عذراً يا أمِّي.. من قَدرٍ أُميٍّ..


لا زلت أذكر ارتعاش القلم بين أصابعكِ الجميلة.. حين تقرّر يوما أن تكتبي اسمك على وثيقة رسمية.. استوقفني حينها إصرارك الرائع على رفض البصمة، وكأنك تعلنين رفضاً لأميّة صبغت قدراً لمجتمعٍ أمي ّ..

يومها يا أمي.. تلألأ الفرح الممزوج بحزنٍ عميقٍ في عينيك الوادعتين.. وهمهمت شفاهُكِ بهمسِ حروفٍ لم تعرفيها, ولم تدركي حين التقت عيناك بتلكم الحروف أنّها اختصارٌ لمسمّى وجودك..

وبارتجافٍ ملؤه العزيمة أكملتِ رسم الحروف.. وحين انتهيتِ علا وجنتيك حياء الطفولة.. وكأني أراك على مقاعد الدراسة الأولى.. تتأبطين محفظةً قماشيةً تحتضن قلماً ووريقات.. ولفافة خبزٍ صغيرةٍ ملونةٍ بالزعتر البلدي زينتها يدا أمكِ الحنون..

أذكر يا أمّاه.. حين سمعتك تلومين والدك بسخط المحبِّ وعتاب المحقِّ..وحين قلت لي :"كانوا يعلمّون الصبيان دون البنات خوفاً عليهن ؟!, "البنت إذا تعلّمت تكتب رسالةً لحبيبها ".. ويا له من خوفٍ إفتراضي يعيدنا إلى صحراء مكة، إلى مقبرة الأنوثة، يوم كانت الأنوثة عارا، ومبعث حزن مقيت..

مفارقةٌ كبيرةٌ بين زمانٍ يتبجّح بالعزّى ويحني العقل أمام أحجار الصنم.. وزمنٍ يتطاول خُيلاء منتصراً للقلم.. ولكن أين أنتِ بين هذا وذاك ؟..

حريّ بقلبي أن يتفطّر حزناً حين أراك تمرين بين سطور الكلمات.. ولا تستوقفك القصائد.. أو تقلّبين الصفحات ولا تدركين المقاصد..

يا أجمل الضحايا في زمن الغباء.. هل نستنسخ ضعفنا لنولّد من حزنك ألف نسخة؟! أم نحمل بأيد الخلاص مشاعل النور ونعبر كهوف الصمت..

أترى سندرك أن القيمة للإنسان، وأنه محور الوجود؟!.. وأن صناعة العقول أقدس الصناعات..

يا أمي المرأة.. من وجع الأميّة التي حملتِه لسنواتٍ طوال.. وبحسرةٍ ستحملينه حتى النهاية..

أستصرخُ الضمائر الحيّة.. الغيارى على أجيالهم وأوطانهم.. حرّروا عقولكم من براثن الموروث..

ولتعلموا أنَّ المعرفة هواءٌ حقٌ للمرأة أن تتنفسه..

* الشيخ محمد قانصو

كاتب وباحث لبناني

تعليقات: