.
وسياسة الحزب العراقيّة تمثّل التجلّي الأكثر سطوعاً لطائفيّة الحزب ومذهبيّته. سكت الحزب عن بشاعة الاحتلال: وهذا السكوت في جانب منه تأييد لسياسة إيرانيّة مهادنة للاحتلال في العراق وفي أفغانستان، وفي جانب منه مناصرة للصعود الطائفي الشيعي في الحكم بإرادة المُحتل. نستطيع أن نبدأ من العلاقة بآية الله علي السيستاني، فقيه الاحتلال الأميركي من دون مُنازع. ويقدّر الاحتلال الأميركي الدور المُساند للاحتلال الذي لعبه السيستاني، والذي همّش حركات المقاومة الشيعيّة ضد الاحتلال (وهي لا تزال موجودة رغم نأي السيستاني). والسيستاني على المستوى العقائدي، لا يدين بولاية الفقيه، وإن كان يحتفظ بعلاقة حسنة مع النظام الإيراني. كما أنه لا يعبّر عن اهتمام يُذكر بقضايا الشعب الفلسطيني، أو حتى بمعاناة لبنان جرّاء عدوان تمّوز. وكيف يقابل حزب الله هذه المواقف؟ بالكثير من التقدير والمساندة والتأييد. وقد أصدر الحزب بياناً عنيف اللهجة في كانون الثاني/ يناير من العام الحالي دفاعاً عن السيستاني فقط لأنه تعرّض لهجوم من كاتب سعودي. أي إن الحزب صمت عن الحملات السعوديّة الحكوميّة المُبرمجة من أجل إذكاء نار الفتنة الطائفيّة والمذهبيّة في كل المنطقة، لكنه لم يستطع أن يصمت عن حملة ضد فقيه الاحتلال الأبرز. وسكت الحزب عن بيان رسمي سعودي مؤيّد للعدوان الإسرائيلي على لبنان في 2006. ودعا الحزب في بيانه لإطالة أمد ظلّ السيستاني، مع أن ظلّ السيستاني من ظلّ الاحتلال الأميركي. وإذا كان السيستاني لا يتّفق مع الحزب على عقيدة ولاية الفقيه وعلى مسألة تحرير فلسطين (التي بات الحزب يخجل من التصريح بها لأن فريق 14 آذار نجح في وضع الحزب في موقع الدفاع عن النفس)، فإن الاستنتاج المنطقي الوحيد هو أن الحزب انبرى للدفاع المستميت عن السيستاني من باب التعاضد الطائفي الذي لا لبس فيه. هل هناك شيء آخر يتفق الحزب فيه مع السيستاني؟ قد يكون ما يجمع الاثنيْن هو إيمان عميق بضرورة الثلث المعطّل، لكن فتاوى السيستاني المنشورة لا تتضمّن شيئاً من هذا على الإطلاق، مع أن له صولات وجولات في عدد من القضايا الأساسيّة والثانويّة، والتي يُحلّل بها أو يحرّم.
أما الجانب الآخر من علاقة الحزب بالمسألة العراقيّة، فتجلّت في اللقاء بين عمّار الحكيم وحسن نصر الله. ويترأس عمّار الحكيم ميليشيا مُساندة للاحتلال (طبعاً، يعمل الاحتلال على ضم الميليشيات المُوالية له، مثل عصابات الأنبار المُسلّحة وميليشيا بدر، داخل صفوف القوّات المسلّحة. وينطبق الأمر نفسه على بناء القوّات المسلّحة في أفغانستان، إلا أن المحتلّ الأميركي وفارس سعيد يرفضان أي وجود مُسلّح في لبنان خارج نطاق الجيش، وكانت الولايات المتحدة وأطراف في لبنان معجبة أيّما إعجاب بميليشيا أنطوان لحد في الجنوب، قبل هروب عناصرها وقادتها مذعورين بعد تحرير معظم الجنوب عام 2000). والحركة السياسيّة لميليشيا بدر كانت عماداً مبكّراً للاحتلال الأميركي للعراق، كما أنها ساهمت في تأجيج الفتنة المذهبيّة في العراق، تلك الفتنة التي كانت جزءاً لا يتجزّأ من خطة الاحتلال (مُباشرةً أم مداورةً) كما ورد في تقرير لمجموعة الأزمات الدوليّة. وميليشيا بدر قامت بتهجير الشعب الفلسطيني من العراق حيث يقبعون في خيم على الحدود (كما قامت ميليشيا آل الصباح في الكويت بتهجير الشعب الفلسطيني من الكويت بعد تنصيبهم على يد القوات الأميركيّة في حرب الخليج الأولى). وقد تخلّت ميليشيا بدر عن نظريّة ولاية الفقيه، وأبدلت الخامنئي بالسيستاني. ومرّة أخرى، لا يستطيع المرء أن يستشفّ سبب التلاقي بين حزب الله وعمّار الحكيم الذي يمثّل مهادنة الاحتلال، لا مقاومته، إلا... التعاضد الطائفي المذهبي.
هذا لا يعني أن حزب الله محكوم بأسْره الطائفي. ولا شك بأن مخطّط بوش في تفرّع الحريري اللبناني استهدف تقويض هدف المقاومة وإضعاف فعاليّتها من خلال إلصاق الصفة الطائفية بحزب الله، وليس ذلك حبّاً بالعلمانيّة كما يحاول أدعياء الليبراليّة (الوهّابيّون) أن يقنعونا، وخصوصاً أن خطاب الجوزو الدوري أو خطاب البطريرك صفير لا علاقة له بفصل الدين عن الدولة. كان الحزب يستطيع أن يفكّ عزلته الطائفيّة في داخل لبنان وخارجه (لا يمكن إنكار النجاح الكامل من قبل المشروع الحريري في استعداء جلّ الطائفة السنيّة لحزب الله، وإن كان المشروع قد لقي نجاحاً أقلّ خارج لبنان، مع نجاحات في أوساط الطبقة الوسطى في أكثر من بلد عربي). كان الحزب يستطيع أن ينضوي في إطار العمل الجبهوي الحقيقي، لا الشكلي. ويشكو بعض حلفاء حزب الله من سريّة مقاصد الحزب وأهدافه، ربما لأن الحزب ينقل سريّته في العمل المقاوم الذي يقتضي السريّة، إلى نطاق العمل السياسي الذي يقتضي العلنيّة والمجاهرة والمصارحة. كان يمكن الحزب أن يعمد إلى التحالف لا على أساس التحالفات الانتخابيّة الطائفيّة، بل على أساس مساندة المقاومة ضد إسرائيل. ومشهد لقاءات أقطاب المعارضة (التي تجمع نبيه بري وحسن نصر الله وميشال عون وسليمان فرنجيّة) مُنفّر. ألم يجد الحزب مُسانداً خارج التحالف الشيعي الماروني هذا؟ وألم تكن اللقاءات تلك قبل موعد الانتخابات النيابيّة الأخيرة خير مساند لمشاريع التحريض المذهبي من لدن قريطم؟
لا يستطيع الحزب أن ينفصل عن عقيدته أو عن تركيبته الطائفيّة (والاثنتان مرتبطتان عضوياً طبعاً). ولا يستطيع الحزب أن يفكّ عرى علاقته مع إيران فيما تُشنّ عليه حروب من مختلف الدول العربيّة الموالية لأميركا، بالإضافة إلى حرب بلا هوادة من العدو الإسرائيلي. ولا يستطيع الحزب أن يخرج من بوتقة الصراعات الطائفيّة في لبنان، التي جُرَّ إليها، وعمّق في الغرق فيها بسبب سوء إدارته السياسيّة، وضعف (وغباء) إعلامه بالمقارنة مع إعلام الخصم اللبناني. ولا يستطيع حزب الله أن ينفصل عن جمهور له تربّى، مثل كل الجماهير اللبنانيّة، على أسس وعناصر طائفيّة. لكن الحزب يستطيع أن يخرج إلى حدّ ما من الأسر الذي وضعه الخصم الحريري فيه. كما أن الانتخابات النيابيّة والبلديّة هي المحكّ. يكتفي الحزب بتحالفه، أو تفاهمه، مع التيّار الوطني الحرّ. وعلى أهميّة هذا التحالف بالنسبة للحزب، إلا أنه تحالف طوائفي، إن لم يكن طائفيّاً، لحسابات مختلفة عند كل من الطرفيْن.
لا تفسير لتلاقي حزب الله وعمّار الحكيم إلا التعاضد الطائفي ـــ المذهبي
إن خرق الحصار الطائفي الذي أحاط بالحزب، لأسباب ذاتيّة وموضوعيّة إذا استعملنا التحليل الماركسي الكلاسيكي، لا يتعلّق بمصلحة الحزب السياسيّة أو الوطنيّة فحسب. هناك ما هو أهم. إن مشروع الصراع ضد إسرائيل، بأفق تحرير كل فلسطين، يستوجب على المديين القصير والطويل إعداد أجيال عربيّة جديدة، وذلك من أجل تأسيس حركة تتعدّى الحقبة الواحدة أو مرحلة الزعيم الواحد. والتجارب الماضية عانت قصوراً في التخطيط لبناء جبهة عربيّة شبه متراصّة للتعامل مع الخطر الإسرائيلي، أبعد من معركة واحدة
أو حرب واحدة أو مواجهة واحدة. صحيح أن حزب الله، خلافاً لكل التجارب العربيّة الأخرى البعثيّة والناصريّة والعرفاتيّة التي كان صراخها أعلى من سيوفها، كان متحفّظاً خطابيّاً وفعّالاً ومستبسلاً ميدانيّاً، إلا أن الكلام عن ربط التصدّي لإسرائيل في لبنان بالمعركة الكبرى (ولن تكون إلا سلسلة من المعارك المُتراكمة، وليس موقعة يتيمة مهما كانت مؤثّرة على طريقة خطة أمين الحافظ لتحرير فلسطين) ضد وجود الدولة الصهيونيّة.
الحزب يتعرّض لحملة من إسرائيل ومن حلفائها بين الأنظمة العربيّة. إن الانفتاح على دعاة المقاومة وأنصارها من خارج الحزب ليس، أو يجب ألا يكون، عملاً يدخل في باب العلاقات العامّة. إن مشاهد الاحتفالات الرياضيّة (السوقيّة والمبتذلة) من قبل جمال وعلاء مبارك إشارة إلى ما يُخطَّط لمستقبل المنطقة العربيّة. يريدون أن يغسلوا أدمغتنا قبل الأكل وبعده، كي ننسى الخطر الإسرائيلي ونهتف لفريق كرة القدم. العداء لفريق كرة قدم دولة مجاورة بات يتفوّق على العداء لإسرائيل. والمحور الشخبوطي يريد أن يطبّع ليس فقط مع إسرائيل، بل مع أسلحة الدمار الشامل عند إسرائيل. وليس التشديد على الخطر الإيراني إلا دفعة أولى. حزب الله يتعامل مع كل هذه الأخطار سرّاً. لكن الحرب النفسيّة والدعائيّة ضد العدوّ وهي جانب من جوانب المقاومة لا يمكن أن تكون سريّة. والخروج من الطائفيّة والمذهبيّة التي يُجرّ إليها الحزب من أعدائه ومن مواقفه هو، بات ضرورة قتاليّة.
* أستاذ العلوم السياسيّة
في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)
عمّار الحكيم (أرشيف ــ أ ف ب)
تعليقات: