في اليوم الأخير للحرب، قبيل دخول قرار وقف إطلاق النار حيز النفاذ، كانت لدى رئيس الوزراء الإسرائيلي «إيهود أولمرت» خطة ظن انه يستطيع أن ينتزع بها النصر من بين فكي الهزيمة.
كان «أولمرت» ينوي نقل آلاف من الجنود المحمولين جواً إلى نهر الليطاني ذي الموقع الاستراتيجي الذي يبعد حوالي 20 ميلاً شمالي خط الحدود بين لبنان وإسرائيل. وكان يريد أن يستولي عندئذٍ على أكبر مساحة من الأرض وألا يسلم هذه المواقع لقوات الأمم المتحدة إلا بعد أن تكون القوات الإسرائيلية قد أنجزت كل ما تريده فيها.
من وجهة النظر العسكرية، كانت الخطة لا غبار عليها، لكن القوة المتحكمة في مصير الحرب كانت تقع خارج سيطرة إسرائيل. كانت هذه القوة هي أغلبية اللبنانيين العاديين.
حين كان الجيش الإسرائيلي يتحرك [لتنفيذ هذه الخطة] في يوم الأحد 13 أغسطس، وجّه تحذيراً إلى السكان من العودة إلى مساكنهم في الجنوب اللبناني. لكن السكان تجاهلوا هذه التحذيرات.
في نفس اللحظة التي بدأ فيها سريان وقف إطلاق النار، وفي مشاهد تُعيد إلى الذاكرة الحركة الجماهيرية التي أجبرت الإسرائيليين على الخروج من الجنوب اللبناني في مايو سنة 2000، كان المهاجرون اللبنانيون يغادرون مئات من مراكز اللجوء. وأخذت كتلة هائلة من البشر في التحرك نحو الجنوب، ولم يكن بوسع الإسرائيليين أن يفعلوا شيئا لوقفها.
غصت الطرق الواقعة جنوب بيروت بالعائلات العائدة التي راحت ترسم بأصابعها علامات النصر في أرتال من السيارات يحمل، بعضها سبعة من الركاب، وترفرف عليها الأعلام – العلم اللبناني إلى جانب علم حزب الله. كانوا يهتفون: "نحن ذاهبون إلى الجنوب. النصر لحزب الله!"
و كانت مجموعات من السكان المحليين قد أخذت في تنظيف الممرات على امتداد الطريق، مزيحة عنها أكوام الكابلات الكهربائية والركام وأسياخ الحديد الملتوية، فلا يلبث أن يتكون رتل جديد من السيارات ليمر من خلال كل ثغرة جديدة تُفتح في أكوم الركام.
لم تكن هناك أية قوات للجيش أو الشرطة على امتداد أميال الطريق المدمّر المؤدي إلى الجنوب. كان أبناء المنطقة هم الذين ينظمون حركة المرور، ويرشدون السيارات لتفادي مواقع الحفر الخطرة، ويدفعون الحافلات لاعتلاء الممرات الرملية حول الكباري المدمّرة.
كان اللاجئون عندما يقتربون من ديارهم، يبدأون في التجمع في أطراف قراهم وأحيائهم السكنية مشكلين مواكب حاشدة. هكذا استعادوا بلداتهم وقراهم، بلدة بعد بلدة وقرية بعد قرية. وحين أحس الإسرائيليون بعجزهم عن مواجهة هذا السيل البشري الجارف، هجروا مواقعهم وأخذوا في الفرار نحو الحدود.
هذا السيل البشري الذي اضطلع بدور حاسم في إحباط الهجوم الإسرائيلي كان ثمرة لحركة جماهيرية غير مسبوقة أخذت تتنامى عبر لبنان بينما القنابل تنهمر كالمطر.
وقد مارست هذه الحركة عملها بمعزل عن أي تنظيم حكومي رسمي، وكان زمام المبادرة فيها في أيدي السكان المحليين في أغلب الأحيان:
الطهاة يتولون العمل في مطابخ الفنادق الكبرى لإطعام عشرات الآلاف من المهجرين..
سكان الأحياء في مناطق اللجوء يتنقلون من بيت إلى آخر ليأتوا منها بالوجبات الساخنة والملابس وحليب الأطفال والبطاطين..
أطباء وفرق للرعاية الطبية يفتحون عيادات مؤقتة..
الشقق الخالية تُفتح لإيواء عائلات اللاجئين.
ظل الإسرائيليون طيلة أكثر من شهر يأملون في إجبار حزب الله على الاستسلام عن طريق ترويع سكان الأحياء الشيعية.
لكن هذه الأحياء كانت قد أُخليت من معظم سكانها. فرغم حدوث وفيات مؤلمة كثيرة بين المدنيين، فإن الطائرات كانت تقصف في الغالب مناطق تكاد تخلو من ساكنيها.
وكانت هذه الحركة الجديدة ذات طابع طبقي أيضا. فمنطقة سوق "الطبقة الراقية"، التي بنيت حديثا في بيروت، أغلقت أبوابها أمام اللاجئين. كما أُغلقت أمامهم أيضا الشبكة الواسعة للملاجئ المبنية تحت الأرض. وكانت المؤن الحكومية من الأغذية والمواد الضرورية مخبأة في أماكن بعيدة أو تُباع بأسعارٍ باهظةٍ.
ومع ذلك، تمكنت المقاومة المدنية من منع حدوث أزمة لاجئين. فقد جرى استيعاب أكثر من مليون لاجئ نزحوا من ديارهم في مدارس ومنتزهات عامة ومساكن خاصة، و وُفر لهم الطعام والملابس والملاذ الآمن بعيدا عن المناطق التي كانت تستهدفها القاذفات الإسرائيلية.
لقد تحوّل النازحون، بفضل الدعم الفعال من جانب الكثير من بسطاء الناس، إلى كتلةٍ منظمةٍ من البشر الغاضبين ولم يعودوا مجرد حشد من اللاجئين اليائسين. وهكذا أصبحت لهم الكلمة الأخيرة في صباح اليوم الذي بدأ فيه وقف إطلاق النار.
وبدلا ًمن أن يتمكن الإسرائيليون من انتزاع النصر الأخير، وجدوا أنهم قد ساقوا أنفسهم إلى مصيدة خطرة: حشود هائلة تتدفق من الشمال بينما ظل المقاتلون من رجال حزب الله يسيطرون على الجنوب.
مع حلول المساء، وصل اللاجئون إلى بلدة «بنت جبيل» الحدودية التي كانت مسرحاً لبعض من أشد مشاهد القتال ضراوة أثناء الحرب. كان الدمار الذي ألحقته القنابل الإسرائيلية بالطرق بشعاً، فاضطروا إلى ترك سياراتهم والسير إلى البلدة على الأقدام.
كلما وجدوا جنوداً إسرائيليين، كانوا يرشقونهم بالحجارة ويصرخون في وجوههم طالبين منهم الرحيل عن أرضهم.
أصبحت بعض الوحدات الإسرائيلية معزولة بينما انسحبت وحدات أخرى إلى الحدود. وتحولت خطة "الزحف إلى الليطاني" إلى هزيمة نكراء للجيش الإسرائيلي.
ولما كان وقف إطلاق النار قد بدأ رسمياً، لم يكن أمام مقاتلي حزب الله سوى مرافقة الوحدات الإسرائيلية المعزولة مخفورةً إلى الحدود.
كان هذا هو الإذلال الأخير لجيش من أقوى جيوش العالم.. الإذلال الذي تلقاه على أيدي الشعب.
عنوان النص الأصلي باللغة الإنجليزية:
Lebanon: Freedom from below
تعليقات: