غسان كنفاني: الأيقونة أم الأسير العاشق؟

ستظل صرخة أبي الخيزران في خاتمة رواية «رجال في الشمس» «لماذا لم تدقوا الخزّان» مجازاً عنيفاً، اختزل فيه غسان كنفاني التراجيديا الفلسطينية. فالصهريج الذي كان يعبر الصحراء لم يكن إلا مقبرة الفلسطيني وخاتمته المأساوية. وسيعيد توفيق صالح في فيلمه «المخدوعون» المأخوذ عن الرواية عينها، المشهد نفسه بألق بصري أخّاذ. ولتكتمل المأساة بأصولها الشكسبيرية، ستحضر أيضاً صورة حرس الحدود الكويتي وهم يعابثون أبا الخيزران قبل أن يختموا أوراقه لعبور الحدود، مطالبين إياه بأن يروي لهم حكايته مع الراقصة كوكب، فيما كانت جثث الفلسطينيين تختنق داخل الخزّان المغلق. لا دليل للفلسطيني في رمال الحدود يوصله إلى ملاذ آمن. هذا ما أشار إليه كنفاني باكراً ليذهب إلى شؤون أخرى، ويتحوّل إلى خبر أول في إذاعة «بي بي سي».

اليوم، نفتّش عن صورة غسان كنفاني الأخرى. صورة الفتى الذي لجأ إلى دمشق وعمل كاتب عرائض أمام باب قصر العدل ثم صورة معلّم الرسم في مدرسة وكالة الغوث والمُهاجر إلى الكويت في ترحال غجري ليعود إلى دمشق مثقلاً بمرض السكري وأبر الأنسولين. وهناك صورته في «ملهى الكروان» الدمشقي، واكتشافه حياة الليل في عبثية مطلقة تليق بـ«فوكنر الفلسطيني».

هل كان ضرورياً أن يكون كنفاني أيقونة فلسطينية؟ وإلا ما تفسير تكرار صورة المناضل؟ لنقل إنّها واحدة من مراياه المتعدّدة والمتشظية. لكن لماذا نحجب صورة الكائن الهش والعاشق والحكواتي؟ هكذا سأحاول أن أنبش وهج رسائله إلى غادة السمان، لا بوصفها فضيحةً معلنةً، كما أرادها حملة السيوف، بل من باب أنّ هذه الرسائل نصوص عشق متوحّشة. فالمناضل الجيد عاشق جيد بالضرورة. كنفاني كما تكشف عنه سطوره في الرسائل يكتب نصاً متوهّجاً من دون أقنعة. ولعله في مثل هذه الاعترافات تكمن خصوصية كنفاني، فهي إضافة أصيلة إلى نصه الآخر، النص الثوري والمقاوم. لماذا إذاً يحتجّ الآخرون حين تضيق العبارة إلى حدود الألم والشهوة وشهقات الانتظار «يكبر غيابك في صدري بصورة تستعصي على العلاج. ويخفق قلبي كلّما دقّ جرس الهاتف في هذه الغرفة العالية». الرسائل نصوص نادرة كم نحتاج إليها في مكتبة فقيرة، بعيداً من نصاعة الزيف الأدبي الذي تغرق به رفوف المكتبة العربية والفلسطينية، بعدما ضاقت بالصراخ والديناميت الفاسد. هكذا سينتبه، في زمن آخر، شاعر مثل محمود درويش إلى أمثولة غسان كنفاني في أهمية النص الشخصي، فيكتب «جدارية» و«سرير الغريبة» و«كزهر اللوز أو أبعد». لقد آن الأوان ليكتب الفلسطيني نصّه المؤجل أو كما يقول محمود درويش نفسه «ليس الفلسطيني مهنة أو شعاراً، إنه كائن بشري يحب الحياة وينخطف بزهر اللوز». لنستعيد إذاً صورة غسان كنفاني المنخطف بزهر اللوز لا الأيقونة وحسب!

تعليقات: