هل مات ديكارت مسموما؟

ديكارت فارس فرنسي المؤلف: جان مارك فارو
ديكارت فارس فرنسي المؤلف: جان مارك فارو


اعتبره المتعصبون مفكرا زنديقا وحرموا قراءة كتبه يوم كانت فرنسا دولة أصولية..

باريس:

مؤلف هذا الكتاب هو المؤرخ والفيلسوف الفرنسي جان مارك فارو، عضو أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية في باريس، كما أنه محام كبير ومتخصص بالقضايا الكبرى. وهو يقدم هنا صورة عامة وتفصيلية عن حياة واحد من أكبر الفلاسفة على مر العصور.

فديكارت يحسب في خانة العشرة الكبار على مدار تاريخ الفلسفة: أي أفلاطون، وأرسطو، وديكارت، وسبينوزا، وجان جاك روسو، وكانط، وهيغل، ونيتشه، وفرويد، وهيدغر. بالطبع هناك آخرون مهمون جدا ولا ينبغي أن نستهين بإنجازاتهم.

يعطينا المؤلف أولا فكرة عن نشأة ديكارت، إذ ولد في مدينة صغيرة كانت تدعى «لاهي» ولكنها الآن تدعى ديكارت، تيمنا بابنها البار الذي شهرها في كل أنحاء العالم. وكانت ولادته في 31 مارس (آذار) من عام 1596.

وكان ينتمي إلى عائلة النبلاء الصغار، بحسب التقسيمات التي كانت سائدة في المجتمع الفرنسي إبان العهد القديم. وهذا يعني أنه كان ينتمي إلى طبقة تقف فوق مستوى الشعب، ولكنها لا تصل إلى مستوى طبقة النبلاء الكبار، التي كانت تملك الإقطاع الواسع وتحكم فرنسا.

وبعد أن أنهى دراساته الأكاديمية في مدينة بواتييه عاصمة تلك المنطقة، التي ينتمي إليها والتي أنجبت ميشال فوكو لاحقا، قرر التفرغ للبحث عن الحقيقة وعدم العمل كأستاذ وإنما كمفكر حر وجوال. والواقع أنه ورث مبلغا كبيرا من المال عن والده، ولم يكن بحاجة إلى العمل لكسب عيشه، وهذا ما ساعده على تحقيق آماله في اكتساب العلم والمعرفة الواسعة.

وهكذا قرر التفرغ للعلم والفلسفة والانطلاق للبحث عن الحقيقة في الكتاب الكبير للعالم على حد تعبيره.

فقد كان يرى العالم أمامه منتشرا مبسوطا وكأنه كتاب مفتوح ينتظر من يقرؤه: أي من يفسره ويفك رموزه وألغازه. وفي ليلة 10 نوفمبر من عام 1619، اكتشف ديكارت طريقه في الحياة بعد أن رأى ثلاثة أحلام مرعبة هزته هزا، وكادت تودي بعقله. ويقال إن الإلهام نزل عليه في تلك الليلة الليلاء. وهكذا تجاوز المحنة وتوصل إلى الحقيقة اليقينية لأول مرة عن طريق اكتشاف علم رائع هو: علم الرياضيات. وعندئذ عرف ديكارت أنه سيقضي كل عمره في كشف الحقائق الفلسفية الجديدة وإسقاط الأوهام والأخطاء الخاصة بالفلسفة القديمة: أي فلسفة القرون الوسطى التي هي مزيج من اللاهوت المسيحي وفلسفة أرسطو. بهذا المعنى، فإن ديكارت يشكل قطيعة كبرى في تاريخ الفكر.

ولكي يقوم بهذا الانقلاب المعرفي الكبير فإنه اضطر إلى مغادرة فرنسا التي كانت آنذاك أصولية متعصبة واستبدادية مليئة بمحاكم التفتيش. وذهب للاستقرار في هولندا الليبرالية بدءا من عام 1628: أي عندما كان في الثانية والثلاثين من عمره. وهناك ألف معظم كتبه الأساسية، إن لم يكن كلها. ومعلوم أن هولندا كانت آنذاك البلد الأكثر حرية في أوروبا، بالإضافة إلى إنجلترا، والأكثر تقبلا للأفكار الجديدة. كما أنها كانت متسامحة جدا من الناحية الدينية، إذا ما قارناها بفرنسا، مثلا، أو إسبانيا أو إيطاليا... إلخ. ولكن حتى هناك، لاحقه الأصوليون وهددوه، ولولا تدخل السفير الفرنسي لربما كانوا أصابوه بأذى.

وكان ديكارت يحب السكن في ضواحي المدن لا المدن ذاتها. والواقع أنه كان يختار مسكنه بالقرب من الطبيعة والحقول، لكي يستمتع بالوحدة والعزلة ويتفرغ للتأمل والتفكير والنزهات الطويلة. وكثيرا ما كان يغير مسكنه إذا ما انتبه الناس إلى وجوده وعرفوا من هو.

فعندئذ لا يشعر بالحرية، فينتقل إلى مكان آخر ومنزل آخر حيث لا يعرفه أحد، على الأقل في البداية. ولكن ما إن يعرفوا أنه هو الفيلسوف الشهير ديكارت حتى يصاب بالانزعاج ويفكر بالهرب إلى مكان آخر، وهكذا دواليك. وبالتالي، فقد كان يشعر بأن الناس يزعجونه أو يعتدون على وحدته وعزلته وتأملاته. أو ربما كان يخاف من الاغتيال.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) من عام 1649، دعته ملكة السويد كريستين لزيارتها في العاصمة استوكهولم. وتردد في تلبية الطلب، لأنه كان مرتاحا في هولندا ويخشى برد الشمال القارس.

ولكن سفير فرنسا هناك ألح عليه في تلبية رغبة الملكة. ومعلوم أنها ما كانت لتدعوه لولا أن شهرته كانت قد طبقت الآفاق وأصبحت أسطورة. وهكذا سافر إلى هناك، لكي يموت من البرد في 11 فبراير (شباط) عام 1650. وقد رثاه الفيلسوف الألماني لايبنتز أعظم رثاء عندما قال: «أريد التأكيد بأن الجنس البشري مُني بخسارة كبرى بوفاة رينيه ديكارت، وهي خسارة لن يقوم منها بسهولة، ويصعب تعويضها».

وهذا الرثاء إذ يأتي من طرف فيلسوف كبير كلايبنتز، يدل على مدى أهمية ديكارت بالنسبة إلى تاريخ الفكر البشري كله وليس فقط بالنسبة لأوروبا. فالواقع أنه أول فيلسوف حديث في التاريخ، ومن معطفه خرجت كل الفلسفة الحديثة.

في عام 1637، نشر ديكارت في مدينة لايدن بهولندا كتابا ضخم الحجم بعنوان «رسالة عن تركيبة العالم والضوء». وكان يحتوي على مقالاته التي كتبها عن موضوعات شتى كالنيازك والشهب وعلم البصريات وعلم الهندسة. وكانت مقدمة الكتاب هي مقاله الشهير في المنهج. وكان عنوانه الكامل هو: «مقال في المنهج من أجل استخدام العقل بشكل جيد والبحث عن الحقيقة في مجال العلوم». وهكذا بلور للغرب منهجه العقلاني، الذي جعله يتفوق على كل شعوب الأرض.

وكان أول كتاب ينشره باللغة العامية: أي اللغة الفرنسية التي كانت محتقرة آنذاك بالقياس إلى اللغة اللاتينية: لغة الدين والعلم والأدب والفكر في ذلك الزمان. وقد نشر الكتاب من دون توقيع، خوفا من محاكم التفتيش وملاحقة الكنيسة والأصوليين له بعد أن عرف ما حصل لغاليليو.

ودرس ديكارت في هذا الكتاب كيفية تشكل الظواهر الطبيعية بشكل علمي: كالمطر والغيوم وقوس قزح، إلخ. كما درس قوانين انعكاس الضوء. وأضاف إلى ذلك اختراعه الكبير: علم الهندسة التحليلي. (انظر بهذا الصدد كتاب حمد الراشد، أحد أعضاء الحلقة الفلسفية السعودية بعنوان: رينيه ديكارت.. عالم وفيلسوف العصور الحديثة. الرياض، 2008). ومعلوم أن النظريات الغيبية أو الميتافيزيقية عن كيفية تشكل الظواهر الطبيعية كانت هي السائدة قبل ديكارت، فبددها وأحل محلها النظريات العلمية القائمة على التجربة المحسوسة والعيان. وهذه هي أول خطوة كبرى في اتجاه الحداثة. ونقصد بها إحلال التفسير السببي العقلاني لظواهر الطبيعة محل التفسير الغيبي لرجال الدين.

وفي عام 1641، نشر ديكارت واحدا من أهم الكتب في تاريخ الفلسفة ألا وهو: «التأملات الميتافيزيقية». وهو هنا لا يتحدث عن أشياء علمية وإنما عن أشياء فلسفية محضة. ولكنه كتبه باللاتينية، لأنه كان موجها إلى علماء زمانه وكبار الاختصاصيين لا إلى عموم الشعب. ومعلوم أن لغة المثقفين في كل أنحاء أوروبا آنذاك كانت هي اللاتينية كما ذكرنا آنفا. الآن أصبحت لغة ميتة لا يعرفها إلا القليلون. والواقع أن الكتاب يحتوي على المبادئ الأساسية لفلسفة ديكارت، ومن هنا أهميته الكبرى ولا يوازيه إلا «نقد العقل الخالص» لكانط، أو «فينومينولوجيا الروح» لهيغل.

وكان المقصود به الرد على علماء اللاهوت المسيحيين الذين يسيطرون على العقلية الجماعية للشعوب المسيحية في ذلك الزمان. وقبل أن ينشره ديكارت أرسله إلى بعض كبار المفكرين من أمثال الفيلسوف الإنجليزي هوبز وسواه، وقد أبدوا رأيهم فيه وعبروا عن نقاط الاتفاق ونقاط الاختلاف معه.

ونشر ديكارت انتقاداتهم في آخر الكتاب بعد أن رد عليها.

وأثبت بذلك أنه شخص موضوعي، بل ديمقراطي، فهو يقبل بحق الاختلاف في الرأي بكل سعة صدر. إنه يؤمن بالحوار الديمقراطي في مجال الفلسفة: أي بالمقارعة بين الرأي والرأي المضاد. وهذه هي الخطوة الأولى في اتجاه الديمقراطية. وبالتالي، فلا ديمقراطية من دون فلسفة، لأن الفلسفة تؤمن بالتقدم عن طريق الحوار لا عن طريق الضرب أو التكفير والإرهاب. ولا تعتبر أفكارها حقائق معصومة وإنما مؤقتة قابلة للتصحيح والتعديل باستمرار. لهذا السبب لا يمكن للمجتمعات التي يسيطر عليها اللاهوت السياسي والأصوليون أن تصبح ديمقراطية لسبب بسيط: هو أن أفكارهم وعقائدهم عبارة عن يقينيات مطلقة غير قابلة للنقاش. ثم وضعت كتبه على لائحة الكتب المحرّمة عام 1666، أي بعد موته بستة عشر عاما. وكان ذلك يعني إطلاق فتوى لاهوتية بتحريم قراءة كتبه على الجمهور المسيحي الخاضع لتوصيات الفاتيكان.

بل إن اليسوعيين، أي الإخوان المسيحيين المتشددين، منعوا تدريس كتبه في المدارس والجامعات بدءا من عام 1640، أي قبل موته بعشر سنوات، ولكنه سيطر على الفكر في القرن التالي بعد أن استنارت العقول وأصبحت قادرة على فهمه. وعندئذ أصبح البطل المقدام للفكر بحسب تعبير هيغل الشهير.

لكن الشيء المدهش في هذا الكتاب «ديكارت، فارس فرنسي»، هو أنه يقدم لنا صورة غير معهودة عن فيلسوف الفرنسيين الأول. ونفهم منه أنه كان مغامرا في مجال الحياة مثلما كان مغامرا في مجال الفكر. وفي كلتا الحالتين، كان شجاعا مقداما ويستحق كلمة هيغل. ومعلوم أنه حمل السيف وخاض الحروب قبل أن يتفرغ للفكر والفلسفة. وعندما كان يعبر البحر في إحدى المرات حاول أحد ركاب السفينة ابتزازه لكي يأخذ فلوسه بعد أن رأى من شكله أنه شخصية مرموقة وغنية. فما كان من ديكارت إلا أن امتشق حسامه ودعاه للمبارزة فتراجع اللص واندحر.

ولكن الشيء الأخطر في الكتاب هو أن المؤلف يزعم أن ديكارت لم يمت من نزلة بردية، كما تقول الرواية الرسمية المكرسة عبر القرون، وإنما مات مقتولا. والواقع أن هذه الفرضية كان قد أكدها أستاذ جامعي ألماني اسمه: تيودور إيبيرت في كتاب أحدث ضجة مؤخرا بعنوان «الموت السري الغامض لرينيه ديكارت». لم يترجم بعد إلى الفرنسية. وملخص فرضيته هو أن الكاهن الكاثوليكي الفرنسي فرانسوا فيوكيه هو الذي قتل ديكارت بأمر من الفاتيكان أو على الأرجح من دون أمر. لماذا؟ لأنه كان يرى في فلسفته حجر عثرة أمام اعتناق ملكة السويد كريستين المذهب الكاثوليكي الروماني. ومعلوم أنها كانت بروتستانتية لوثرية: أي تنتمي إلى المذهب المعادي. وقد خشي هذا الكاهن عليها من تأثير ديكارت وأفكاره الهدامة للدين أو المضادة للعقيدة الكاثوليكية. وكانت أوروبا غارقة آنذاك في الحروب المذهبية. لقد قدم هذا الكاهن القربان المقدس لديكارت بعد أن دس فيه السم! والدليل على صحة الرواية كما يقول المؤلف هو أن ديكارت قبيل موته كان يعاني دوخة كبيرة في الرأس، بالإضافة إلى وجع رهيب في المعدة وقيء متواصل ودم في البول. وكلها أعراض خاصة بالتسمم لا بمرض الالتهاب الرئوي الناتج عن برد استوكهولم القارس كما يزعمون. والدليل على صحة الفرضية هو أن كريستين تخلت بالفعل عن مذهبها وتنازلت عن العرش واعتنقت المذهب الكاثوليكي البابوي بعد موت ديكارت بأربع سنوات فقط.

وأخيرا، لا ينبغي أن نستهين بهذه الرواية كثيرا، فالواقع أن معظم الشخصيات الكبرى في التاريخ تعرضت للاغتيال بشكل أو بآخر. فالعباقرة يعتبرون شذوذا على التاريخ أو غلطة من غلطات الزمن، ولذلك تتألب عليهم الظروف بشكل أو بآخر لتصفيتهم. وذلك لأن مجرد وجودهم على سطح الأرض يعتبر استفزازا ما بعده استفزاز بالنسبة إلى عامة البشر. إنهم يسبقون زمنهم أو أكبر من قرنهم وعصرهم. عزاؤنا الوحيد هو أنهم لم يستطيعوا الوصول إليه أو الإطاحة به إلا بعد أن كان قد كتب مؤلفاته الأساسية وضرب ضربته الفلسفية الكبرى.

تعليقات: