العائلية في البلديات

سعد الله مزرعاني
سعد الله مزرعاني


مع كلّ موسم انتخابات بلدية يستحضر تمثيل العائلات بوصفه عاملاً أساسيًا من العوامل المقرّرة في هذا الاستحقاق. لا ينمّ ذلك عن رغبة قوى سياسية مهيمنة أو ذات أرجحية، في إضفاء طابع محلي على هذا الاستحقاق البلدي. ولا هو بالتأكيد، ترجمة للبعد المهم في الاستحقاق البلدي والمتمثّل في تفعيل اللامركزية الإدارية. إنّ ذلك يعبّر، ببساطة، عن استخدام عصبية محلية عائلية وتفعيلها في الشأن الانتخابي البلدي، مكمّلة ومشابهة للعصبية العامة المعتمدة في الشأن الانتخابي النيابي، والتي هي العصبية الطائفية والمذهبية.

ويصيب هذا الأسلوب، في إثارة الحميّة العائلية، أهدافًا عدّة بحجر واحد. فمن جهة، يوهم أصحابُ اللعبة الأساسيون، العائلات بأنّها شريكة في الاختيار. ومن جهة ثانية، يوثقون علاقتهم بنشطائها و«مفاتيحها» في عملية مفتوحة لتعزيز الولاء لمراكز القرار وللمرجعيات ومن ضمن سياق حافل بأشكال الزبائنية وتقديم الخدمات وصولاً إلى ما تعاظم أمره في الدورات الانتخابية الماضية، وهو المال السياسي الذي يغدق بلا حساب، والذي تتنافس على تقديمه دول ذات إمكانيات مالية هائلة.

أما الهدف الثالث الذي يصيبه حجر القوى الكبيرة والمهيمنة، فهو إضعاف ومحاصرة الأشكال الجديدة التي قد تنشط من أجل جعل الاختيار واعيًا وبالتالي مستقلاً عن الإملاءات والإغراءات والولاءات والعصبيات. وهذا الأمر يتطلّب بدوره، اهتمامًا خاصًّا: ففيه يدخل، بين أمور أساسية أخرى، موضوع قانون الانتخابات. وقانون الانتخابات ومجريات العملية الانتخابية وأجواؤها، ذات تأثير متقدّم في تحديد النتائج. وليس بالصدفة ما قاله يومًا أحد خبراء الانتخابات: «قل لي من تريد أن تنجِّح أقل لك أيّ قانون تعتمد».

يفسّر ذلك جزءًا من الصراع الذي دار حول قانون الانتخابات البلدية الذي قدّمته الحكومة في غفلة عن معظم أطرافها ومنها، ثم ما لبث أن سقط سقوطاً مدوّياً في المجلس النيابي، وبضربة قاضية من رئيس المجلس، بعدما كانت اللجان النيابية قد أوسعته تهشيمًا وتذميمًا وتفريمًا!!

وكان «طبيعيًا» أن يعقب إسقاط مشروع الحكومة لقانون البلديات، استنفار العامل العائلي إلى أقصى مداه. ويمكن، منذ الآن، قراءة ما ستعلنه «القوى الكبيرة» من أنّ لوائحها، أو تلك «المدعومة» منها، قد حصدت نجاحات ساحقة في أغلبية مناطق نفوذها. سيتوزّع هذا النجاح بالطبع على الجميع، كلّ في ساحته وفي ملعب نفوذه. لكنّ النتيجة واحدة: لقد جدّد اللبنانيون، من خلال الاستحقاق البلدي أيضًا، الثقة بمرجعياتهم الأساسية وفي كلّ المناطق اللبنانية!

يصيب هذا الأسلوب في إثارة الحميّة العائلية أهدافًا عدّة بحجر واحد

لقد نشأ من مستجدات الظروف والأحداث، ما يملي بالنسبة للبعض من القوى السياسية الناشئة («كالتيار الوطني الحر» خصوصًا)، المناداة باعتماد مبدأ النسبية. فالتيار الوطني الحر بات يتعرّض لمنافسة شديدة، بعدما فقد معظم أرجحيته. وهذا الأمر قد يتطوّر إلى الأسوأ مع اشتداد الضغط عليه من المؤسسة الدينية، ومن شركائها في المعسكر الطائفي التقليدي الذي وُصف (ليس بدون مبرّر) بأنّه «انعزالي» حيال قضايا العرب التحرّرية والمصيرية. أما الآخرون ممّن هم مطمئنون إلى أرجحيتهم فليس في الحسبان، بالنسبة إليهم، التخلي عن جزء من احتكار التمثيل لأحد، مهما كان الجزء المتخلّى عنه محدودًا أو صغيرًا. إنّها نوع من نزعة الشمولية التي تخترق «الكيانات السياسية» كما يسمّيها العراقيون، والتي تسعى ما أمكنها ذلك إلى احتكار التمثيل وإلى إلغاء كلّ منافس وكلّ منافَسة، وصولاً، أحيانًا، وحين تغيب الروادع القانونية أو السياسية والشعبية، إلى إلغاء الانتخابات نفسها، أو جعلها شكلية تمامًا، لمصلحة «الزعيم الأوحد»، أو الرئيس الأبدي، أو الحزب القائد أو الجهاز السلطوي الممسك بزمام الحكم وبخناق البلاد والعباد...

وهكذا تتضافر عوامل عديدة، ليس عفوياً بل من خلال الدراية والتخطيط والمثابرة، على منع المواطن من أن يكون أكثر من مجرّد ناقل لورقة تدخل صندوقة الاقتراع، فيما يكون سواه قد قرّر الأسماء التي تحملها هذه الورقة. وطبعاً، يحصل ذلك وفق قانون انتخابات مُضعِف، هو الآخر، لصحة التمثيل، ووفق شروط للعملية الانتخابية تجعل المنافسة فاقدةً أيّ نوع من أنواع العدالة والتكافؤ والتوازن. ولقد تفاقم هذا الخلل في العملية الانتخابية في الدورة النيابية، قبل أقلّ من عام، إلى مستوى مخيف. نعني بذلك تفاقم العامل الخارجي من خلال المال والمرجعية العصبية، إلى الحدود التي جعلت «كبارنا» صغارًا من حيث الوزن والقدرة على اتخاذ القرار أو حتى المشاركة فيه.

لا نتوقّع، في ظل هذا الواقع السيّئ، إلا المزيد من التدهور في حياتنا السياسية. وسينعكس ذلك سلبًا على دور البلديات نفسها حتى لجهة الخدمات البسيطة التي قدّمتها للمواطن في مراحل سابقة. إنّ إغراق العملية الانتخابية البلدية في العصبية العائلية الموظفة لمصلحة «مفاتيح» تعمل دائمًا أو لاحقًا لمصلحة هذه القوة المهيمنة أو تلك، لن يدفع دور البلديات أية خطوة إلى الأمام، لا على صعيد توسيع المشاركة الأهلية وتعزيزها، ولا في مجال تطوير اللامركزية الإدارية والتنموية التي يمثّل دور المجالس البلدية أحد محاورها الأساسية.

تبقى الإشارة إلى أنّ أسبابًا يعود معظمها إلى الضعف، قد دفعت بعض الاتجاهات والشخصيات والقوى الديموقراطية أو التي تقول بذلك، إلى ركوب موجة تمثيل العائلات. طبعًا هي ليست الأقدر في هذا المجال، ولم تحصد إلا في ما ندر نجاحات ذات قيمة. وسيكون من نتائج انخراطها في هذا الأسلوب المساهمة في إلغاء نفسها ولو مقابل تمثيل مقنّع أو هزيل أو وهمي!

في لبنان «كثير من الحرية وقليل من الديموقراطية» كما يكرّر الرئيس سليم الحص. هذه المعادلة تهتزّ لمصلحة تحويل هذا «الكثير» من الحرية إلى نوع من العبث والفوضى والاستبداد، فيما «قليل» الديموقراطية يتراجع ويضمر دونما قعر أو مستقر.

لا ينطوي كلّ ما تقدّم على أيّ نوع من الإساءة إلى العامل العائلي باعتباره رابطًا أوّليًّا وطبيعيًا وأساسيًّا. لكنّ تحويله إلى عصبية وإلى مادّة استغلال وتوظيف سياسي هو ما يجب رفضه ومقاومته بكلّ وسائل الوعي والتحذير والنضال المتاحة. ذلك جزء من الكفاح ضدّ التضليل، ولتمكين أفراد العائلات من أن يختاروا فعلاً ممثليهم وفق معايير سليمة، لا عبر استحضار جاهلية يوم «ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر»!

* كاتب وسياسي لبناني

تعليقات: