إقرار المناورة ومعاودة تنفيذها سنويّاً، يشيران إلى عجز عن حماية الجبهة الداخلية الإسرائيلية
عشيّة مناورة الجبهة الداخلية الإسرائيلية، «نقطة تحوّل 4»، دون أن تكون «الحرب المقبلة» قد بدأت على لبنان، تبقى لدى «متوقّعي» الحرب أربعة أيام، قبل انتهاء المناورة، إلى أن تُرحّل كمثيلاتها إلى الذاكرة المؤقتة، ومن ثم يطويها النسيان
يجد متنبّئو الحرب والراغبون فيها أنّ أيّ مناورة تُعلَن إسرائيلياً، هي فرصة مواتية للبناء عليها وإخافة اللبنانيين من إمكانات وقوع المواجهة العسكرية. ولدى عدد من هؤلاء، ومنهم جهات سياسية معروفة، فإنّ أصل الحديث عن الحرب مطلوب لذاته، والهدف هو التصويب على المقاومة ومحاولة التشويش على أدائها وحرف اهتماماتها. فبحسب «عرّاب» المتنبئين، يعيش لبنان والمنطقة، في «الربع الساعة الأخير قبل العاصفة»، ولكي يتجنّب لبنان أيّ حرب إسرائيلية عليه، يجب «وضع السلاح بإمرة لبنان، لا (بإمرة) طهران أو دمشق»... يراد هنا القول، إنّ السلاح الذي يردع إسرائيل عن شنّ اعتداءاتها، بإقرار منها، هو الذي يمثّل خطراً على لبنان.
المناورة إشارة إلى أن إسرائيل تستعد للمواجهة وتعمل على توفير مستلزماتها
لن تتغيّر «اقتناعات» عدد من المتنبّئين بالحرب، مهما كانت الأسباب موجبة للتغيير، ذلك أن الموقف حيال حزب الله يفرض عليه إطلاق أحاديث وتقديرات مشابهة... لكن إن قُيّض للنقاش أن يقوم، يمكن الرد بأنه لا يكفي تكوّن دافع لدى إسرائيل لتوجيه ضربة عسكرية للبنان، بمعنى المصلحة الإسرائيلية، كي تتخذ إسرائيل قرارات الحرب، إذ يُشترط في ذلك أيضاً أن ترى أن لديها القدرة على احتواء تداعيات أيّ ضربة قد تشنّها، وأن تقدّر أنّ النتيجة المتوخّاة ستكون محقّقة، أي إزالة التهديد أو تقليصه إلى حدود معقولة. معنى ذلك، أنّ على تل أبيب أن تدرس خياراتها جيداً بناءً على حسابات الربح والخسارة قبل اتخاذها القرار. وهذا ما تفرضه قدرة المقاومة على إلحاق خسائر بها، غير مسبوقة. يفترض بصانع القرار الإسرائيلي أن يستند في قراراته إلى الموازنة ما بين منسوب الفائدة المتأتّية من الاعتداء نفسه، ومنسوب الخسارة حيال مروحة واسعة من الاعتبارات، وفي مقدمة ذلك تقدير واقع اليوم الذي يلي الضربة وسيناريواته المفترضة. معنى ذلك، أنّ السلاح دافع لإسرائيل، من ناحية نظرية، كي تشنّ اعتداءها، لكنه في الوقت نفسه مانع لها، من ناحية عملية، من شنّ الاعتداء.
يمكن القول في الخلاصة، إنّ ميزان القدرة لدى الجانبين يدفع نحو انكباح إسرائيلي عن توجيه الضربة العسكرية المأمولة من جانب إسرائيل نفسها، أو من جهات تتقاطع معها في مصلحة ضرب حزب الله. إنها حقيقة جرى تلمّسها جيداً في الآونة الأخيرة، في أعقاب «الضجيج» الإسرائيلي حول صواريخ سكود وصواريخ أم 600، التي قيل إنها باتت في حوزة المقاومة، من دون أن تنفي الأخيرة ذلك أو تؤكّده، كما هي المقاربة المتّبعة دائماً لديها.
ميزان القدرة لدى الجانبين يدفع نحو انكباح إسرائيلي عن توجيه الضربة العسكرية
مناورات «نقطة تحول أربعة»، هي أحد تداعيات حرب إسرائيل الفاشلة عام 2006، وتهدف من بين إجراءات وتدابير أخرى إلى «فحص جهوزية الجبهة الداخلية» في الكيان الإسرائيلي، إذا وقعت الحرب. وحريّ بالجهة المقابلة لإسرائيل، وفي لبنان تحديداً، حيث يجري تلقّف المناورة، لدى البعض، والبناء عليها للإشارة إلى إرادة الحرب إسرائيلياً، أن تُفحَص هذه المناورة وتُدرَس الخطوات والإجراءات التي تتضمّنها طوال أيامها الأربعة، وصولاً إلى استبيان ما تتوقّعه إسرائيل من خسائر خلال الحرب إن وقعت، وهذه التوقعات يجب أن تكون معطى أساسياً في قراءة إمكانات هذه الحرب من عدمها، فإذا كانت المناورة تصلح للإشارة إلى أن إسرائيل تستعد للمواجهة الابتدائية، وتعمل على توفير مستلزماتها، فيمكن أيضاً في المقابل، من باب أَولى، الإشارة إلى أنها تصلح (المناورة) للإشارة إلى الخشية منها، وبالتالي فإن تل أبيب تعمل على توفير ما من شأنه أن يقلّص خسائرها فيها، هذا إن وقعت الحرب نظرياً، وهي لا تريدها.
توقعات إسرائيل لخسائرها في الحرب، بناءً على ما ظهر في سيناريوات مناورات «نقطة تحول»، الأولى والثانية والثالثة في الأعوام الثلاثة الماضية، وأيضاً بناءً على السيناريوات الموضوعة للمناورة الرابعة لهذا العام، تشير إلى قصور اليد في إيجاد الحلول، وأنّ القدرات التي تتراكم في الجانب الآخر تسبق، بطريقة متسارعة، محاولات توفير الرد، إلى حدود لا ينفع الرد معها.
أصل إقرار هذه المناورات، هو مسألة إشكالية لجهة إسرائيل. إذ إنّ إقرار المناورة ومعاودة تنفيذها سنويّاً، يشيران إلى وجود إقرار واضح بالعجز عن توفير حماية للجبهة الداخلية الإسرائيلية، أي توفير ما يمكن تسميته الحماية الإيجابية حيال التهديد، ما يدفعها إلى البحث عن الحماية السلبية، أي الاختباء من الخطر ومن التهديد، بدلاً من مواجهته واجتثاثه. وهذا التهديد أو التحدي لم تكن قد واجهته إسرائيل منذ إنشائها، إذ اعتادت إبقاء جبهتها الداخلية آمنة نسبياً، خلال كل الحروب التي شنّتها على العرب بعد عام 1948. بات لدى إسرائيل جبهتان عمليتان، وعليها إيجاد حلول لتوفير حمايتهما، الأولى هي الجبهة العسكرية، والثانية هي الجبهة الداخلية المدنية.
لا يمكن أيّ جيش أن يحارب على الجبهة بينما تُضرَب مخازنه وعناصر إمداده اللوجستي
تتخلّل المناورة، كما هو محلوظ من البيانات الصادرة عن الجيش الإسرائيلي، محاولة محاكاة سقوط آلاف من الصواريخ على المستوطنات والمدن الإسرائيلية، وهذه المرة على البنى التحتية والمواقع الاستراتيجية، لكن الأهم من ذلك، سقوط صواريخ دقيقة واستراتيجية مدمّرة، على ما يرتبط بأداء الجيش الإسرائيلي، أي على مراكز السيطرة والتحكّم العسكرية، الأمر الذي من شأنه أن يشوّش الأداء العسكري ويعرقله على جبهة القتال الفعلية. لا يمكن أيّ جيش أن يحارب على الجبهة الأمامية بينما تُضرَب مخازنه وعناصر إمداده اللوجستيّ.
من هذه الناحية، تدل المناورة على أنّ العبء الإسرائيلي في الحرب المقبلة سيكون كبيراً جداً، والمناورة هنا تحاول محاكاة هذا العبء ودراسة إمكانات مواجهته أو التقليص من تداعياته السلبية.
تشهد المناورة هذا العام أيضاً، محاكاة لإخلاء مدينة من سكانها وإجلائهم عنها نحو أماكن بعيدة في الكيان الإسرائيلي، إن باتجاه مستوطنات الضفة الغربية، أو باتجاه مدينة إيلات على البحر الأحمر. وفي ذلك يمكن القول إنها المرة الأولى التي تقرّ فيها إسرائيل بهذا المعطى، وتحاول التعامل معه من دون الاختباء وراء أحاديث عن الوطنية والتضحية ومناعة المجتمع الإسرائيلي، بعدما كان الحديث عن ذلك يُعدّ نوعاً من العيوب «القومية»، وإشارةً إلى ابتعاد الإسرائيليين عن المناعة أمام التهديدات والأخطار باتجاه الهرب من المواجهة.
أخيراً، لا علاقة لهذه المناورة بحرب وشيكة على لبنان، بل هي جزء من الاستعداد العام، المفروض على الإسرائيلي القيام به، لحرب لم تعد مسلّمة الوقوع وقريبة، بعد تسليم الإسرائيلي بالمعادلة الردعية التي فرضتها عليه المقاومة، بل بات لديها ما يمكّنها من فرضها بالقوة.
تعليقات: