مدينة جبيل تشهد ميلادا جديدا

جبيل مدينة تراثية:  سهر وسمر وتاريخ وألذ المأكولات
جبيل مدينة تراثية: سهر وسمر وتاريخ وألذ المأكولات


جبيل مدينة تراثية وعصرية في الوقت نفسه

جبيل (لبنان):

كان مساءا هادئا ليوم أحد خلال شهر سبتمبر (أيلول)، وكانت الشمس تسكب أشعتها الحمراء على الأسوار القديمة القريبة والأطلال القابعة أعلى شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وفي الأسفل، انطلق يخت مليء بنساء يرتدين البيكيني بسرعة نحو ميناء جبيل أو «بيبلوس» الشهير، وأطلق الربان، الذي وضع نظارة شمسية ذهبية اللون تشبه نظارة الطيارين على عينيه، صافرات اليخت من غير سبب واضح.

«يريد الجميع التباهي بقواربهم التي تبلغ قيمتها عدة ملايين من الدولارات»، هكذا قال زياد باز، مالك مطعم «باب المينا»، وهو أحد مطاعم السمك الواقعة بالقرب من الميناء، بينما كان يدخن سيجارا كوبيا ويهز رأسه وهو يرى هذا الاستعراض المتباهي بالثراء.

لكن لم يلاحظ ذلك الزوجان الجالسان على المائدة المجاورة يأكلان الحمص والحبار، ففي هذه الأيام يكاد يبعث وصول أي يخت فخم جديد شعورا بالملل داخل هذه المدينة. وقد يكون رد الفعل غير المبالي بمظاهر الثراء أكثر العلامات تعبيرا عن أن جبيل، جوهرة لبنان قبل الحرب، قد عادت من جديد. فقدت المدينة بعضا من بريقها في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، عندما أفزعت الحرب الأهلية أثرياء لبنان ومشاهيرها، ودفعتهم إلى الهرب منها، لكن مع الوصول إلى سلام صعب، ومع نمو السياحة خلال الأشهر العشرة الأولى من عام 2009 بمقدار النصف تقريبا بالمقارنة مع نفس الفترة من العام السابق، ومع بحث السكان المحليين عن ملاذ من وتيرة العمل المستعرة والأسعار الجنونية في بيروت، تشهد جبيل ميلادا جديدا إلى حد ما.

وشهدت مدينة جبيل افتتاح ما لا يقل عن 6 مطاعم وحانات في الهواء الطلق خلال العام الماضي فقط، ويلتهم عدد كبير من المنتجعات والشقق الفاخرة الجديدة، التي لا تزال قيد الإنشاء جنوبي المدينة، الشريط الساحلي الصخري لها، وقال شادي قدوم، (28 عاما) ويمتلك مطعما صغيرا على الطراز الفرنسي يقدم أطباقا طازجة ويسمى «ماذر»: «اعتاد جيلنا على مغادرة جبيل والذهاب إلى مكان آخر، لكن الجيل الحالي يبقى قريبا من بلده، سنحقق ازدهارا بحلول العام المقبل».

وإذا صحت العبارة التي تقول، إن بيروت هي باريس الشرق، فإن جبيل، التي تقع على بعد 22 ميلا من الشريط الساحلي، هي إذن «كان» الشرق، ومدينة جبيل عبارة عن ميناء قديم تحيط به آثار ما قبل الرومان وشواطئ ذات رمال بيضاء وجبال تعلوها أشجار الأرز، وتشتهر هذه المدينة بمطاعم الأسماك، التي تقدم أطباق سمك النهاش الأحمر وسمك القاروس الطازج لمرتاديها من جميع أنحاء العالم، وتنطلق يخوت الحفلات صوب ميناء المدينة الرائع عند الغروب، وهو نفس ما فعله براندو وسيناترا في أيام ازدهار جبيل قبل الحرب، وترسو هذه اليخوت بجوار الزوارق الصغيرة وقوارب الصيد الخشبية التي تحمل أسماء مثل «تاكسي جوي»، ويتراقص نجوم العرب وحاشيتهم طوال اليوم في المنتجعات الساحلية القريبة مثل «إيدي ساندز»، الذي تحفه أشجار النخيل وأحواض السباحة الجذابة.

وتضيف الحياة الليلية التي أعيد إحياؤها من جديد في المدينة بعدا جديدا لقوة جاذبية تاريخها وبقايا آثارها التي تعود إلى 7 آلاف عام، ولسنوات طوال، شملت مناطق الجذب الرئيسية في جبيل قلعة الصليبيين والأسوار الفينيقية القديمة وآثارا من العصر البرونزي عبارة عن معابد على شكل حرف «L» منتشرة على طول جرف عالٍ على شاطئ البحر، وكأنها قطع ضخمة من لعبة الليغو، وتعد جبيل واحدة من أقدم المدن المأهولة باستمرار بالسكان في العالم، حيت ترجع أصولها إلى 5 آلاف عام قبل الميلاد، كما تعد مهد الأبجدية الحديثة، حيث يشير الاسم اليوناني للمدينة «بيبلوس» إلى الكلمة اليونانية التي تعني ورق البردي.

وكانت المدينة ميناء تجاريا رئيسيا للبحارة المصريين القدماء لشراء خشب الأرز، وعلى الرغم من أن الكثير من التوابيت الخاصة بها والزهريات المنقوش عليها بالكتابة الهيروغليفية توجد الآن في المتحف الوطني في بيروت، فإن الزوار يستطيعون التجول عبر متاهة لا نهاية لها من الآثار للاستمتاع بأحد أقدم نماذج للتخطيط العمراني المتطور في العالم.

وقالت منى باسيلي سحناوي، وهي رسامة من بيروت شعرها كثيف وبه خصلة فضية اللون، «أحضر إلى هنا فقط لأتجول وأستنشق الهواء، تبدو الحجارة وكأنها تريد أن تتحدث عما حدث هنا قبل آلاف السنين». ويحيط بالقلعة شوارع منتشرة فيها الحصاة، وفيلات من الطوب الرملي ذات أسقف جملون برتقالية اللون، وحدائق خلابة تزينها أشجار الدفلي الوردية التي تقف عندها مواكب الزفاف ليتسنى للزوجين التقاط صور فوتوغرافية، وتلوح للعيان كنيسة كبيرة مبنية من الحجارة تعلو عن مسجد ذي قبة زرقاء، وفي النهار، تجتذب الأكشاك الصغيرة والبوتيكات داخل سوق جبيل الجميلة أناسا كثيرين، أغلبهم من السياح وقليل منهم من كبار السن، وتختلط الأصوات العربية مع الفرنسية بينما يبحث الزائرون عن زهريات خزفية وحلي صغيرة على الطراز الفينيقي.

وفيما يتعلق بالتماثيل الصغيرة ذات القبعات مخروطية الشكل، التي يمكن رؤيتها في جميع أنحاء المدينة، قال رينالدو الصايغ «أجد نفسي مضطرا لبيع مثل هذه الأشياء، ومع ذلك أنا موجود هنا منذ 10 أعوام، ولم أكن منشغلا قط إلى هذه الدرجة مثل هذه الأيام، اعتاد الناس على المجيء إلى جبيل للاسترخاء، إنها الآن مختلفة تماما».

وأصبحت جبيل مقصدا ليس للمغتربين اللبنانيين الأثرياء فحسب، بل أيضا لعشاق السهر الذين يبحثون عن بديل للأندية المكتظة وسياسات بيروت الصارمة، وفي مكان يبعد عن الساحل، نجد حانة «بيير آند فريندز» التي يغطي سقفها عيدان البامبو والقش ترتكز على أسوار مرتفعة، وترتطم أمامها الأمواج بشريط ضيق من الرمال الصخرية، ويقف تجمع من الأشخاص في العقد الرابع من عمرهم لالتقاط الصور الفوتوغرافية، ويقف مجموعة من المتزلجين يتحدون المياه الهائجة. وقال بيير طنوس، الذي تحمل الحانة اسمه ويشبه كثيرا هؤلاء الأشخاص، والذي يرتدي قلادة من الصدف، «نحاول أن نجعل الحياة هنا بسيطة، لا أحد يرتدي ثيابا رسمية ولا يوجد شيء غالي الثمن».

ولا يتمتع بالشعور بالاسترخاء العاملون بمجال البناء المنشغلون بتحويل منطقة الشاطئ التي توجد في جنوب جبيل إلى منطقة لمحدثي الثراء في لبنان، ومن المتوقع خلال الصيف المقبل افتتاح مجمع ممتد من الفيلات والشقق ومنتجعات علاجية يسمى «بيبلوس سود فيليدج»، وعلى الجانب الآخر من الشارع، افتتح فندقان جديدان (أحدهما به منتجع علاجي كامل الخدمات) خلال العام الحالي، وتنفذ ترميمات هامة داخل فندق «بيبلوس سور مير» القريب من الميناء والمحاط بالسقالات، وتوجد سلسلة من الفنادق الجديدة في مراحل الإنشاء الأولى.

ويقول سكان محليون إن الإيقاع السريع للغاية لعمليات البناء في جبيل يرجع إلى حد ما إلى كون الرئيس ميشال سليمان من بلدة قريبة تسمى عمشيت.

وكان حضور جبيل واضحا بالفعل في مساء يوم جمعة في شهر سبتمبر (أيلول)، حيث شق سرب طويل من سيارات الدفع الرباعي السوداء طريقه صوب المدينة وعجت الشوارع بأزواج يتنزهون ومحبي الحفلات.

وقال مايكل دياز، وهو شاب عمره 22 عاما من إسبانيا: «لا تستطيع أن تجد هذا الجو في بيروت»، وكان هذا الشاب واقفا على إحدى الموائد في حانة مع أصدقاء له من دولة شيلي داخل أحد الشوارع الجانبية الضيقة التي تعج بالراقصين والراقصات، وأضاف «تتم جميع الأشياء هنا في الهواء الطلق، لذا نتمتع بالكثير من الحرية».

ومع تزايد وتيرة الرقص، غطى الظلام المنطقة بالكامل، وبعد توقف، عادت الأضواء والموسيقى من جديد، لم يفتقد أحد إيقاع الموسيقى، حيث استأنف الجميع الرقص وتناول المشروبات، ونظرا لضعف الشبكة الكهربائية، فإن انقطاع التيار الكهربائي أمر شائع في لبنان، لكن انقطاع التيار الكهربائي على نحو متفرق ليس كافيا لعرقلة إعادة الحياة لهذا الميناء القديم بعد عقود من الصراع والاضطرابات السياسية.

قال باز، مالك مطعم «باب المينا»: «لقد نما نشاطنا التجاري بواقع 3 أضعاف مقارنة بالعام الماضي، لقد تغيرت المدينة كثيرا، فهي تشبه إلى حد بعيد لبنان في السبعينات قبل الحرب».

كيف تصل إلى هناك؟

تتكلف الرحلة من بيروت إلى جبيل باستخدام سيارات الأجرة نحو 35 ألف ليرة لبنانية (نحو 24 دولارا) وفقا لسعر صرف الدولار الذي يساوي 1473 ليرة لبنانية، لاحظ أنه يجري التعامل بالدولار الأميركي على نطاق واسع في لبنان.

أماكن الإقامة: جبيل أو بيبلوس هو الاسم الذي أطلق على ألف منتجع على البحر، إلا أنه وللمفاجأة يوجد عدد صغير من الفنادق الفخمة هناك، عليك تجنب الفنادق الجديدة الواقعة على البحر جنوب وسط المدينة، التي من الممكن أن تكون منخفضة الجودة ومبالغا في أسعار الإقامة بها.

ويفضل فندق «كناري دو بيبلوس» (طريق رقم 13، مخرج الطريق السريع؛ تليفون: 961 - 9 - 550 - 550؛ الموقع على الإنترنت: canaridebyblos.com)، حيث يحتوي هذا الفندق على 33 غرفة نظيفة حتى وإن كانت بسيطة يوجد بكل منها شاشات تلفزيون مسطحة وشرفات خاصة ويقدم الفندق وجبة الإفطار، وتبدأ أسعار الغرفة المزدوجة من 160 دولارا، شاملة الضرائب، ويقيم الكثير من زوار جبيل في بيروت، التي تبعد 22 ميلا عن المدينة، ويقومون برحلة يومية سهلة إليها.

المطاعم: أفضل مطعم في المدينة هو «لوكاندا ألا غراندا» (يقع في السوق القديمة؛ تليفون: 961 - 9 - 944 - 333)، ويوجد به مطبخ يقدم طرقا مختلفة للطهي، ويطل على الأسوار القديمة في صورة مدهشة، جرب هناك التاجلياتيلي الخاصة بالمطعم (16500 ليرة لبنانية)، وهي نوع من المعكرونة المغطاة بالكريمة وجبن الروكفور والمكسرات، وتناول بعدها كيك الروم المغطى بعسل النحل، وهو كيك البابا (12000 ليرة لبنانية). ولتناول اللحم مع البطاطا المشوية (35000 ليرة لبنانية) جرب مطعم «ماذر» (السوق القديمة؛ تليفون: 961 - 3 - 951 - 901). وتستحق موسيقى الجاز الهادئة وتناول الطعام في الهواء الطلق في وسط المدينة هذه الأسعار العالية للغاية.

أو بدلا من ذلك، اتجه إلى مطعم «باب المينا» (ميناء جبيل؛ تليفون: 961 - 9 - 540 - 475) لتناول أسماك القاروس الطازجة (95000 ليرة للكيلو) أو سمك النهاش الأحمر (70000 ليرة) ولمشاهدة المشهد الرومانسي للميناء.

ماذا عليك أن تفعل؟

القلعة مفتوحة يوميا، من الساعة 8:30 صباحا حتى غروب الشمس (6000 ليرة)، ويوجد متجر جميل يبيع الحلي الصغيرة على الطراز الفينيقي والأعمال الفنية اللبنانية يسمى «رينالدو آند سم أيدياز» (السوق القديمة؛ تليفون: 961 - 3 - 261 - 217).

ويعد «إيدي ساندز» في جنوب وسط المدينة أشهر نادٍ على الشاطئ في لبنان (تليفون: 961 - 9 - 546 - 666، الموقع على الإنترنت: www.eddesands.com) وذلك في المقام الأول نظرا لحفلات الرقص التي يقيمها نهاية الأسبوع، والمنتجع الخاص به مفتوح طوال السنة. وهناك حانة «بيير آند فريندز» (تليفون: 961 - 3 - 352 - 930)، التي تبعد 10 دقائق بالسيارة عن شمال جبيل، أسفل منطقة صخرية، وهذه الحانة التي تقع على الشاطئ تقدم ألواح التزلج على الماء وحفلات شواء وحفلات استرخاء.

* خدمة «نيويورك تايمز»

تعليقات: