عنصر من الجمارك يعرض أدوية فاسدة للتلف
من فضيحة القمح الفاسد، إلى فضيحة الدواء، إلى فضيحة الاتفاقية الأمنية مع الولايات المتحدة الأميركية، إلى فضيحة التعامل مع استحقاق الانتخابات البلدية، إلى فضائح أخرى قديمة وجديدة، يتأكّد أنّ النظام اللبناني هو نظام فضائح بامتياز. غير أنّ الفضيحة الكبرى تبقى في جوهر النظام نفسه، لجهة استخدام الطائفية والتمسّك بها وتجذيرها وتعميقها ودفعها إلى مداها الأقصى، المذهبي والفئوي، وعلى النحو الخطير الذي شهدنا نماذج منه في السنوات الخمس المنصرمة.
ستجري، كالعادة، لفلفة هذه الفضائح. لقد اعتدنا في ظلّ آليات عمل نظامنا السياسي أن نتحدّث عن السرقات دون أن نحدّد السارقين أو نحاسبهم. واعتدنا أن نشنّ الحملات على الهدر والفساد وسوء استخدام السلطة، لكنّنا لم نقدّم في يوم من الأيام أحدًا إلى المحاكمة وندخله السجن بسبب ما اقترفت يداه. الاستثناءات نادرة في تاريخنا، وحين حصل «التطهير» الإداري الشهير في الستينيات، عاد من شملهم هذا التطهير إلى الحياة العامة من الباب العريض... نوابًا ووزراء، بل أبطالاً في بيئتهم، إذ نُظر إليهم باعتبارهم أبناءً ميامين لهذه الفئة الطائفية أو تلك، وقد تعرّضوا للتنكيل فقط بسبب انتمائهم الطائفي وإخلاصهم لهذا الانتماء، وليس بسبب ارتكاباتهم التي كانت على كلّ شفة ولسان!!
والارتكابات التي يولّدها النظام أو يغذيها أو يشجّع عليها أو يغطيها ويحميها، ليست محصورة في فئة أو في جهة أو في جانب أو في حجم أو في حقل... وهي أيضًا من النوع الكبير أو الصغير، السياسي أو الأمني، الداخلي أو الخارجي... ومن تابع السجال حول الاتفاقية الأمنية مع الولايات المتحدة الأميركية، يقع على نماذج خطيرة مما نتناوله الآن.
في موضوع الاتفاقية، لم يكتفِ أحد الأطراف بتبرير ما تتضمّنه من إساءة لسيادة لبنان ولوحدة اللبنانيين، بل هو مضى في الدفاع عن هذه البنود وفي تبنّيها كما أُقرّت ودون الحاجة إلى أيّ تعديل أو تبديل. التدقيق في هذا الأمر يحيل إلى اختلال خطير في موازين تحديد المصلحة الوطنية ومعاييرها. فهذه المصلحة هي الضحية الأولى في كلّ مرة تحدّد جهة من الجهات مواقفها وتوجّهاتها وتاليًا التزامات لبنان واللبنانيين، بالاستناد إلى مصالحها الفئوية. إنّ الصراع على السلطة والنفوذ وما ينجم عنه من انقسام يولّده ويكرّسه ويرعاه النظام السياسي الطائفي اللبناني، هو صاحب الكلمة الفصل في العلاقات والتحالفات، وفي التوجهات والمواقف، حتى منها، بل وخصوصًا منها، تلك التي تُتّخذ في المواقع والمؤسسات الرسمية، في الشؤون كلها، ودون تمييز أو استثناء.
اعتدنا أن نشنّ الحملات على الهدر والفساد لكنّنا لم نقدّم في يوم من الأيام أحدًا إلى المحاكمة
إنّ محاكمة الأمور انطلاقًا من الخلل الجوهري القائم في نظامنا السياسي، هي وحدها التي تتيح التوصيف الصحيح، فالعلاج الناجع، عندما تتوافر الظروف والإمكانيات والتوازنات الضرورية والمناسبة. ويصبح بالتأكيد كلّ تحييد لمصدر الخلل الرئيسي أو كلّ تغطية عليه، إمعانًا في تأبيد الوضع الخطير الراهن. والمقصود بذلك على سبيل المثال، أنّه لم يكن كافيًا أن تتراجع أو تتعثّر الوصاية الأميركية على لبنان، حتى تنهار أو تسقط كلّ النتائج والتبعات التي نجمت عن مرحلة الوصاية تلك. ما دافع عنه أطراف أو أشخاص في تحالف 14 آذار أو «تيار المستقبل» في الاتفاقية الأمنية، إنّما هو مبدأ العلاقة مع الولايات المتحدة بالذات، وبوصف هذا المبدأ مع «خارج ما» مكرّسًا في معادلة آلية عمل النظام السياسي الطائفي بالدرجة الأساسية. إنّ الطرف المدافع عن الاتفاقية كان يدافع في الواقع عن حقه في الاستقواء بقوى خارجية لتدعيم مواقفه في مواجهة طرف آخر، منافس أو خصم أو حتى عدو، يتمتّع هو الآخر بهذا الحق ويمارسه قبلُ وبعدُ وحتى تُقام العلاقات اللبنانية ــــ اللبنانية على أسس أخرى: مختلفة ومغايرة جوهرياً.
عبثًا، نحاول إذاً معالجة أمر الفضائح بالمفرّق. ومعالجة ذلك مستحيلة أصلاً في كنف النظام السياسي الطائفي الراهن ومن ضمن آلياته ومؤسساته. إنّ ما يجب التوقف عنده في متابعة أسباب تعثّر بناء دولة بالمعنى الحقيقي للكلمة، إنّما يكمن في حرمان آليات عمل هذه الدولة من شروط الحدّ الأدنى لقيامها وفق تجارب سائر البلدان والدول القريبة أو البعيدة... إنّ الأساس في «الصيغة اللبنانية» التي نُعتت بالفرادة وبالريادة، إنما هو في كونها صيغة عجيبة بالفعل! ومصدر العجب فيها، هو حرمان المواطن والدولة معًا من الصلة الطبيعية في ما بينهما، لمصلحة إعطاء الأولوية للولاء للطائفة فالمذهب، وعلى حساب الدولة وتماسكها وتوحّدها وازدهارها.
لا يعني هذا أنّنا ينبغي ألا نفعل شيئًا حيال ما يتداعى من عناوين الفضائح واتساعها إلى كلّ الحقول والمجالات. كما لا يعني هذا الأمر أن نساوي في نظرتنا إلى الخارج بين العدو والصديق والشقيق. لكن يجب حكمًا، التأكيد على خطر اجترار كلام سابق لا يسمن ولا يغني، إزاء كلّ ما يتعلق بأزماتنا، وبشروط الخروج من هذه الأزمات نحو بناء وطن موحّد وحصين وحر وسيّد وديموقراطي.
إنّ إقامة علاقاتنا مع الخارج، الشقيق والصديق والعدو، على أسس صحيحة في حالتي العداء أو اللقاء، لا يمكن أن تستقيم من دون أن تستقيم العلاقات ما بين اللبنانيين أنفسهم. والمقصود بذلك حتمًا، دون أن ننتقل من نظام الامتيازات إلى نظام المساواة، ومن نظام الانقسام على الحصة والدور والنفوذ، إلى نظام التوحّد حول الحدّ الأدنى من الثوابت الوطنية في الحقول الداخلية والخارجية، وفي المجالات السياسية والأمنية على وجه الخصوص.
وحتى ذلك التاريخ، ينبغي ألا يفاجأ أحد إذا هو رأى جماعة من الناس تحتجّ على توقيف عميل افتُضح أمره، أو على انتقاد مسؤول أخطأ أو ارتكب في هذا المجال أو ذاك. إنّ الدمج ما بين مصالح مزعومة لهذه الطائفة أو ذلك المذهب، وما بين مصالح فئوية لأفراد أو مجموعات تتحدّث باسمهما (وتغذي فيهم لهذا الغرض مشاعر وعصبيات ونزعات عاطفية وعفوية وبدائية)، سيبقى عنصر الخلل الأساسي، بل القاتل في نظامنا علاقات اللبنانيين في ما بينهم وفي أنماط علاقاتهم بالآخرين.
تلك هي الفضيحة الكبرى، التي جرى التستّر على وجه من وجهوهها مجدّدًا أمس، في التواطؤ شبه الكامل على وأد الإصلاحات المتواضعة في نظام الانتخابات البلدية المقرّرة في الشهر المقبل!
* كاتب وسياسي لبناني
تعليقات: