أن ترتفع ناطحات السحاب لتحاكي السماء علوّاَ وارتفاعا !, وتزدحم الأسواق بإبداعات العقل البشري ,آلات ومعدات ,ووسائل إتصال تجعل الحياة أكثر سهولة ومرونة , أن يصبح القلم الكترونياَ والكتاب رقمياَ والعالم قرية كونية , لا بأس ولا ضير ولا اعتراض ..
يملك الإنسان عقلاَ , والعقل نفخٌ من روح الله , هو مركز التصور والتركيب , ونقطة البدء لكلِّ خير وجمال , العقل أرض خصبة إذا أًحسن الإعتناء بها جادت وآتت أكلها , وإذا أهملت تحوّلت إلى صحراء قاحلة ليس فيها إلا الموات ..
التنمية الموازنة هي التي تساوي بين اتجاهين اثنين يسلكهما العقل , الأول ماديٌ صرف , والثاني معنويٌ إعتباريّ .
والإختلال الذي نعاينه في هذا العصر مردّه إلى غياب المواءمة المطلوبة ففي الوقت الذي يولي فيه البشر الإهتمام الكليّ لتطويع العقل وتوظيفه في المصنع والمنجم , والشخوص نحو الكواكب والأجرام , نراهم يزهدون في تخصيب العقل بالمعارف والمبادئ التي تغذيه وتساعده على التحليق في أفق الإنسانية المثلى .
إنّ الذي يبعث في النفس الحسرة والألم , ويولّد شعوراَ بالخيبة ,هو الإجترار الخطير والتقليد الأعمى للآخر المباين , والذي لم يعد محصوراَ في دائرة الماديات ,وإنما تجاوزه إلى المخزون القيميّ الحاضن لإحتياطي الصمود والمناعة أمام موجات التغريب والتشريق الوافدة من كل اتجاه .
ولكي نسميّ الأمور بأسمائها دفعا للتأويل , يجدر التصريح بأن البيئة الإسلامية تواجه خطراَ كبيراَ , خصوصاَ وأنها تعاني تآكلا داخلياً مردّه إلى ضعف الخطاب الديني وقصوره عن مواكبة تطوّر الوعي في الذهنية المعاصرة من جهة , وذهابه باتجاه تعصبيّ إنعزالي يسجن أتباعه في قمقمه, ويوصد المنافذ أمام مريديه من جهة أخرى , إنَّ البيئة الإسلامية تعاني من ضعف في المناعة ما يجعلها عرضة لتلقّي الكثير من الأوبئة والإعتلالات الفكرية الغريبة عن جسمها وطبيعتها , وهذا ما نعاينه بوضوح في الكثير من المجتمعات الإسلامية , حيث نلحظ حالة تذبذبٍ يعيشها الشباب المسلم تؤدّي به إلى الإستسلام للعدوى المرضية والتعايش معها كأمرٍ واقع .
وللقارئ طرح علامات إستفهام حول الحلول الممكنة والإجراءات الطارئة المانعة من إستفحال العدوى وتحوّلها إلى مرض مميت , و العلاج يكمن بالتنمية العقلية المسبوقة بالتخطيط والرصد, والدراسة الميدانية للبيئة لتلّمس نقاط الضعف والخلل , وشرط الوصول إلى نتائج في هذا المجال منوط بمستوى الإستعداد والجهوزية عند المسؤولين , كذلك بتوظيف الإمكانات اللازمة التي تحوّل التنمية المعرفية إلى مشروع كبير يعتمد على المأسسة والتنظيم ,و باختيار الأكفّاء من العلماء والمربّين المسلمين الذين باستطاعتهم التحرّر من الأنوية الذاتية والجغرافية , ومن لديهم الكفاءة في تقديم الإسلام كرسالة سماوية تعترف بالعلم وتتبناه وتنطلق منه في مجال التشريع والقوننة , كذلك لا تخفى الحاجة إلى التواصل المباشر والميداني مع الشرائح الشبابية والخروج من الأبراج الوهمية التي يبنيها الدعاة لأنفسهم , وإعتماد الخطاب اللين المحبّب إلى الآذان والمؤثر في النفوس .
إنَّ التذرع بضعف الإمكانات إدّعاء واهٍ تفنّده الأرقام الخيالية للإستثمارات اللهوية التي يغذيها ويرفدها كمّ من رجالات الأعمال العرب والمسلمين والحديث عن صعوبات وعوائق مفترضة ما هو إلا تهربٌ من المسؤولية وتواطؤ مكشوف يُبتغى من ورائه الإبقاء على حالة التسرّب الإنتمائي المتزايدة في الوسط الشبابي .
إنَّ مسؤولية الحكومات والأنظمة تكمن في الشراكة الحقيقية في مشروع التحصين والتوعية , وليس كافياَ الدور الرعائي المعهود للسلطات الماسكة بزمام الأمور, والقادرة بما لديها من إمكانات وأيدي مبسوطة من تسجيل تقدّم واضح في دعم الحركة المعرفية الموازنة .
الحاجة الحقيقة لتوفّر المعاول البنّاءة والأيدي المتشابكة لإنتشال الأجيال المسلمة من مستنقعات التغرّب والإرتداد .. تمهيداَ لانطلاق ورشة إصلاحية تأخذ بيد الطاقات الشبابية وتعيدها إلى أحضان الإسلام الأصيل.
الشيخ محمد قانصو
كاتب وباحث إسلامي
لبنان
تعليقات: