حب... ممنوع من الزفاف (مصطفى جمال الدين)
المطر متى ما هطل يحمل خيراً. وإذا هطل غزيراً يحمل خيراً أكثر..
رقيق مشهد العروس التي تلتقط مظلتها بيد وباقة الورد الحمراء بالأخرى، وتنزل من سيارة الأجرة ضاحكة، وتركض للاختباء من زخاته. تستحق هذه اللقطة أن تصور في إعلان أو في فيلم سينمائي.
وعندما تتجمع الصبايا اللواتي حضرن بالفساتين البيضاء، الطويلة منها والقصيرة، ويصبح عددهن أكبر، يصير المشهد أكثر فرحاً. كان عدد الصبايا ما زال قليلاً عندما كان المطر يتساقط. «وماذا يعني ذلك؟» قالت إحداهن، ثم أردفت: «عرس زغتور» قبل ان تدير وجهها لتبحث عن عريسها.
لن يصدق احد أن كل هذا الأمن المنتشر في وسط بيروت مخصص لعرس. القوى الأمنية دعت نفسها بأعداد كبيرة ومبالغة إلى نشاط بهذه اللطافة.
المطر ما زال متساقطاً، والصبايا مستمتعات بالمصورين يلتقطون صورهن بالأبيض. يتدللن أمام الكاميرات. يغيرن وقفاتهن ونظراتهن. ومن فوق رؤوسهن يتساقط الأرز والشرائط الملونة.
لكن الشمس أصرت على أن تطل من خلف غيمة الخير. دفعتها بعيداً وجلست مكانها. الصورة ستظهر الآن أوضح.
أين العرسان؟
الشبان ما زالوا مختبئين تحت سقف أحد المباني اتقاء للمطر. لا يريدون لبدلاتهم الأنيقة أن تتبلل. الصبايا أكثر مغامرة منهم. حضروا الآن. يشكل الجميع حلقة واحدة. وترتفع لافتة الحقيقة: «عرس مع وقف التنفيذ».
لن يكتمل العرس الذي دعت جمعية «شمل» إليه. ففي لبنان وطن الثقافة والحضارة والتعدد واللغات لا يوجد قانون مدني للأحوال الشخصية. لكن العجوز الثمانيني، الذي أعاده العرس إلى زمن ولىّ، أصر أن يرمي الأرز على الجميع، قبل أن يطلق زغرودة عالية: ولللللي!.
تقرأ العروس ساندي متيرك المذكرة التي تؤكد أنه لكل إنسان الحق باختيار شريك أو شريكة حياته بالطريقة التي يريد. وأن الحب لا يعرف دينا أو طائفة أو منطقة. وأنه من حق الإنسان أن يفرح في بلده. وأن الرجل يكمّل المرأة والمرأة تكمّل الرجل، وهما متساويان في الحقوق والواجبات. وتوضح بأنه لهذه الأسباب جميعاً جاء المشاركون ليطالبوا بقانون لبناني للأحوال الشخصية. قانون يطال الزواج، والطلاق، والإرث، والعائلة، والحضانة.
أما المعايير التي ارتكز عليها مشروع قانون الأحوال الشخصية، المرافق للمذكرة (اقترحه كل من د. أوغاريت يونان ود. وليد صليبي ويعلنان عنه لاحقاً في مؤتمر صحافي) فهي: الحب، الوحدة الوطنية، الحق بالزواج وبتأسيس العائلة، العدالة، اتفاقية حقوق الطفل، العدالة والمساواة في الملكيات، حق وطبيعة نشوء الخلافات، وعدم التمييز.
في المجلس النيابي اللبناني 128 نائباً. يصدح دائماً عدد منهم بأنه مؤيد الزواج المدني، ويتشدق آخرون بأنهم يدافعون عن العلمانية وحقوق الأفراد والمواطنين. ومن بين النواب، نوابنا، شابة اضطرت للسفر إلى قبرص كي تتم زواجها المدني على حبيبها. هؤلاء النواب تمت دعوتهم جميعاً. لم يحضر منهم إلا واحد فقط، غسان مخيبر. كأن هذا المجلس النيابي لا يحب الفرح. أو فلنقل، على الأقل، أنه لا يريد للفرح أن يمر من خلاله أو عن طريقه.
تؤيد السيدة المحجبة التي تصرح لوسائل الإعلام الزواج المدني الاختياري. السيدة متدينة. حجابها يؤكد هذا الأمر، لكنها، وعلى عكس آخرين، تدافع عن حقوق أفراد، مواطنين مثلها، اختاروا منحى مغايرا لها في الإخراج الشخصي لطريقة زواجهم. أكثر من هذا، تقول أنه إذا قررت ابنتها اختيار أن تتزوج مدنياً، فإنها لن تملك القدرة على منعها من القيام بهذا الأمر.
دقيقة واحدة وتصل الزفة. شبان الزفة بملابس خضراء مبهرة. فرح العرس حقيقي، والناس تحب أن تغني، أن ترقص، وأن تفرح. اهتزازات الموظفين والموظفات الذين خرجوا من المحلات التي يعملون فيها، أو أطلوا من نوافذ وشرفات الشركات، تؤكد هذا الأمر.
يتشابك راقصو الزفة في حلقة واحدة كبيرة، ويدخل العرسان، شباناً وصبايا، إلى داخلها تباعاً. الراقصون ينشدون بأصواتهم الأغنية الشهيرة لصباح. يسألون عن «الدبيكة». عن محمود ومعروف والياس وحسين. مضحكة أسماء «الدبيكة» في أغنية صباح، فهي على الطريقة اللبنانية، وكما هو واضح منها، توازن بين الطوائف جميعاُ. كان جميلاً ولافتاً، أن الذين يرقصون على الأغنية، يوم أمس، لا يشبهون اسماءهم.
تسير الزفة في شارع رياض الصلح. علم أبيض عملاق يعلو في السماء. علم بلا أي شعار. ناصع . رقيق. مسالم. وقوى الأمن، المدعوة حكماً، ترافق الزفة في مسيرها. ومنشد الفرقة يطلق صوته معيداً اللازمة دون ملل: «على دلعونا، على دلعونا، هيي بتحبوّ، وهوّي بعيونا».
إلى مجلس النواب. تسير الزفة في الوسط تماماً بين المقاهي والمطاعم. أربعيني ظريف يطلق موالاً عن «سيّدة التي أحبت حمّودي». ويغرق في قصة الحب، بين الحبيبن من دينين مختلفين، والمشاركون يهللون من ورائه، إلى أن يصل إلى مقطع يقول فيه والد «حمودي» لابنه «هات من دينك يا بابا»، ثم تختتم القصة بأن يذهب الحبيبان إلى قبرص ليتزوجا ويدفعا مبلغاً مرقوماُ. فينفجر الجميع بالضحك. المجلس مقفل. بوابته العملاقة موصدة والعوائق الحديدية تسيّجه. يقف مخيبر خلف هذه العوائق ليتسّلم المذكرة. وبعدما ينبهه أحدهم أنه من غير اللائق أن يتسلمها من خلف العوائق، يقف أمامها. يقول ضاحكاً: «العروس تنتظر العريس عند المذبح. وها أنا أنتظركم عند مجلس النواب. ماذا لديكم؟».
أخطأ النائب الشاب، فالعريس هو الذي ينتظر العروس عند المذبح. ولن نلومه على هذا الخطأ، لأنه ما زال أعزب.
يقترب منه عروسان. شاب وفتاة. كلاهما بالأبيض. يتمنى لهما أن يتزوجا مدنياً عما قريب. يتسلم منهما المذكرة ويعد بأن يرفعها في اليوم التالي لإدارة المجلس. يقول أنه يعرف بأن هناك نواباً مستعدين للتوقيع عليها. نواب لم يحضر من بينهم بالأمس غيره. نواب سبق أن وعدوا بخفض سن الاقتراع ثم انقلبوا على أنفسهم في لحظة الحقيقة. قال مخيبر أن المذكرة تتضمن معايير، لكن لا يصلح التصويت عليها، ودعا إلى اقتراح مشروع قانون يرفع إلى مجلس النواب في وقت قريب. ثم قبّل العروس على وجنتها بعدما استأذن من عريسها.
في نفس اللحظة كانت عروس أخرى تنتعل حذاء رياضياً خفيفاً تصدح بالتالي: «آويها بدنا الاختياري. آويها بالزواج وبكل شي ثاني. آويها هيدا الدستور اللبناني. آويها مضوا (وقعوا) هالورقة تنفرح بشي ثاني..».
وعلى آخر عبارة علقت سيدة ارتدت الأبيض بدورها، بخبث واضح، بعدما ظلت تبتسم للآويها: «وكل شخص سيء النية. إنشاء الله تنقلب عليه!»
تعليقات: