محمد العبد الله
حين وصلتُ إلى موعدنا في الثانية عشرة ظهراً، كان محمد العبد الله يطلب من النادل زجاجة بيرة ثانية. الروّاد القليلون كانوا مكتفين بمشروبات ساخنة. لا يزال الوقت باكراً على الخمريات، لكن صاحب «جموع تكسير» بدا كمن يتمرَّن بالبيرة من أجل ليلةٍ سيمضيها بصحبة مشروب أقوى. الشاعر الذي شغل السبعينيات والثمانينيات بصخبه الشعري والشخصي، بات أقل حماسةً من قبل. في داخله، غيظٌ مكتوم على ما آلت إليه الأمور، لكنه يبدو وادعاً ومستسلماً لمقادير الحياة التي بات مكرهاً على تقبُّلها بسعة صدر لم يعتدها.
لا يتذمّر العبد الله كثيراً. لديه مهارة سريعة وجاهزة في تحويل وحشته وحزنه إلى تعليقات وطرائف ذكية. يقول إنّه نصف مهزوم، مثل أغلب أبناء جيله من الشعراء والمثقفين. «أفكارنا ومشاريعنا انتهت. لم يعد لنا سوى الكتابة والمقهى والحانة». أسأله عن الوحدة التي يُمضيها أغلب الوقت بصحبة الكأس؟ «الشاعر وحيدٌ دائماً» يجيب بسرعة. يمجّ نفساً من السيجارة، ويذكّر بأنه سمّى باكورته الشعرية «رسائل الوحشة». «أنا أخرج يومياً لصناعة الصحبة والصداقة، لكن ذلك لا ينقذنا تماماً من الوحشة». نادراً ما تُشاهد من دون كأس، أقول له. يبتسم: «أنا لم أخترع الخمرة. إنها موجودة منذ أيام هوميروس. التراث العربي مملوء بالخمريات. أنا مجرد زبون في هذا البار العالمي». يصمت. «ستقول لي إن المشروب مضرّ. أعرف ذلك. لكني لستُ مستتبعاً له. أنا أشرب الكأس وليست هي التي تشربني. أنا كما يقول عنترة بن شداد: فإذا شربتُ فإنني مستهلكٌ/ مالي، وعِرضي وافرٌ لم يُكْلمِ».
لا نحتاج إلى شهادة العبد الله، كي نعرف أن انزواءه ووحشته لا يمنعانه من إنجاز واجباته ومشاغله. لا يزال يكتب «بلا هوادة»، بحسب عنوان ديوانه الأخير، الذي تُمكن قراءته كترجمة حرفية لحياةٍ شخصية مأخوذة على محمل النكتة والسخرية السوداء. «لم أعد حائراً/ فالخسارةُ قد وقعت بالفعل/ وانقذف النردُ»، هكذا يصف رهانه الحياتي في إحدى قصائد الديوان.
صاحب «لحم السعادة» قادر على السخرية حتى من نفسه، إن لم يجد موضوعاً آخر. السخرية نوعٌ من الحلّ لشخصٍ بدأ حياته بأحلامٍ كبيرة، واستيقظ على كوابيس مزعجة، ولكن الصورة الراهنة للشاعر اليائس من أيّ إمكانية للتغيير لا تحجب عنا صورته السابقة. سليل عائلة العبد الله، المولود في «الخيام» (جنوب لبنان)، أبدى نهماً مبكراً للحياة والدراسة. ورث عن أبيه حب الشعر واللغة العربية. درس في مسقط رأسه حتى الشهادة الإعدادية. الطالب المتفوّق في الرياضيات والعلوم، تحوَّل إلى القسم الأدبي كي يُقبل في «دار المعلمين»، التي كانت الدراسة فيها مختلطة، ويحصل فيها الطالب على منحة بقيمة 90 ليرة لبنانية. «تخليت عن توجّهي العلمي كرمى للصبايا والنقود»، يقول ضاحكاً.
بعد التخرُّج، أمضى سنتين مدرّساً في الخيام، ثم عاد إلى بيروت. إلى «كلية التربية» في «الجامعة اللبنانية» تحديداً. هناك بزغ نجمه، حين فازت قصيدته «بيروت» بالجائزة الأولى في مهرجانها السنوي الشهير. محمد العبد الله هو ابن تلك الفترة الحبلى بالآمال والطموحات. كانت الجامعة فضاءً للتلاقي والعيش المشترك. «كانت لحظة غليان واعدة بالكثير. كنا نريد تغيير العالم. أتذكر أن أنسي الحاج كتب وقتها في «ملحق النهار» يدعونا إلى مواصلة التظاهر والثورة. استُدعي إلى التحقيق، فاحتجَّ على ذلك في العدد التالي بنشر صفحة بيضاء مذيَّلة باسمه». يتقاسم العبد الله مع أقرانه فكرة أن الجامعة كانت فرصة لصياغة العيش المشترك. «هناك ذابت طوائفنا ورحنا نشبه بعضنا بعضاً. حصلت زيجات مختلطة. زواجي بهدى بركات كان جزءاً من مزاج تلك الحقبة. جاءت الحرب الأهلية وقضت على كل شيء». الحرب أبعدتهما إلى باريس. بقيا فيها سنتين. إلى هناك، جاءه مرسيل خليفة لوضع اللمسات اللحنية الأخيرة على بعض قصائده. عاد الزوجان إلى البلد. ثم عملا في قبرص في آخر عامين من الحرب. بطريقة ما، يمكن القول إن انفصالهما كان حصيلةً شخصية للحرب. خرب البلد وخربت معه حيواتٌ كثيرة.
هناك شيء ما لا يزال مكسوراً في داخل هذا الشاعر الذي امتلك نبرة متفرّدة بين مجايليه. انكسارٌ وجد طريقه إلى شعره، وراح يضيف نكهة خاصة إلى أعماله. الشاعر الذي حملت باكورته بياناً شعرياً قوياً، انعطف مباشرةً في مجموعته الثانية «بعد ظهر نبيذٍ أحمر/ بعد ظهر خطأ كبير» التي خلط فيها الشعر بالنثر العادي والسرد القصصي، وترسَّخت فيها شخصية «السيد سين» الذي يَعِدُ القارئ بالاستيقاظ من سكرته ولا يفعل.
واصل محمد العبد الله كتابة الشعر، لكنّه أنجز قصصاً ونصوصاً ومسرحيات. كتب بالعامّية. غنّت أميمة خليل عدداً من قصائده. كتب «حبيبتي الدولة» بوصفها «تغريبة»، وجمع في «كيفما اتفق» بعض ما نشره في زاوية صحافية حملت العنوان نفسه. نزَّه قلمه في أجناسٍ كتابية عدّة، لكنه لم يكفّ عن إدهاشنا بجملته الذكية وخياله الخصب. «حاولت كثيراً، لكني لم أُفلح في كتابة أشياء غير جميلة»، يقول مقهقهاً. أذكِّره بأن الشاعر أمجد ناصر كتب بعد زيارته لبيروت أنه افتقد قامته الضخمة في مكاتب جريدة «السفير»، فتعلو وجهه ابتسامة تُخفي عتباً. «حاولت مراتٍ عدة أن أعود إلى الصحافة، لكن يبدو أنهم يفضِّلونني كاتباً لا موظفاً. يخشون أن يُفسد مزاجي المشاكس سير العمل، وهذا غير صحيح».
قبل أن أغادر، يرتشف «السيد سين» آخر جرعة من كأسه. «أتعرف لماذا نشرب؟»، يسألني ويجيب هو: «الشرب يجعلنا كائناتٍ لطيفة ومرحة. وإلّا فكيف يمكن احتمال الأثمان الباهظة التي دفَّعتنا إيّاها الحياة؟».
5 تواريخ:
1946
الولادة في الخيام (جنوب لبنان)
1970
جائزة الشعر في مهرجان «كلية التربية» في «الجامعة اللبنانية»
1978
عمل محرراً في القسم الثقافي لجريدة «السفير» حتى عام 1982
1979
صدر ديوانه الأول «رسائل الوحشة» (دار الفارابي)
2010
صدر ديوان «بلا هوادة»، ومختارات
بعنوان «قصائد بيروت 1970 ـــــ 2009» (دار الحرف العربي) يقدّمها في السادسة من مساء الغد، في قاعة «قصر الأونيسكو»، ضمن احتفالية «بيروت عاصمة عالمية للكتاب»
تعليقات: