مياه الشفة في الضاحية الجنوبية بين الندرة والتلوث والملوحة

تدمير البنية التحتية في الضاحية... سبب إضافي لتلوث المياه(م.ع.م.)
تدمير البنية التحتية في الضاحية... سبب إضافي لتلوث المياه(م.ع.م.)


«أنا أسكن في الضاحية مع عائلتي منذ عشرين سنة تقريباً، استخدم مياه البئر المالحة التي حفرناها للاستخدام اليومي، وأشتري من المحل قرب بيتنا مياه الشرب، يقولون إنها صحية ومعقمة... أنا لا أعرف إن كانت كذلك بالفعل، أنا مضطر لشرائها، لا حل آخر عندي... ما أعرفه هو أنني أدفع مقابل ذلك فاتورة سنوية عالية، دون أن يلتفت أحد إلى لزوم حل هذه المشكلة بشكل جذري».

هذه هي حال محمد تحفة القاطن في منطقة بئر العبد، كما هي حال آلاف الناس القاطنين على مقربة من بيروت المدينة.

من الآن وحتى إشعار آخر، بإمكان سكان الضاحية الجنوبية الاستمرار في شراء مياه الشفة، كما أن بإمكانهم الاستمرار بحفر الآبار!

25 ألف م3 من المياه يومياً ..

والحاجة الى 68 ألف م3!

باستثناء بعض الأحياء الواقعة ضمن بلدية الغبيري التي تصلها مياه مصلحة بيروت، وباستثناء بعض أحياء برج البراجنة التي تصلها مياه مصلحة عين الدلبة، لا يوجد مصدر للمياه في الأحياء التي جهدت البلديات لتجهيزها بالشبكات.

فالمصلحتان تؤمنان ما نسبته 26٪ فقط من احتياجات المياه للضاحية الجنوبية، حيث تقدر الكمية الواصلة يومياً بـ 25 ألف م3 فقط، وذلك بالرغم من الإصلاحات الكثيرة التي طرأت على الشبكة وآبار التغذية لخط عين الدلبة، في حين أن حاجات الاستهلاك تقدر بما لا يقل عن 67.5 ألف م3 يومياً على أساس 150 ليتر/فرد، وهذا يعني أن باقي الكميات المطلوبة لسد احتياجات الضاحية من المياه لا تزال تؤمَّن بعد عقد ونصف العقد على عملية تطبيق الإنماء المتوازن في كل المناطق اللبنانية، عبر الصهاريج الثابتة والمتنقلة أو عبر الآبار المنتشرة بكثرة والتي أثبتت التحاليل أنها ملوثة بمعظمها وأنها تشكل خطراً كبيراً على الصحة العامة.

والضاحية الجنوبية الممتدة على مساحة تجاوزت مساحة بيروت الإدارية حتى وصلت إلى حدود 27 كلم,2 تستمر باستيعاب المزيد من السكان النازحين من الأرياف، وقد بلغت التقديرات الأولية للمقيمين فيها بحوالى 750 ألف نسمة، وهي لا تزال دون شبكة أصلاً في أحياء مثل حي السلم، الاوزاعي، الرمل العالي، والشويفات، علماً أن قسماً من الشبكة التي كانت البلديات قد نفذتها قد تضررت بشكل واسع خلال العدوان الإسرائيلي الأخير في تموز .2006 وكما أن أهلها يشكون من نوعية المياه، فإنهم يشكون كذلك من اختلاطها المتكرر بمياه الصرف الصحي في الشبكات المهترئة ما يمنع السكان من الاستخدام الآمن للمياه الواصلة.

وتشير الدراسات التي قام بها برنامج الأمم المتحدة للبيئة عام ,2001 إلى عينة من المياه الجوفية في منطقة حارة حريك أنها تحتوي على ثلاثة أضعاف كمية البورن و34 ضعف كمية الصوديوم المسموح به وفق منظمة الصحة العالمية، أما بعد عدوان تموز فقد أظهرت دراسات جديدة قام بها البرنامج عام ,2007 وجود تلوث برازي من المياه المبتذلة المتسربة من أنابيب الصرف الصحي المدمرة، قدرت بما يزيد عن 130 ألف ضعف عن النسبة المسموح بها عالمياً، ما يعني وجود مشكلة جدّية بيئية وصحيّة تعانيها المنطقة لناحية نوعية مياه الشرب ومياه الآبار الارتوازية التي تستعمل في الاستخدام المنزلي.

أين أصبح مشروع جر المياه الآمنة إلى الضاحية؟

لا يزال مشروع جر مياه الشفة من بسري على نهر الأولي، إلى بيروت وضواحيها هو المشروع الأبرز بين المشاريع التي يتم التداول بها، كونه يمكن أن يؤمن جر ما بين 50 ـ 90 مليون م3 من خلال سد يتسع لحوالى 130 مليون م3 بتكاليف يمكن أن تصل إلى 500 مليون$. بالرغم من الأهمية القصوى لهذا الاقتراح، الا انه ليس حلاً مستحدثاً. فقد كان من بين المشاريع القديمة ـ الجديدة التي أعيد طرحها بعد الحرب الأهلية مع خطة النهوض الاقتصادية عام .1992 وهو كذلك من بين المشاريع التي أعيد تحديث دراساتها أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة، وقد تبين أن موقع السد يقع عند الفالق الزلزالي: فالق روم ـ أنان، الأمر الذي يمكن أن يهدد مناطق سكنية بكاملها بالطوفان في حال تعرض السد لزلزال قوي، وفي حال لم تتخذ كافة الإجراءات المناسبة لجهة التدعيم المطلوب لإنشاءات هذا السد.

الحل الثاني الذي كان يتم التداول به يتعلق بجر المياه عن طريق إقامة سد على نهر الدامور، الأمر الذي يمكنه أن يوفر كامل المواصفات السابقة المطلوبة بتكاليف أقل وبجدوى أفضل، إذ بإمكانه تخزين 110 مليون م3 بتكلفة تصل لنحو 175 مليون $، مع توفير كميات إضافية للري لقرى في قضاء الشوف لا تستفيد حالياً من مياه النهر، فضلاً عن تأمين مياه الشرب لبلدات في قضاء الشوف وإقليم الخروب.

مشاريع ـ مقترحات ملحة ...

بانتظار الحلول

وفي انتظار تنفيذ حل مستدام ونهائي لمشكلة المياه الصحية في الضاحية الجنوبية، ما يسمح بتوفير مبالغ يصل حدها الأدنى الى نحو 45 مليون دولار سنوياً من تكاليف الفاتورة الصحية الناتجة عن تلويث مياه الشرب والمياه المعبأة في بيروت والضواحي، (استناداً لدراسة قام بها فريق من باحثي الجامعة الأميركية عام 2003)، يفترض القيام بعدد من المشاريع الحيوية التي تشكل رافداً أساسياً لكل ما يتعلق بالمياه في منطقة الضاحية ومنها:

ـ إعادة درس قانون تنظيم بيع مياه الشفة للمستهلكين، وذلك بعد مراجعة كافة المعايير التي تكفل الصحة العامة واستدامة المياه التي يتم سحبها من الآبار الجوفية دون رقابة، مع العلم أن مشروع القانون هذا يزال في اللجان النيابية منذ عام .2004

ـ إنشاء محطة تعقيم في منطقة المريجة وتعقيم مياه الآبار الموجودة والمستعملة ثم ضخها الى خزان يتم إنشاؤه في منطقة المريجة نفسها، ويضاف الى ذلك كله ضرورة معالجة التسرب في شبكات التوزيع القديمة، ومعالجة موضوع الاعتداءات على الشبكة العامة.

ـ إعداد آلية لتطبيق الدراسات حول التعرفة الجديدة لمياه الشرب والري التي لا تزال قيد البحث في الإدارات المعنية، بحيث تضمن إلغاء التكاليف المقطوعة التي يتكبدها المواطن جراء كميات قد لا يكون معنياً بصرفها، وكذلك تضمن تطبيق ترشيد استهلاك المياه في المواقع المناسبة فقط.

ـ دراسة إنشاء أحواض مائية مفتوحة القعر لحصر وإعادة تغذية الخزانات الجوفية بمياه الأمطار، الأمر الذي سيساهم بصورة مثالية في خفض ملوحة المياه الجوفية الناتجة عن تداخل مياه الآبار مع مياه البحر.

لقد اصبح من الملحّ مع بداية فصل الصيف إعلان حالة طوارئ مائية ـ بيئية، يفترض فيها أن تجيب على أسئلة كثيرة وخطيرة، إذ مَن المعني من وزارات ونواب وبلديات وفعاليات بالالتفات إلى خطورة تلوث المياه الجوفية وازدياد ملوحتها؟ ومن المعني بلجم الفاتورة الصحية الناتجة عن أمراض متعلقة بمياه مستخدمة غير صالحة؟ وهل من يلتفت ليدق ناقوس الخطر حول تراجع كمية المياه ليبحث عن تأمين الاستدامة؟ وهل من يجيب الناس في الضاحية عن تساؤل مهم حول من يراقب تعقيم المــياه ولـماذا لا يثقون بمياه عين الدلبة فلا يستخدمونها للشرب؟ أسئلة تبحث عن إجابات.

تعليقات: