للمرة الأولى، منذ بدء حملة توقيف العملاء الإسرائيليين في لبنان، يقبض جهاز أمني على موظف في منصب مصرفي حساس. مفاجأة جديدة تظهر أن الاستخبارات الإسرائيلية لم تترك قطاعاً لبنانياً من دون أن تحاول النفاذ إليه. والمسرح اليوم هو القطاع المصرفي
قبل أسبوعين، كان منير ص. متوجهاً إلى مكان عمله في المركز الرئيسي للبنك اللبناني الكندي في منطقة برج حمود، كما اعتاد أن يفعل صباح كل يوم. وفور ركنه سيارته، فاجأه شبان مسلحون وكبّلوه ليضعوه في إحدى السيارات، وليأخذوا سيارته معه إلى مكان مجهول. زملاء منير الذين رأوا ما حصل، أبلغوا إدارة المصرف بالأمر، فعادت إلى الأذهان فوراً قضية اختطاف المهندس جوزف صادر. أبلغت إدارة المصرف غرفة عمليات قوى الأمن الداخلي بما جرى، قبل أن تجري سلسلة اتصالات بالأجهزة الأمنية لمحاولة كشف حقيقة الحادث.
في البداية، نفى المعنيون في مختلف الأجهزة الأمنية أن يكون أي منها قد أوقف منير. لكن إدارة المصرف لم تيأس، إذ أجرت مروحة جديدة من الاتصالات شملت وزارتي الدفاع والداخلية وقادة الأجهزة الأمنية ومسؤولين قضائيين. ودخل على الخط سياسيون يملكون أسهماً في البنك اللبناني الكندي.
في وقت لاحق، سطعت أول «بارقة أمل»، إذ أثمرت الاتصالات عن التصريح بأن منير موقوف لدى فرع المعلومات، وأنه يُحقَّق معه في قضية حساسة. حاول بعض المتصلين الاستفسار عن القضية، إلا أنهم لم يتلقوا أي جواب.
كان التحقيق يجرى بسرية تامة، وبإشراف المدعي العام التمييزي القاضي سعيد ميرزا الذي كان بعض المعنيين يحاولون معرفة حقيقة القضية من خلاله.
بعد أيام، أعلم المعنيون بالتحقيق أحد السياسيين الذين يملكون حصة في المصرف، وإدارة المصرف، بالآتي: أوقف منير بشبهة التعامل مع الاستخبارات الإسرائيلية، وقد أقر بما نسب إليه. واعترف بأنه بدأ تعامله مع الاستخبارات الإسرائيلية منذ عام 2005. وفي حوزة فرع المعلومات عدد من الأدلة الصلبة التي تثبت هذه الشبهة.
وحتى مساء أمس، رفض المسؤولون المعنيون في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي الإدلاء بأي معلومة عن القضية. وعندما يُسألون، كانوا «يموّهون» إجابتهم بالحديث عن شخص آخر أوقفه فرع المعلومات في الفترة ذاتها في منطقة برج حمود وأحاله على القضاء العسكري.
لكن التدقيق بالأمر مع مصادر مختلفة (أمنية وقضائية وسياسية ومصرفية) أكد حقيقة توقيف منير ص. قبل أسبوعين. وتكمن أهمية منير في أنه يتولى وظيفة حساسة في البنك اللبناني ـــــ الكندي، وبالتحديد في القسم المختص بمكافحة تبييض الأموال في المصرف. وتمنحه وظيفته حق الاطلاع على معظم التحويلات التي تُجرى في البنك، إضافة إلى الاطلاع على ما يشاء من معلومات عن حسابات المودعين، فضلاً عن طلب التحقق من أي تحويلات وحسابات مشكوك في أمرها، مع ما يعنيه ذلك من معرفة مصادر الأموال والتحويلات وكل الوثائق المرتبطة بها. وبحسب مصدر واسع الاطلاع على القضية، فإن ما طلبه فرع المعلومات من المصرف حتى اليوم، من تفاصيل تقنية وشخصية عن الموقوف، يوحي بأن العمل الذي أنجزه منير لمصلحة الاستخبارات الإسرائيلية كان «ضخماً جداً».
وفي المصرف، أحدث الأمر صدمة للإدارة ولزملاء منير الذين الذين لا يزالون يرفضون التحدث عن الأمر، علماً بأن الأمر بات يُذكر همساً في أروقة عدد من المصارف.
أما في البلدة التي ينتمي إليها منير (قضاء جبيل)، فقد بات متداولاً بين الأهالي أنه موقوف بجرم التعامل مع الاستخبارات الإسرائيلية، من دون وجود قدرة لدى أي كان على تحديد المهمات التي كانت موكلة إلى ابن البلدة الجبيلية، الذي لم تكن له علاقات اجتماعية واسعة. وذكر أحد أبناء البلدة لـ«الأخبار» أن فرع المعلومات دهم منزل الموقوف مرتين على الأقل، وأجرى تفتيشاً دقيقاً نتجت منه مصادرة بعض الأجهزة، إضافة إلى الاستماع لإفادات عدد من أقاربه أكثر من مرة. وقال أحد عارفي منير إن له شقيقاً يدعى ميشال يعيش في فلسطين المحتلة منذ عام 2000، وإن ميشال كان عنصراً في حزب القوات اللبنانية، وانتقل في ثمانينيات القرن الماضي، بعد ارتكابه جريمة قتل طفل، إلى منطقة الشريط الحدودي المحتل حيث تجنّد في صفوف ميليشيا العملاء، وبقي يعمل فيها إلى أن فرّ إلى الأراضي المحتلة عقب الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان في أيار 2000. ورجحت مصادر واسعة الاطلاع أن يكون ميشال هو من جنّد شقيقه منير للعمل لحساب الاستخبارات الإسرائيلية. وأشار أحد أبناء البلدة إلى أن الموقوف كان قد سافر أكثر من مرة خلال السنوات الماضية.
ولفت متابعون لملفات مكافحة التجسس إلى أن منير ص. كان مكلفاً جمع معلومات عن العمل في المصرف اللبناني الكندي، وخاصة أنه يعمل في قسم يمكن القول إنه الشاشة التي تستخدم لمراقبة كل معاملات المصرف. وأشار مسؤول أمني رفيع إلى أنها المرة الأولى في لبنان التي يوقف فيها شخص يتسلم منصباً حساساً في أحد المصارف اللبنانية الكبرى، لافتاً إلى أن هذا الأمر هو ما دفع المطّلعين على القضية، سواء في القضاء أو الأجهزة الأمنية، إلى التعامل مع الملف بحرص غير مسبوق.
والدليل الأول على ذلك «الحرص» يكمن في أن الحصول على معلومات عن تفاصيل المهمات التي نفذها الموظف المصرفي لحساب الإسرائيليين أصعب بما لا يقاس مما كانت عليه الحال عند توقيف أمنيين كبار خلال العام الفائت بتهمة التعامل مع الاستخبارات الإسرائيلية.
وأشار معنيون بمكافحة التجسس إلى أن الخطورة التي ظهرت مع توقيف منير تتمثل في أن الاستخبارات الإسرائيلية سعت إلى اختراق النظام المصرفي اللبناني، لأسباب عدة، أبرزها محاولة الحصول على معلومات عن سبل تمويل المقاومة، إضافة إلى الجمع «التقليدي» للمعلومات عن كل الميادين الأمنية والعسكرية والاقتصادية والمالية في لبنان. وأشارت المصادر إلى أن هذا التوقيف يثبت مجدداً المدى الذي وصل إليه الاختراق الاستخباري الإسرائيلي للبنان، على كل الصعد، متوقعة في الوقت عينه حصول مفاجآت أخرى في مجال مكافحة التجسس.
وربطت مصادر مطّلعة بين عمل منير لحساب الاستخبارات الإسرائيلية والدعاوى القضائية التي رفعها «مواطنون» إسرائيليون على البنك اللبناني ــــ الكندي وعدد من المصارف اللبنانية في كندا والولايات المتحدة ابتداءً من عام 2008.
يتولى منير وظيفة حساسة في القسم المختص بمكافحة تبييض الأموال في المصرف
اعترف منير بأنه بدأ تعامله مع الاستخبارات الإسرائيلية منذ عام 2005
شقيقه يعيش في فلسطين المحتلة منذ عام 2000، وانتقل في الثمانينيات إلى منطقة الشريط الحدودي بعد ارتكابه جريمة قتل طفل
ففي تموز من ذلك العام، تقدّم أربعة إسرائيليين يحملون الجنسية الكندية برفع دعوى قضائية في مدينة مونتريال على البنك اللبناني الكندي، مطالبين بتعويضات مالية بملايين الدولارات، مدّعين أن صواريخ المقاومة أصابتهم بجروح خلال حرب تموز 2006. وزعم المدّعون في شكواهم التي قدّم لها الدعم أعضاء في المجلس اليهودي الكندي، أن البنك اللبناني الكندي الذي يملك مكتب تمثيل في مقاطعة كيبك، كان يسهّل عمليات تمويل حزب الله من خلال مؤسّستين يملكهما الحزب، هما مؤسّسة «يسر» للتمويل و«مؤسّسة الشهيد»، اللتان «صنّفتهما الولايات المتحدة الأميركية مؤسستين إرهابيتين». وقد تقدمت بالشكوى شركة محاماة إسرائيلية معروفة، متهمة المصرف اللبناني بتسهيل حصول حزب الله على أموال مكّنته من شراء صواريخ وأسلحة. وتزامنت الدعوى مع رفع إسرائيليين دعاوى قضائية على مصارف لبنانية في الولايات المتحدة الأميركية بالتهمة ذاتها.
وحينذاك، رفضت المصارف اللبنانية المعنية التعليق على هذه الدعاوى، إلا أن مصادرها رأت أنه لا أساس لها، وهدفها النيل من القطاع المصرفي اللبناني في هذه المرحلة، وهي من صنع أجهزة استخبارية. بدوره، أصدر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بياناً قال فيه «إن القطاع المصرفي في لبنان يلتزم المعايير الدولية، وإن النظام المالي اللبناني عموماً، يخضع لقوانين معترف بها ومقبولة دولياً، وإن القضايا التي تثار أحياناً في وجه العمل الطبيعي للمصارف تعالج من خلال المراجع القضائية، وهي بالتالي لا تستدعي كل هذه الضجة».
ورأت جمعية المصارف في لبنان حينذاك «أن تقديم رعايا إسرائيليين دعاوى قضائية في محاكم كندية وأميركية ضد مصارف لبنانية، هدفه ابتزازها بمبالغ مالية تعويضاً عن أضرار مزعومة جراء حرب تموز التي شنتها إسرائيل على لبنان». وعلمت «الأخبار» أن إحدى هذه الدعاوى سقطت قبل نحو شهرين.
تعليقات: