دولة الحريري ... وما قبل وما بعد


.

بعد خمس سنوات على استشهاد الرئيس الحريري، يتذكره الناس على أنه كان رجل الإعمار والنهوض الاقتصادي ورجل القرار. كان هناك من عارضه، وكان هناك من اتفق معه. لكنه كان صاحب رؤية، الرؤية تحوّلت في بعضها على الأقل إلى مشروع، والمشروع تحوّل في بعضه على الأقل إلى التنفيذ والتحقّق.

الصورة التي يحفظها الناس عن رفيق الحريري تختلف عمن قبله وعمن بعده. قبله كانت الحرب الأهلية وبعده كان الصراع على الصلاحيات والصراع على السلطة والعجز عن أخذ القرار، فكأن البلد في خضم حرب أهلية باردة، حرب تكاد تنفجر هنا أو هناك عند حدوث ما تعتبره الطوائف والمذاهب والعشائر تحدياً لها، حرب تكاد تودي بالسلطات القائمة وتكاد تمنع قيام سلطات جديدة (من رئيس وبرلمان وحكومة وربما بلديات) إلا في حال ضغوطات من الخارج.

الصورة التي يحفظها الناس عنه هي أنه كان الوحيد تقريباً الذي قدم مشروعاً للدولة في لبنان. كثر خصومه منذ اليوم الأول لتوليه رئاسة الحكومة. اضطر إلى تسويات عديدة. ابيضّ شعره في سنوات قليلة نتيجة المواجهات التي خاضها بثبات ودون كلل، مع تراجعات عدة، ومع محاولات متكررة دون يأس من البلد وامكاناته.

كانت رؤيته هي أنّه يمكن بناء الوطن والدولة والمجتمع بالاعتماد على الداخل قبل الخارج. التدفقات المالية الخارجية تساعد أبناء البلد ولا تحلّ مكان سواعدهم. الدولة حاضنة للمجتمع لا مجرد جابٍ للضرائب وموزّع للانعام؛ المجتمع يتحد حول المستقبل ان لم يستطع الاتفاق حول الماضي؛ الطوائف تُحترم بمقدار ما يمكن تحييدها في معركة الاعمار؛ اعمار البنى التحتية مقدمة لنهوض اقتصادي؛ النهوض الاقتصادي جوهره الانتاج السلعي الزراعي والصناعي والخدماتي؛ وإن كان هناك، ولا يزال، جدال حول أي نوع من المنتجات يتم الاعتماد على تحقيقها؛ ومجتمع ينتقل من انقسامات الطوائف إلى حالة أخرى بالعمل والانتاج وتلبية الحاجات لا بالوعظ ولا بالتنازع حول الصلاحيات؛ تغيير الوقائع على الأرض قبل الحديث عن تغييرات دستورية؛ تغييرات دستورية تواكب الوقائع والتطورات الاجتماعية لا العكس. بين الطبقة والطائفة اختار الطبقة ولم يهمل الطائفة. استفادت الطبقة وخسرت الطائفة، ما كان مثاراً لاعتراضات كثيرة . لكنه رأى أن هذه هي الطريق الوحيدة لبناء دولة تليق بالمجتمع اللبناني.

الصورة التي يتذكرها اللبنانيون عنه هي أنه جاء من خارج النظام وبقي خارجه رغم الثروة الهائلة لديه. خالف قواعد النظام رغم أنه انضوى تحت رايته. لكن ما خالفه كان كافياً لأن يعتبره خصومه مشروعاً خطراً. الخطر كان أنه قدم مشروعاً للدولة، مشروعاً لدولة لا تُقام إلا على ركائز مخالفة لما تعود عليه اللبنانيون؛ مخالفة للأيديولوجيا السائدة. كان قوة تغيير. الجميع يقولون بالتغيير وضرورته. لكنه انفرد برؤية حول تغيير كاد يصل إلى أحشاء المجتمع اللبناني، وكاد يزعزع مقولات وافتراضات لم تستطع الحرب الأهلية تغييرها ولا المساس بها.

يتذكره الناس لأنه قدم رؤية لدولة جديدة؛ دون برنامج محدد ودون تنظير. لم يكن ذلك متاحاً في نظام لا يقبل خطة اقتصادية، ولا حتى خطة لإعمار البنى التحتية، ولا خطة من أي نوع في أي ظرف وزمان ومهما كانت الدواعي والأخطار المحدقة. يتذكره الناس لرؤية كانوا يرونها ضرورية دون أن يستطيعوا الافصاح عنها. لأن النظام ما زودهم بالمعطيات المادية والفكرية للتعبير عنها، يتذكرها الناس لأنهم وجدوا فيها ما لم يجدوه في أنفسهم.

كان متواضعاً أمام الوقائع والممكنات، مكابراً أمام الاحتمالات. لم يملّ ولم ييأس، رغم المواجهات الصعبة. وهذه هي الصورة التي يريد الناس الاحتفاظ بها؛ صورة لدولة يمكن العيش فيها والتمسك بها دون أن تكون مُرضية بالكامل لأي طرف من الاطراف. كانت رؤيته استمراراً لاتفاق الطائف. بل كانت في أساس صنع هذا الاتفاق. بعض اللبنانيين رفض الاتفاق لأنه تسوية، لكن معظم اللبنانيين وافقوا عليه لأنه كان تسوية؛ لم يخسر أحد من اللبنانيين من نتائج هذه التسوية.

بعد سنوات على اغتياله، وبعد سنوات على حدوث تغييرات في النظام اللبناني كانت أشبه بالانقلابات عليه، يحتفظ اللبنانيون بصورة عنه هي في العمق صورة لدولة تنموية كان يمكن أن تنشأ وتتطور. الدولة التنموية مفهوم غريب على لبنان، وعلى معظم الدول العربية. لكنه مفهوم طُبق في العديد من بلدان آسيا الشرقية وأحرز نجاحاً باهراً.

يعبّر مفهوم الدولة التنموية عن مشروع للمستقبل؛ مشروع يمكن أن يحقق إجماع اللبنانيين عليه في حين أنّهم يختلفون حول الماضي والتاريخ ومعطيات الثقافة؛ مشروع يبني على المشترك بين اللبنانيين ويتجاوز المختلف عليه بينهم، وإن لم يهمل عوامل الاختلاف. الهوية في أحد جوانبها مشروع للمستقبل؛ تعبير عن الارادة حول المصير وكيف يرى الناس أنفسهم بعد اللحظة الراهنة. مشروع الدولة التنموية ينشئ هوية جديدة في لبنان بعد الفشل في استخراج هوية من الماضي. ربما كانت رؤية الحريري هي المشروع الوحيد المتاح للبنان المستقبل. على كل حال، لم يقدم غيره رؤية لمشروع آخر.

يختلف اللبنانيون ويتصارعون. ليس العيب في الاختلاف. الأكثر خيراً لنا هو أن نختلف حول المستقبل، ان نناقش ونتحاور حول ما يمكن تحقيقه في دولة تكون إطاراً للمجتمع، ولا تبقى كياناً غريباً عنه مفروضاً عليه.

أثارت تجربة الحريري عاصفة من التساؤلات. كان الرجل عاصفة. مفيد لنا أن نتابع التساؤل والحوار والنقاش حول مستقبل نبنيه معاً. من غير الضروري أن نصل إلى الاستنتجات نفسها، ومن غير الضروري أن نصل إلى استنتاجات متشابهة. لكن الحوار يوحّد أكثر مما يفرق.

البريد الالكتروني: alfadel.chalak@gmail.com

تعليقات: