عن الانتخابات والطبقة السياسية: التقدم إلى الخلف ... ديموقراطياً!


«الموضة» عند «العرب»، الآن، الانتخابات.

لقد وصل إليهم هذا «الاختراع» الجديد مع الاحتلال، أميركياً كما في العراق، أو متعدد الهوية كما في السودان، وعبر «منظمات المجتمع المدني» التي أبلت بلاءً حسناً في اليمن، قبل أن تصلنا بخبراتها معتقة «لتشرف» على الانتخابات النيابية في بداية الصيف الماضي... ثم على الانتخابات البلدية التي ثبت موعدها ـ الأصلي ـ بعد طول جدال، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي القدير!

ولأن لبنان مختلف بنظامه الفريد عن سائر دول العالم، فالانتخابات فيه لا تشبه أية عملية انتخابية في أي مكان أو زمان!

ذلك أن «النظام» في لبنان يحاصر «رعاياه» في أقفاص الطائفية والمذهبية بحيث يستحيل عليهم أن يكونوا في الحال، أو يصيروا في المستقبل «مواطنين».

إنهم ممنوعون، بالقانون، من أن يكونوا أصحاب إرادة مستقلة، وأصحاب قرار في شؤونهم العامة، السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية فضلاً عن الثقافية.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن لكل دورة انتخابية، نيابية أساساً، أو بلدية، قانونها الخاص، كأنما «البلاد» تنبت فجأة فتخرجها الأرض بغتة وترى «الطبقة السياسية» نفسها مدفوعة إلى ابتداع ما يناسب من الضوابط والأوامر والنواهي، حتى لا يشرد «الرعايا» مع أمزجتهم أو مع أحقادهم أو مع أغراضهم بعيداً عن الأصول الديموقراطية السامية، بما يسيء إلى كرامة النظام!

لا يعيش القانون الانتخابي أكثر من دورة واحدة، فالنظام حريص على تجديد نفسه بتجديد المفاهيم عند رعاياه... ومن يدري، فقد يصيب التبدل هؤلاء الرعايا، في عقائدهم أو في مصالحهم في الفترة الفاصلة بين عمليتين انتخابيتين، نيابية أو بلدية، لا فرق.

إن أرشيف وزارة الداخلية يضم عدداً هائلاً من القوانين الانتخابية المتنافرة، المتباينة، المتناقضة بمفاهيمها ودلالاتها وكأنما «الشعب» يتبدل أو يبدل منطقه أو مزاجه أو تتغيّر قيمه مرة كل أربع سنوات، فيغدو بحاجة إلى قانون جديد يرشده ويهديه سواء السبيل إلى ما طرأ أو استجد من تحولات وتبدلات على «الطبقة السياسية» التي لا تجد حرجاً في تبديل جلدها ـ جزئياً ـ بين دورة انتخابية وأخرى... لكي تلحق بالعصر فتكون دائماً فيه حاضرة ناظرة وسباقة إلى التطور!

... وفي آخر انتخابات نيابية لم تجد «الطبقة السياسية» حرجاً في تجديد شباب النظام، بالعودة القهقرى إلى قانون انتخابي صدر في 1960، بدعوى الحرص على الوحدة الوطنية، في طبعتها الجديدة، كأنما الديموقراطية نقيضها.. وكان ضرورياً، والحال هذه، أن تتجاهل هذه «الطبقة السياسية» حقائق بسيطة بينها أن التقدم حق إنساني مطلق، وأن جملة المفاهيم والقيم والأحوال والظروف التي كانت سائدة في مجتمع حيوي كالمجتمع اللبناني قد تبدلت نتيجة التطور الطبيعي في دورة الحياة...

فضلت «الطبقة السياسية» أن تفرض ما أنتجته الحروب الأهلية في جولاتها المتعاقبة من انقسامات وتشوهات واغتراب عن الذات وتباعد بين الأشقاء، لتعامل الأربعة ملايين لبناني وكأنهم شعوب بل وأمم شتى، لا يربط بينها رابط ولا يوحدها حاضر أو مستقبل.

اجتهدت بداية لأن تباعد بينهم وبين هويتهم الأصلية، فتحايلت على الإقرار بعروبة لبنان، وهي البديهية التي كلفت الكثير من الدماء والدمار... فأغرت كل طرف بأن يستخدم هوية محلية ـ جهوية ـ طائفية أو مذهبية، ثم قبلت أن يأتي «الناخب» بجواز سفر أجنبي لكي يقترع لرئيس البلدية والمختار في قرية نسي اسمها ونسيه أهلها الذين كانوا أهله، ثم فوجئوا به وقد أتى محمولاً على أجنحة «لبنان أولاً» من أجل ترسيخ الانقسام الداخلي وطمس الهوية الأصلية لبلاده التي غادرها لأسباب شتى أولها منعه من أن يكون «مواطناً» فيها!

... ومتى تمّ التنصل من العروبة أو اعتبارها «صفة مفروضة» بات سهلاً التعامل مع سوريا على أنها «دولة طامعة» يجب أن يسبق «ترسيم الحدود» معها و»استعادة ما تغتصبه من أرضنا» فوراً، كل ما عداه من مصالح مشتركة ومن روابط ووشائج عائلية، بما يحمي مستقبل العلاقات الحتمية معها، والتي فيها الخير للبنانيين والسوريين مجتمعين...

ولعل من أغرب الوقائع في هذا المجال استذكار ما كان قائماً بين لبنان وسوريا في ظل الاحتلال الفرنسي، وما استمر قائماً من «مصالح مشتركة»، اقتصادية أساساً وعملية، لتشمل العملة والجمارك والريجي والتسهيلات عند الحدود، بما يرسي دعائم التكامل الاقتصادي، فضلاً عن وجوه التعاون الأخرى علمياً وثقافياً وفنياً وفي مختلف مجالات الحياة، من دون أن يؤثر في ذلك الاختلاف الكلي بين النظامين السياسيين القائمين في البلدين «المتكاملين».

... ومتى تمّ التنصل من العروبة وموجباتها بات سهلاً اعتبار «الفلسطينيين» الذين أجبرهم الاحتلال الإسرائيلي لبلادهم على النزوح عنها والقدوم إلى لبنان (وسوريا) كلاجئين، ليعيشوا في مخيمات في ظل أوضاع مهينة لإنسانيتنا ولكرامتنا، فضلاً عن عروبتنا، وكأنهم جيش من الغزاة جاء بهم الشبق إلى تذكرة الهوية ذات الأرزة، لكي «يستوطنوا» أرضنا مشكّلين بديلاً من الشعب اللبناني العظيم، بعد دفعه إلى الهجرة والتشتت في أربع رياح الأرض!

ونعود إلى الانتخابات البلدية التي فرضها ضيق الوقت والتحايل على أي إصلاح، وعلى كل إصلاح، يحفظ كرامة «الناخبين» ويمكّنهم من التعبير عن آرائهم حيث يقيمون ومن دون تحمل مشقة الانتقال إلى مساقط رؤوسهم ليعطوا أصواتهم لمن لا يعرفون، وليختاروا مجالس بلدية لن يفيدوا من «إنجازاتها» هذا إذا ما أنجزت، لا في مجال الخدمات (الطرق، شبكة المياه، الكهرباء، الحدائق، المكتبات العامة، مثلاً)، وإن كانوا سيتحملون الغرم خصومة مع من لا يعرفون من أهلهم نتيجة انحيازهم المفروض إلى «مرشحين» لا يعرفونهم، بتأثير القربى أو المصاهرة أو الولاء العائلي أو الحزبي... وقد غدا خليطاً من ذلك كله!

لقد كوفحت «النسبية» وكأنها لعنة أو مرض عضال.

بل إن «الطبقة السياسية» قد خاضت «الحرب ضد النسبية» بكل ما ملكت من الأسلحة، حرصاً على تخلّف النظام الانتخابي الذي سوف يستمر ينتجها حتى يشيب الغراب، إذ لا فكاك من التصويت للائحة التي تجمع المال والنفوذ وحماية الطائفة، أي تلك التي توفر النصر ـ مجانياً ـ لأهل الطبقة السياسية الذين باتوا يحتكرون ذلك كله!

كذلك تمّ الهجوم الكاسح الماسح على حق الشباب (سن الـ 18 سنة) وكأنه إنذار بزلزال يتهدد دوام السيطرة والسيادة للطبقة السياسية ذاتها، فهؤلاء الفتية الذين لا يفقهون السياسة قد يخربون بجهلهم وتطرفهم اللعبة السياسية التي لا يملك زمامها إلا الراسخون في علم التزوير، بالضغوط جميعاً، المال والنفوذ والحمى الطائفية..

أما المرأة فشر كلها، وشر ما فيها أنه لا بد منها... فلتكن غداً كما كانت دائماً تابعة للرجل، يقرر لها ويقرر عنها، أوليس الرجال قوامين على النساء؟!

هكذا يؤكد لبنان، عبر طبقته السياسية، دوره الرائد في مجال تعليم الديموقراطية وتعميمها على خلق الله الذين لم يتعرفوا إلى نعمتها بعد.

وكل انتخاب ولبنان بخير في ظل طبقته السياسية السباقة إلى معانقة الديموقراطية... حتى خنقها!

تعليقات: