جان عزيز
يبدو النفي الصادر عن أحد الوزراء السياديين المعنيين بقضية طلب المحكمة الدولية 300 عنصر أمني لبناني لمؤازرة استدعاءات محتملة، غير دقيق. إذ إن مسؤولاً مطّلعاً على الملف يجزم بأن الطلب قد ورد، وبأنه أحيل على أكثر من جهة طلب منها الإجابة عنه، وبأن هذا الاستحقاق طُرح جدياً، بوصفه عائقاً من العوائق الممكنة إثارتها، لتأجيل الانتخابات البلدية المقبلة.
غير أن المسؤول نفسه يسارع إلى التأكيد أن هذا السبب لن يكون العامل الحاسم في تغليب كفّة التأجيل، في حال رجحانها فعلاً. ففي العمق، هناك سببان اثنان، أكثر بنيوية وفاعلية، في ذهنية طبقتنا السياسية وسلوكها، هما الدافعان العقليان لتأجيل المرجو من هذه الطبقة.
السبب الأول، هو هذا الاجتماع في انطباعات الطبقة السياسية اللبنانية، على أن «الانتخابات تعني الاضطرابات». وينبثق من هذا الإجماع الانطباعي معادلة فرعية، تقول إنه إذا كان «الاضطراب الانتخابي» ضرورة لضمان استمرارية النظام السياسي مثلاً، في حالة الانتخابات النيابية، فهذا أمر يمكن احتماله وتجرّع سمّه. أما الإقدام عليه في «شأن هامشي»، مثل الاستحقاق البلدي، فأمر لا ضرورة له إطلاقاً. هكذا، تقنّع الطبقة السياسية اللبنانية تخلُّفها في مفاهيم الديموقراطية وثقافتها وسلوكها، عبر إلباسها وجه الحرص المزعوم على النظام العام، والوئام بين «العائلات اللبنانية الواحدة» في المدن والبلدات والقرى والأحياء، وحتى داخل كل بيت ومنزل.
وتستعين الطبقة السياسية لتزكية رأيها هذا، بأرقام الاستحقاق البلدي: نحو 945 بلدية، أكثر من 20 ألف مرشح متوقع، وبالتالي يقفز إلى مفهومها الديموقراطي فوراً، مشهد ألف موقعة حربية، يستنفر في معاركها أكثر من عشرين ألف منزل من منازل قد تكون لمناصري طرف واحد، أو لسياسي واحد، ما يحتم «التورط» و«خسارة الأصوات» وحتمية «اسوداد الوجه» في معظم الحالات.
غير أن السبب الثاني المتأصل في عمق تفكير طبقتنا السياسية، هو أكثر سلطوية ونزوعاً صوب الاحتكارية والاستئثارية والمركزية، في تعاطي الشأن العام. تاريخياً، يقول المسؤول المعني بالملف إنه كان ثمة تفضيل للسياسيين اللبنانيين لتحجيم مفهوم «السلطة المحلية» ولتعظيم مفهوم السلطة المركزية في البلد.
فعلى سبيل المثال، إذا أراد واحدنا العودة في تاريخنا السياسي ليسأل: لماذا تأجلت مثلاً الانتخابات البلدية سنة 1967؟ يومها كانت ولاية مجالسها 4 سنوات، وكانت آخر انتخابات بلدية واختيارية قد أجريت سنة 63. الجواب العفوي الأول الذي قد يخطر في بال الباحث، أن السبب كان حرب الأيام الستة. لكن الأمر غير صحيح. فتلك الحرب انتهت فعلاً في ستة أيام، ولم تنعكس تأثيراً كبيراً على لبنان. وبالتدقيق أكثر، نكتشف أن تأجيل الانتخابات البلدية يومها حصل بموجب قانون بمادة وحيدة، من دون أسباب موجبة. هكذا، قررت طبقتنا السياسية حرمان الناس حقهم في إدارة مصالحهم المحلية، من دون إعطائهم أي تفسير أو تعليل. لا بل الأكثر لفتاً، أن الاستحقاق تأجل يومها ـــــ اعتباطاً واستنساباً ـــــ لسنة واحدة. فماذا حصل في السنة التالية مثلاً؟ بكل بساطة، جاء عام 1968 ليشهد تأجيلاً جديداً للاستحقاق البلدي، فيما ذهبت الطبقة السياسية إلى تجديد نفسها، عبر إجرائها الانتخابات النيابية في تلك السنة تحديداً، وتتالت فرمانات التأجيل البلدي، بالاعتباط والاستنساب نفسيهما. سنة 1972، أُجريت انتخابات نيابية مرة أخرى، فيما الانتخابات البلدية كانت تُرمى من عام إلى آخر، حتى اندلعت الحرب.
يشير المسؤول نفسه إلى أنه يوم عادت الانتخابات البلدية إلى الواقع اللبناني سنة 1998، بعد 35 عاماً على آخر استحقاق لها، إنما عادت نتيجة قرار للمجلس الدستوري الذي كان قد أنشئ بعد أعوام من محاولة تعيينه هو أيضاً عن أجندة اتفاق الطائف. ويوم عادت تلك الانتخابات، كان نحو 58 في المئة من بلديات لبنان محلولاً، وبالتالي منقول الصلاحيات إلى القائمقامين أو المحافظين، أي إلى السلطة المركزية، وبحرمان الناس حقهم في إدارة شؤونهم. وإذا ما أضفنا إلى هذا الواقع وجود «الصندوق البلدي المستقل»، الذي يصادر أموال البلديات ويجعلها تحت رحمة السلطة المركزية أيضاً، نفهم عندها هذه النزعة اليعقوبية المتأصلة لدى طبقة سياسية كاملة، إلى حصر كل شيء في المركز، إلى احتكار كل الوطن في سلطة وحاكم، وإلى اختزال لبنان في بيروت. هنا، تصير الصفقات أسهل، والتسويات أكثر مرونة، والتنفيعات والخدمات والمحسوبيات والزبائنيات أشد قدرة على ضبطها وحصرها وتوزيعها باسم أفراد الطبقة السياسية، بدلاً من تركها في كل بلدة حقاً لمواطن، تؤديه له سلطته المحلية القريبة.
ما هو مقدار صحة هذا التوصيف؟ الكل يعرف أنه صحيح، بدليل مزايدة الكل على نفيه بكل الكلام المعسول.
تعليقات: