انه العيد. انه يوم النصر. النصر بالتحرير وإجلاء الاحتلال الاسرائيلي. والنصر باستعادة الناس أسماءهم الاصلية التي اذا ما انفصلت عن الأرض فقدت معناها وفقد أصحابها ملامحهم التي بها يعرفون.
إنه العيد. انه يوم الفرح بعد دهر الاحزان الذي كلما توهمنا انه انقضى جددته كارثة غفلة جديدة او سقطة اخرى بالهرولة الى الاستسلام هرباً من عبء مواجهة لا مفر منه.
لكن العيد ناقص البهجة. لكأنه يفتقد بعض اهله وجمهوره.
انه "نصر عربي" بامتياز، على ان العرب الذين ادمنوا الهزيمة يجاملوننا ببرقيات التهنئة والتأييد او بالمباركات من بعيد، ثم يتلبثون قرب الهاتف ينتظرون رسالة اميركية بفتح الطريق مرة اخرى الى "التفاوض" على "وقف دورة العنف"، بعيدا عن الأرض والناس والحقوق والسلام، بعيداً عن فلسطين والقدس بالأقصى والصخرة والوثيقة العمرية وطيف صلاح الدين.
البرقيات وصلت، لكن المساعدات والهبات وحتى القروض لم تصل ولا القادرون جاؤوا لمشاركتنا الفرحة.
وهو نصر وطني، بل هو النصر الوطني الذي لم يتحقق مثله او ما يدانيه قيمة وأهمية من قبل.
انه الاستقلال الذي انتزعناه بدمائنا لا بالتسوية الصفقة بين الطوائف والمذاهب على مستوى الداخل، ولا بين الدول العظمى ومراكز القرار على مستوى الخارج، بل بالقراءة الدقيقة للتوازنات، والفهم العميق لطبيعة العدو ونقاط ضعفه داخل حقيقة تفوقه العسكري، والتجنب الواعي والمقصود لكل اسباب الفرقة والتنافس والغرق في مستنقع المنافسات والحساسيات المرضية في المجتمع السياسي اللبناني.
انه العيد. انه النصر، لكن حماية النصر قد تكون أعظم كلفة من إنجازه: عاد أهل البيت الى أرضهم، لكن تأمين بقائهم في بيتهم ليس سهلاً، ثم إنه لم يحتل المرتبة الاولى في الاهتمام الرسمي.
***
خُلعت حواجز الموت الاسرائيلي وانهزم القتلة وقد اطفأ عيونهم وهج الدم المقدس. اخرجت الارض زهرها وانتشر عبق الشذى يمسح آثار الاقدام الهمجية. وعاد الهواء يحمل رسائل العشاق في اغاني الوجد التي تعرف عناوينها المقصودة في المشاع المفتوح للصوت.
لقد هرب القتلة الذين كانوا يطلقون النار على الهمسات، ويغتالون اخيلة العشاق، ويطاردون المحبين بالطائرات، ويقصفون خلوات الورد بالصواريخ... أما الشعر فقد ظل عاصياً، يستولد من الحب المقاومين، ويمنح المحبين طاقة على الصمود غير محدودة، أما في الليل فينصب الكمائن لأعداء الصباح فيولد النور محرراً معافى وينتشر حتى يغمر المباركة فلسطين بوشاح الحرية.
مع النصر جاءت الصعوبة...
لكأن اوضاعنا لم تكن تتسع لنصر بهي، فكادت تحصره في الهامش، مخلية المتن لدعاوى الزور والتزوير، التي اتخذت لنفسها عناوين مضللة اولها ضرورة حماية العميل من الاصيل، وضرورة تأمين الكفيل بالوكيل، وثانيها ضرورة تأمين الاحتلال بجيش الاستقلال، وضرورة محاصرة الدم الاحمر بالخط الازرق.
كان علينا ان نتستر على النصر وكأنه عورة، فإذا ما انتشر نوره كشف ما تقتضي الضرورة ببقائه مستوراً من اوضاعنا الهشة، ومن التخاذل الرسمي العام الذي يحكم اخوتنا العرب.
ولتشويه النصر حاولوا تطئيفه، فصار وكأنه غلبة لمقهورين بالاحتلال على مستفيدين من الاحتلال.
وصار كأنه محاولة لتعديل التوازنات الهشة في سلطة المحاصصة الطائفية والتوازن المستحيل بين المذاهب المتوالدة باستمرار حتى كادت تبلغ العشرين عدداً...
***
لقد ذهبت "الدولة" كلها الى الارض المحررة في الجنوب وبعض البقاع الغربي، لكنها، في الغالب الاعم، ذهبت محتفلة او زائرة.
في الأيام الاولى بدا كأن ورش العمل باشرت الإنجاز في كل مجال... ثم سرعان ما توقف العمل في معظم المجالات، إما لعدم وجود اعتمادات، وإما لنقص في المال العام الضروري لتعويض الغياب القسري للدولة عن هذه الارض المشوقة الى العودة الى احضان دولتها.
بل إن بعض المؤسسات المحدودة التي كانت تؤدي خدمات محددة، في المجال الصحي مثلاً، او السياحي، او التجاري، تعثرت او اقفلت نتيجة التنافس الحزبي الذي سرعان ما يتخذ صورة الرغبة في توكيد الهيمنة على السلطة وتسخيرها لأغراض انتخابية، وتكون النتيجة تشطيرا طائفيا ومذهبيا للمنطقة والأهالي... اي للنصر وأفراح التحرير.
انه العيد الاول: انها المناسبة المثلى لمراجعة كل ما تم، ومحاسبة الذات والتصدي لوجوه التقصير او الاهمال.
لقد حقق "الجهاد الاصغر" النصر، وجاء زمن الجهاد الاكبر: حماية النصر بأهله... وحماية الارض بأهلها فيها، وحماية الاهل بتوفير مقومات صمودهم في أرضهم.
وعلى هذا يجب ان يتم الحساب.
لقد حقق لبنان المقاوم النصر، فهل نعجز عن حمايته؟!
هذا العدد الخاص يتجاوز التحية الى المراجعة، ويتجاوز الاحتفال الى التمهيد لمحاسبة الذات عن وجوه الإنجاز، وهي محدودة، ومجالات الإخفاق وهي كثيرة.
وكل نصر وأنتم بخير، وعسى "العيد" الثاني يأتي وقد انجزنا ما منعتنا "الظروف" من إنجازه على مدى العام الاول للتحرير.
تعليقات: