الطبيب محاضراً في «الأميركية» (فادي أبو غليوم)
المؤسسات الإنسانية الأوروبية ـ الأميركية سُحبت تدريجياً قبل الحرب بثلاثة أشهر..
«هذه هي حياتنا.. وعلينا أن نكمل». تذكروا هذه الجملة.
الرجل النحيل، ذو البشرة الاسكندينافية، يتجول من دون الالتفات لأحد في القاعة. ترتسم ابتسامة خفيفة على وجهه عندما يقع نظره، صدفة، على أحد ما. يرمق ساعة يده، بين الفينة والأخرى، بنظرة سريعة. كانت الساعة، مساء الجمعة الفائت، قد تخطت الموعد المحدد بخمس عشرة دقيقة.
ينتظر البروفسور توافد عدد أكبر من الناس إلى «قاعة عصام فارس» في «الجامعة الأميركية»، حيث ألقى أمام أكاديميين وطلاب جامعيين وأصدقاء له، محاضرة حملت عنوان «عيون في غزة»، بدعوة من «النادي الثقافي الفلسطيني» و»برنامج أنيس مقدسي للأدب». يكسر الطبيب النرويجي قاعدة الوقت. هو انتظر لتصل الرسالة للعدد المطلوب.
عندما امتلأت القاعة، اعتلى رئيس جمعية «Norway» الاجتماعية التي تدعم المستشفيات وترسل فرقاً طبية في الحروب ضد إسرائيل، الطبيب إريك فوس، المنصة، التي رفعت إلى جانبها شاشة عملاقة مذيلة ببعض الصور. الدكتور سيستعين بالصور، ليشرح كيفية دخوله إلى غزة خلال حربها الأخيرة مع العدو الإسرائيلي.
لم يعرّف الطبيب فوس عن نفسه، فصديقه محمد حجازي أخبر الحضور عنه، قائلاً: «انه رئيس قسم التقنيات العالية في جامعة «استوكهولم»، وكان رئيس التقنية الطبية النروجية التي دخلت غزة في العام الفائت ضمن قافلة شريان الحياة. والطبيب، الذي نتشرف بحضوره، كان من أوائل الأطباء الذين دخلوا إلى غزة في أثناء الحرب. كما أنني أذكر تماماً تطوع فوس في السبعينيات في جنوب لبنان، أيام فتح لاند».
لمن لا يعرف فوس، شكّلت مقدمة حجازي حافزاً لكي يدقق بكل كلمة ستخرج من لسان الطبيب المناضل. فوس، الذي أجرى 270 عملية جراحية خلال أربعة عشرة يوماً، تحدث في المحاضرة كلها بصيغة الجمع. «We» (نحن) ستتردد، في سياق القصة، معطوفة على «كان»، كثيراً.
قصة العبور إلى غزة
في الرابع والعشرين من شهر كانون الثاني العام 2008، تلقى فوس رسالة الكترونية من وزير الصحة في حكومة «حماس» حينها، يقول فيها: «نأمل ألا تشن إسرائيل الحرب علينا خلال العطلة. ذلك لأن المؤسسات في أوروبا ستكون مغلقة». بعد الرسالة بيومين، ستندلع الحرب، والتي أدت إلى مقتل 1430 شهيداً، وإصابة 5300 جريح.
توجه الطبيب، بعد يومين من بدء الحرب، مع زميل له إلى مصر، بغية شراء الأدوية من القاهرة لإدخالها إلى غزة. ثم: «عبرنا الى غزة، بمساعدة السفارة النروجية في مصر، عن طريق معبر رفح، لأن مصر لم تسمح لأي من الفرق الطبية بالعبور إلى القطاع».
يكمل الطبيب سرد القصة، متعمداً الإيغال في أدق تفاصيلها: «دخلنا إلى غزة، ووصلنا إلى مستشفى «الشفاء» الذي كان يعمل دون سواه. وتم استقبالنا بشكل غير عادي، وتبين لنا لاحقاً أنه لا يوجد سوانا من المؤسسات الإنسانية الأوروبية».
كانت المستشفى بلا زجاج ولا نوافذ، وبدأ فريق الطبيب يلاحظ الدمار في كل مكان. و»شاهدنا أشخاصاً ماتوا بسبب غياب العلاج اللازم لهم». يستذكر فوس: «غياب المعدات اللوجستية كانت مشكلة كبيرة. إذ كان عسيراً جداًً العمل على معالجة عشرين إلى ثلاثين مصاباً في الوقت نفسه، وكان لزاماً علينا إجراء عمليات جراحية في غرفة عمليات واحدة، في الوقت نفسه».
في تلك الأيام العصيبة، كان البروفسور كئيباً جداً، لأنه «لم أستطع أن أقوم بكل ما يجب القيام به، ولم أحص عدد العمليات الجراحية التي قمت بها، إلى أن رنّ هاتفي النقال، وكان اتصالاً من الإعلام الأوروبي الذي بدأ يعرف بأننا موجودون في غزة، فأخذت أنقل لهم المآسي التي يعيشها الفلسطينيون في تلك المساحة الضيقة جغرافياً والمكتظة سكانياً».
آنذاك، استفاض فوس في الحديث خلال المكالمة الهاتفية، فنقل للإعلام الأوروبي، إن «أغلب الضربات الإسرائيلية تستهدف الأطفال، وقد أصيب عدد كبير من هؤلاء في قلوبهم، وإسرائيل تقول إنهم، أي الأطفال، إرهابيون، وتصفهم بالصراصير لأنهم - كما قال لي الضابط الإسرائيلي - أطفال (حركة) حماس».
يشير فوس بيده إلى الشاشة الكبيرة، ويشرح: «كان القصف يتركز على الأماكن العامة، ولم يرحم المدنيين. كان هناك هلع كبير بين الأطفال. وفقد الناس أشياء كثيرة، كحليب الرضع والمواد الغذائية، والمياه، فضلاً عن انقطاع الكهرباء، وغيرها من الحاجيات الضرورية للبشر».
كان الطبيب يشاهد الإصابات الناجمة عن القنابل التي ألقتها الطائرات الإسرائيلية باندهاش، و»كنت أرى هذه الإصابات للمرة الأولى في حياتي الطبية. ومعظم الطائرات الصغيرة كانت من دون طيار، وكانت تستهدف الأطفال بشكل خاص».
أسباب الحرب.. وأشياء أخرى
نستطيع أن نلخص القسم الأول من حديث البروفسور، الذي قدم من خلال نضالاته المادة الحيوية لتقرير «غولدتسون» الذي فضح جرائم إسرائيل أمام الرأي العام الدولي، على أنه قصة الدخول والمكوث في غزة، بين القذائف والجرحى والشهداء والأطفال، في ليالي حرب شعواء.
أما القسم الثاني من المحاضرة التي استمرت لساعة كاملة فقد تركز على مقاربة الحرب بشكل عام، إذ اعتبر فوس أن «هناك ثلاثة أسباب وراء العدوان على غزة: فوز حركة «حماس» في الانتخابات، عزل أميركي - أوروبي للحركة التي فازت في الانتخابات، سيطرة «حماس» على غزة بعد ذلك. وقد نتج عن ذلك عزل دولي لهذا القطاع، فثمانون في المئة من سكان غزة يعيشون تحت الحدّ الأدنى للفقر، وفقاً لتقرير منظمة الصحة الدولية».
ورأى البروفسور النرويجي أن «قطاع غزة يشهد أعلى كثافة سكانية في العالم، ولا يوجد فيه أي تمويل إذ لا تجمع فيه الضرائب، ولم يعد لدى الناس المال الكافي لإدارة شؤون القطاعات العامة، مثل الكهرباء والماء».
وكشف فوس عن أمر بالغ الأهمية: «قبل ثلاثة أشهر من بدء العدوان الإسرائيلي على غزة، تم سحب كل المؤسسات الإنسانية الأوروبية - الأميركية بشكل تدريجي من القطاع، بشكل تحضيري للعدوان»، لافتاً إلى أن «إسرائيل رمت أكثر من مئتي طن من القنابل خلال ساعتين، على أهداف مدنية في غزة، وقصفت الوزارات المدنية المعنية بشؤون الناس العامة».
يتذكر الطبيب: «لقد كنا الوحيدين من أوروبا، وقالوا لنا في بادئ الأمر إننا سنقتل، وأوروبا لن تحرك ساكناً».
يرمق فوس الحضور بنظرة خاطفة، ويقول: «في إحدى الليالي، اضطر ممرض فلسطيني إلى قطع آلة التنفس الاصطناعي عن صديقه الميؤوس من وضعه الصحي». يتوقف الطبيب قليلاً عن الحديث، فيكمل قائلاً إنه حينها بكى. أما الممرض فقال له مواسياً: «هذه هي حياتنا.. وعلينا أن نكمل».
تعليقات: