شكلت زراعة التبغ منذ زمن طويل المورد الرئيسي لحياة الجنوبيين، وقد اعتبرت بحق الوجبة المرة واللقمة المغمسة بالدم والدموع، مرة كان يتحكم بها الإقطاع ويستغل تعب الناس وجهدهم، ومرة أخرى كان العدو الإسرائيلي يتلف المحاصيل، فتسقط وريقات التبغ شهيدة، كما زارعيها والأيادي المهتمة بها.
وزراعة التبغ في الجنوب ملازمة بشكل وجودي ومصيري للسكان خصوصا في المنطقة الحدودية, ففي غياب أي وسيلة أخرى للعيش ما عدا العامل الإغترابي النسبي، فإن هذه الزراعة هي البديل الطبيعي لأي رهان اقتصادي ومعيشي للأهالي.
ورغم مرارة شتلة التبغ، ومرارة العمل على إنتاجها الذي يتطلب تمضية المزراعين أغلب وقتهم في زراعة شتولها وقطف أوراقها وتوضيبها وتحويلها إلى طرود، فإن هذه الزراعة تبقى حلماً عند البعض الذي يأمل الحصول كغيره على رخصة لزراعة "النبتة المرة"، وبالتالي تأمين قوت يومه، أو ليصبح بإمكانه الاستدانة من المحال التجارية ودكاكين الضيعة أو البنوك التجارية، على أمل الحصول على بعض النقود في نهاية الموسم الزراعي.
وتقدر احصاءات ادارة الريجي بان هناك 16500 عائلة تعتاش بنسب مختلفة من مردود زراعة التبغ في الجنوب وتتوزع على بلدات الشريط الحدودي وقرى عيترون ورميش والجبين وطيرحرفا وشيحين وعيتا وعلما الشعب وصديقين، حيث يطالب المزارعون هناك برفع سقف إنتاجهم السنوي من خمسة ملايين كيلوغرام سنوياً الى حوالى سبعة ملايين كيلو، كما يطالبون دائماً بإدخالهم في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وبضرورة إعادة إحياء الرخص القديمة، خصوصاً لأولئك الذين لم يتمكنوا من استعمالها بسبب ظروف الاحتلال، وأخيراً تحسين سعر الكيلوغرام الذي لا يزيد على 13 ألف ليرة في أحسن الأحوال.
اراضي الجنوب تستقبل شتول التبغ في آذار
مع بداية شهر آذار من كل عام، تستقبل التربة في جزء من أراضي المناطق الجنوبية، شتول التبغ. لا تجد مفرا من التوجّه صوب هذه القرى، وأنت تتجوّل، يصعب أن ترى الشتول في التربة الحمراء بوضوح، لكن حركة المزارعين والفتيات ، اللاتي ارتدين قبعات القش، توحي بأن موسم الزراعة قد بدأ.
"الانتقاد-نت" جالت على بعض القرى الجنوبية وهذه عينات من يوميات المزارعين هناك:
ينادي أبو علي سرور الشاب اليافع الذي يقف خلفه، طالباً منه إحضار "المنطاع" وهو عبارة عن الة حديدية يتم غرسها في الارض لتسهيل وضع الشتلة. يبتسم أبو علي ويبدأ بشرح يوميّات المزارع، ولكن شرط "أن تركّزي معي". ينقسم موسم التبغ إلى قسمين: الأوّل هو موسم الزراعة، ويبدأ في آذار من كلّ عام، أمّا الثاني فهو موسم القطاف، ويبدأ في شهر تموز.
ينطلق ابن بلدة طيرحرفا الجنوبية، من خبرة خمسة وعشرين عاماً، ليؤكدّ أن التربة الحمراء أو السوداء المليئة بالحديد، هي التربة الصالحة لزراعة هذه الشتلة، إذ أنها تملأ أوراق التبغ بالنيكوتين، وتزيد من وزنه. يستطرد أبو علي في الحديث عن هذه الزراعة، لكنّه سرعان ما ينتقل من الشق التقني إلى الشق المعيشي.
هذه الزراعة مرة لكن تركها صعب. والسبب؟ يجيب الرجل الخمسيني بثقة "إنّها شتلة الروح بالنسبة للجنوبيين، ومورد رزقهم". يستدرك ويبدأ بشرح المصاعب التي يمرّ بها مزارعو التبغ في يوميّاتهم، فيبدأ من الأذية الجسديّة التي قد تسببها بعض مراحل الإنتاج. يرفع يديه مشيراً إلى بعض الخدوش الصغيرة الناتجة من احتكاك يديه مع "الميبر"، وهو "السيخ" الذي يشكّ به المزارعون أوراق التبغ بعد قطافها.
على الرغم من أنّ الشق التقني من عملية زراعة التبغ يجذبك نحو تفاصيله، غير أنّ الأجواء المرافقة لهذه الزراعة تبدو أكثر جاذبيةً. إذ يتخلّلها حديث مطوّل عن ليل لا ينتهي، تبدأ مع أواخره عمليّات قطاف الأوراق التي يحاول أبو علي وصفها، فيقارن مقاسها بورقة الخس الكبيرة. هكذا، يطفئ مزارعو التبغ التلفاز باكراً، ويضبطون ساعتهم على موعد طلوع الفجر. يستفيقون، يلبسون ثيابهم الخاصة بالقطاف من قفّازات وقبعّات، ينيرون "لوكس الغاز" أو "الأنتريك" وباللغة الجنوبية "ييتسهّلوا عالقطيفة".
عند هذه اللحظة يبدأ نهارهم، يسابقون الشمس نحو حقول التبغ، قبل أن تجفّف قطرات الندى عن وجه أوراق الشتول، ليسهل عليهم قطافها، فهي تصبح قاسية إذا ما جففها دفء الشمس. ينهون قطافهم مع انتشار الضوء على الأراضي، ويعودون إلى بيوتهم منهكين قرابة الثامنة صباحاً. يتناول المزارعون وعائلاتهم فطوراً بلدياً، لتبدأ بعده عمليّات "الشك" في الميبر، وتستمر هذه العملية قرابة ست ساعات، تذهب بعدها أوراق التبغ نحو التجميع في الخيطان والتجفيف. ست ساعات لا يملأها احتكاك الأيادي الغضّة مع قساوة الميبر وصمغ التبغ فحسب، بل أيضاً مع وسائل تسلية يبتدعها المزارعون وعائلاتهم، ويسهل تعدادها: عتابا، راديو، أو نوادر قروية، بعد حديث لا بدّ منه عن الزيجات والطلاقات الحديثة العهد.
الشتلة المرة والمعاناة الدائمة
تقول جميلة عقيل(من بلدة الجبين): "أصبحت زراعة الدخان جزءاً مهماً من حياتي، بل كل حياتي، حتى انها حُفرت على كفي"، وتومئ المرأة إلى كفيها وتقول "انظري ماذا فعلت الشتلة المرة من شقوق سوداء" وتتابع:"ثمن الكيلوغرام الذي نحصل عليه عند تسليم المحصول لا يساوي تعبه وهو يخضع لمزاج الخبير من ادارة حصر التبغ".
وتروي مريم عيسى (من بلدة رامية) عن عملها طوال العام: "يبدأ الأمر ببذرة صغيرة نرعى نموها شهرين ويستمر العمل خلال هذه المرحلة من الصباح الباكر حتى بعد الظهر. وفي شهر اذار حين تنمو البذرة لتصبح شتلة، "نقلعها" من المشتل لنغرسها في الأرض. وبعد أن تنضج الأوراق، تُقطف ثم تُشك في سلك معدني رقيق هو الميبر ثم تفرغ في خيط من القنب، وتنشر في الشمس لتجف وتحفظ بعدئذ معلقة على الجدران في إحدى زوايا المنزل. وفي الخريف تفرط الأوراق وتُدك بعضها فوق بعض، ثم تعبأ في طرود بحسب جودتها، وتتابع مسيرتها نحو الريجي".
من جهتها تسترسل وفاء حمود (من بلدة شيحين) بالحديث عن هذه الزراعة:"الدخان كله تعب، نعمل طول السنة، نزرع الأرض ونرش الأدوية ونشتري المياه للري ثم نستدين حتى نكفي حياتنا اليومية, أقساط مدارس وكهرباء ومياه، يعني، الحياة كلها تعب وشقاء".
ولا تنتظر أي أسئلة بل تتابع حديثها: "زراعة الدخان هي زراعة الفقراء القاعدين بلا شغل. واذا أردت أن تحسبي المحصول آخر السنة منطلع صلح نحن والتعب والمصاريف خصوصا بعد هالغلا".
يأبى مزارعو التبغ أن يختموا حديثهم عن اليوميّات الطويلة، دون أن يتطرّقوا إلى يوميّاتهم الاقتصادية الصعبة. هنا تظهر مرارة الزراعة المنتشرة بكثرة في الجنوب. فما إن يحين موعد تسليم إنتاج التبغ إلى مؤسسة بيع التبغ والتنباك (الريجي)، بعد شهور طويلة من العناء والصبر في إعداده، حتى تخصم الشركة ثمن كيلوين اثنين من كل "بالة تبغ". والبالة هي الطرد الذي يملأه المزراعون بما يقارب 28 كيلو من أوراق التبغ، فإذا وصل إلى 30 كيلوغراماً أو أكثر، يصبح الفائض عن الوزن ملك الشركة مجاناً، وبحسب أبو محمد مهدي (من الناقورة) فإن "التاجر الشاطر" هو من يوزّع كل 25 كيلو في بالة، فيحرم الشركة من رزق غير مستحق. يكمل أبو محمد حديثه عن ضمان الأراضي، وهو ما يمكّن بعض الملّاك من استغلال رخصهم، وتمرير إنتاج بعض المزارعين ممّن لا يملكون رخص زراعة وبيع التبغ، شريطة أن يدفع هؤلاء المزارعون بدلاً مالياً، لتمرير إنتاجهم على ذمّة غيرهم. تكمن المشكلة في هذه العمليّة، في طريقة الحصول على الرخصة، التي تتلخّص بكلمة واحدة: واسطة".
تنتهي يوميّات مزارع التبغ مع شتوله في كوانين من كل عام. لكنّه لا يعرف الراحة سوى لفترة زمنية قصيرة، تعود بعدها الدورة الزراعية الجديدة.
تعليقات: