السفرجل «التفاحة الذهبية».. رمز الخصوبة والحب والحياة
نقلته أفروديتي من المشرق إلى اليونان..
لندن:
يطلق علميا على السفرجل (Quince)، الذي يعتبر من أنواع الفاكهة الشتائية المعروفة في الشرق والغرب، اسم «سيدونيا اوبلونغا» (Cydonia oblonga)، وهو من جنس «سيدونيا» (Cydonia) من عائلة «روساكيا» (Rosaceae) ومن الفصيلة الوردية، التي تعتبر من الفصائل ذوات الفلقتين والتي تضم عدة أجناس من الأشجار والشجيرات والأعشاب التي تحب البيئة الباردة عادة أو تنمو فيها. وسميت هذه الفصيلة بالوردية، لأن أزهارها تشبه أزهـار الورد، ومن أنواع الفاكهة والأشجار الأخرى التي تنتمي إليها، الإجاص واللوز والتفاح والكريز، ومن الشجيرات التوت والفراولة أو الفريز والعليق على أنواعه. وهناك أنواع أو أجناس بشكل أدق تأصلت منه واستقلت، مثل السفرجل الصيني المعروف علميا بـ«بسودوسيدونيا ساينينسيس» (Pseudocydonia sinensis)، والسفرجل في شرق آسيا بشكل عام يعرف بـ«كيانوميليس» (Chaenomeles). كما أن هناك أيضا ما يعرف بالسفرجل البنغالي (Bengal Quince) الذي يطلق عليه اسم «بيل» (Bael). لكن لا علاقة لهذا السفرجل نباتيا بالسفرجل المعروف بأي حال، فإن الأكاديين الذين عرفوه قديما في بلاد ما بين النهرين، أطلقوا عليه اسم «سبرجيلو» (supurgillu)، أما الاسم الإنجليزي «كوينس» (Quince) فيعود إلى القرن الرابع عشر كما يبدو إلى اسم «كوين» (quoyn) (جمع)، المأخوذ من الفرنسية القديمة «كوين» (cooin) المتدرج من الاسم اللاتيني «سيدونيوم مالوم» (cydonium malum) الذي بدوره يعني في اليونانية «تفاحة كيدونيا» (Kydonian apple).
مهما يكن، فإن النبتة الطيبة معروفة وتزرع في الكثير من البلدان وعلى رأسها تركيا التي تنتج ربع ما ينتجه العالم من السفرجل كل سنة، ويحبه الإيرانيون كثيرا منذ قديم الزمان ومنذ أيام الإمبراطورية الفارسية قبل آلاف السنين، وهناك الكثير من المناطق التي لا تزال تستهلكه بكثرة، خصوصا بعض المناطق الجبلية والشمالية. كما يعتبر من أنواع الفاكهة الوطنية - كتركيا وإيران - في أرمينيا وأذربيجان وجورجيا وباكستان وكرواتيا والبوسنة وصربيا ومقدونيا وألبانيا ورومانيا وبلغاريا وأوكرانيا واليونان، بالإضافة إلى الكثير من الدول الأخرى، ولكن بكميات أقل في أوروبا والولايات المتحدة. وكان الإغريق في قديم الزمان يقدمون السفرجل أثناء الأعراس، وكانوا يحترمونه ويقدرونه لأن أفروديتي جلبته معها إلى اليونان من الشرق، وبالتحديد من «بلاد المشرق» أو «بلاد الشام» التي يطلق عليها اسم «ليفانت»، وتضم قديما صحراء سيناء وقبرص وسورية ولبنان وفلسطين والأردن والعراق. وكان على العروس قبل ليلة الدخلة قضم قطعة من السفرجل، تيمنا بهدية باريس لأفروديتي التي كانت سفرجلة. كما كان الناس يرشقون موكب العروس قبل وصولها إلى المنزل بالسفرجل ويقدمون كعكة من العسل والسمسم (السمسمية) للتأكيد على خصوبتها قبل تقديم السفرجلة الطازجة إلى العروس.
كانت اطلانطا بنت ليسيوس، وهي شخصية إغريقية خرافية، تكن للسفرج الذهبي مكانة خاصة. مهما يكن فإن اليونانيين اعتبروا السفرجل دائما رمزا للخصوبة والحب.
وقبل اليونان يقال إن بعض الكلمات التي جاءت باسم «تفاحة» في ترجمات أغاني سليمان كانت تدل على السفرجل وتم ترجمتها بالخطأ إلى تفاح لأنه درج إلى وقت طويل ربط الاسمين أو خلطهما. كما أحب الرومان أيضا السفرجل، الذي جاء ذكره وذكر وصفات طبخه في كتاب «أبيقيوس» (Apicius) الخاص بالطبخ في القرن الرابع للميلاد. وتحدث الكتاب عن وصفة خاصة ليخنى السفرجل مع العسل والكراث أحيانا. وذكر المؤرخ الروماني المعروف بليني الكبير أو الأب نوعا واحدا من السفرجل الذي كان يؤكل نيئا ويعرف بـ«سفرجل المولفيان» (Mulvian quince). أما كولوميلا فقد ذكر عدة أسماء وأنواع، منها «التفاحة الذهبية» التي منحت اسمها أو وهبته للبندورة في الإيطالية «بومدورو». ويعتقد أن هذه التفاحة الذهبية هي السفرجل الذي جاء كما يعتقد قديما من حدائق «هيسبيريديس»، أي «حدائق التفاح الذهبي». وحسب الخرافات والحكايات القديمة، فإن الأرض أهدت هذه الحدائق إلى الإلهة اليونانية هيرا بمناسبة زواجها من كبير الآلهة زيوس. وتقول الموسوعة الحرة في هذا الشأن إن هذا الاسم في اليونانية كان يعود إلى الحوريات اللواتي لجأن إلى الحدائق الغناءة في العالم المحظوظ في ليبيا القديمة. وبينما تشير الموسوعة إلى أن موقع هذه الحدائق الخاصة بالسفرجل كان في موقع بنغازي حاليا في إقليم سيرين شرق ليبيا في القرن السادس قبل الميلاد، تشير بعض المصادر إلى أنها كانت قرب جبال الأطلس في منطقة طنجة في المغرب. وذكر الكثير من المؤرخين الأوروبيين لاحقا أنها كانت في جنوب شبه الجزيرة الأيبيرية، أي البرتغال وإسبانيا.
تاريخيا، تقول المعلومات المتوافرة إن بلاد السفرجل الأصلية أو موطنه هي بين منطقة بحر قزوين والبحر الأسود والمناطق الجبلية في القوقاز التي تطال تركيا وإيران وجنوب جورجيا. ومع هذا فإن استغلاله وزراعته على نطاق واسع، كان في بلاد ما بين النهرين (Mesopotamia) في القرن الأول قبل الميلاد. ومن هناك وصل إلى فلسطين وأخذه أهل اليونان لزراعته خلال زياراتهم للشرق. ولا يزال الكثير من المؤرخين يجادلون بأن الفاكهة التي أكلتها حواء في جنة عدن لم تكن تفاحة بل رمانة أو سفرجلة. وبعد الصراع بين العرب والمسلمين والإمبراطورية البيزنطية في القرن الثامن، وانتقال العاصمة من دمشق إلى بغداد، عرف العرب الكثير من المنتوجات نتيجة الازدهار الذي شهدته المدينة. فبينما كان البعض يجلب إلى بغداد القرفة من الصين كان البعض الآخر يجلب جوز الهند من الهند والسفرجل والزعفران والتفاح والملح من بلاد فارس وبالتحديد من أصفهان. وكان الملك شارلمان في فرنسا كما يبدو مسؤولا عن دخول السفرجل إلى البلاد وزراعته في الحدائق الملكية عام 812 بأوامر منه شخصيا. وفي القرن الثامن عشر انتشر السفرجل بكثرة في أستراليا ونيوزيلاندا، ويبدو أنه جاء إلى هاتين المستعمرتين الجديدتين آنذاك عبر البضائع التي كانت تصل من بريطانيا وربما الهند والصين واليابان.
وأوصل الإنجليز كما يبدو السفرجل إلى العالم الجديد، إلى الولايات المتحدة الأميركية عام 1629 في خليج ماسيتشوسيتس، ثم انتشر لاحقا في ولاية فرجينيا واعتاد الأميركيون بعدها على طعمه الحلو والمز والقاسي في الوقت نفسه. ومنها اتجه غربا في اتجاه تاكساس عام 1850، حيث كان الناس يرغبون في امتلاك شجر الفاكهة في حدائقهم وخصوصا التفاح والرمان والتين والدراقن والخوخ والسفرجل.
وكان نجاح السفرجل في بعض دول أميركا اللاتينية جنوبا أكبر، كما يبدو، وذكر وجوده الإسبان في التشيلي في القرن التاسع عشر، الذين قالوا إنه يصبح حلوا طيب المذاق إذا ما ترك ينضج على شجره أو على «أمه». وربما نتيجة هذا الطعم الحلو أحبه الناس في أميركا اللاتينية، مع أن أهل المكسيك يجدونه قويا ومزا ولكنهم اعتادوا عليه منذ زمن طويل على هذه الحال. على أي حال فإن إنتاج السفرجل في الولايات المتحدة تراجع كثيرا منذ سنوات ولا تزال مناطق زراعته وإنتاجه الرئيسية هي تركيا وإيران وأميركا اللاتينية ومنطقة الشرق الأوسط بشكل عام حيث يعتبر جزءا لا يتجزأ من الفاكهة المحلية.
مهما يكن، فإن للفاكهة المفيدة جدا للصحة، كجميع أنواع الخضار والفاكهة، استخدامات عدة، منها صناعة المربى والـ«جلي» وشتى أنواع الحلويات. وأحيانا يضاف إلى بعض أنواع المربى لتحسين طعمها وتزكيتها. ويقال إن كلمة «مارمالاد» (Marmalade) التي تعني «مربى» في الفرنسية والإنجليزية وبعض اللغات الأخرى، جاءت من كلمة «مارميلو» البرتغالية التي تعني في الأصل «مربى السفرجل». وكان البرتغاليون من عشاق السفرجل إلى درجة أن صنعوا منه الخمر والنبيذ. كما يمكن تقشير السفرجل وشيّه وطبخه. ويستخدم الألمان عصيره ويحبونه كثيرا.
أما في البلدان العربية وتركيا وإيران فيستخدم في الطبخ ومجففا وللحلوى ولمختلف أنواع العلاجات الطبية. ويكثر السفرجل في جنوب أوروبا كما سبق أن ذكرنا، وفي دول البلقان يصنعون منه «الكونياك»، وعند ولادة الطفل في كرواتيا وسلوفينيا يلجأ الأهل إلى زرع شجرة سفرجل، حيث ترمز إلى الخصوبة والحب والحياة، أخذا عن الإغريق.
وفي مالطا يستخدم كثيرا كمربى ويتم تذويب خليطه الحلو في المياه المعلبة لعلاج بعض العلل. وفي لبنان أيضا يستخدم كمربى وفي سورية أيضا لكن في سورية يطبخ مع الرمان واللحم والكبة أحيانا ويطلق عليها «كبة سفرجل». وفي إيران يطبخ ويؤكل طازجا وكحلوى وغيره، وتستخدم بذوره لعلاج أمراض الصدر كما هو الحال في أفغانستان. ويغليه الباكستانيون مع السكر حتى يصبح لونه أحمر ويطلقون عليه اسم «مربى». وفي أميركا اللاتينية، حيث يطلقون عليه اسم «مامبريلو» بالإسبانية، يستخدم ويزرع في الكثير من البلدان مثل فنزويلا والأرجنتين والتشيلي واليوراغواي والمكسيك. ويستخدمون مربى السفرجل في أميركا اللاتينية أحيانا في الساندويتشات مع الجبنة ويطلقون عليه اسم «Dulce de membrillo».
على أي حال، فإن السفرجل من أنواع الفاكهة الفاخرة والمهمة التي لا يمكن لبعض الشعوب الاستغناء عنها في مطبخهم المحلي. ولجمال هذه الفاكهة أو الثمرة ولونها الأصفر المخملي الصلب، دخلت التاريخ والأسطورة وأصبحت جزءا من التراث الشعبي للكثير من الشعوب والأمم، إلى درجة أن أطفال الكاريبي يستخدمونها أحيانا في ألعابهم اليومية.
تعليقات: