الشيخ إمام عيسى
إذا الشمس غرقت في بحر الغمام...
في 7 حزيران (يونيو) مرّت الذكرى الخامسة عشرة لغياب المغنّي المصري الشهير الذي شكّل ظاهرة فريدة في تاريخ الموسيقى العربيّة والأغنية الملتزمة. ماذا يبقى اليوم من أغنيات رافقت تبلور الوعي لدى جيل كامل، وردّدها عشرات الآلاف في الجامعات والتظاهرات والخنادق؟
القاهرة ــــ
لم يدخل الشيخ إمام عيسى (1918 ــــ 1995) متحف التاريخ. فالهزيمة التي غنى لها، صارت هزائم. والزنازين صارت بحجم الوطن، وأصبح السجن فعلياً «مطرح الجنينة». هكذا لم تصبح أغنيات الشيخ «تراثاً» ينبغى إحياؤه... ليس فقط لأن قصيدته السياسية عبرت بقوة عن وطن «يتحلل» وما زال، بل لأنّ ألحان الشيخ ــــ بمعزل عن خطابها ــــ تستحق الاهتمام لاعتبارات فنيّة تتجاوز شهرتها السياسية.
الشيخ إمام الذي مرّت قبل أيام (7 يونيو) الذكرى الـ15 على رحيله، كتب عنه المفكر الراحل فؤاد زكريا ذات مرّة، أنّ «وسائله في الموسيقى بسيطة إلى أبعد حد: عود يعزف عليه هو نفسه، ورق يعزف عليه ضابط الإيقاع. ومع هذا فهو في حدود هذه الإمكانيات البسيطة يقترب من هدف المزج بين معنى الكلمة ونوع اللحن، إلى حد يفوق فيه كل من عداه من الملحنين». زكريا اعتبر أن الشيخ «ظاهرة لها سماتها الفريدة. يجمع بين صفة الفنان وصفة الخطيب السياسي والناقد الاجتماعي الساخر. إنه باختصار يقدم نوعاً من الأداء يتخطى الحواجز التي ألفناها بين الفنون، بل بين الخيال الفني والواقع الفعلي للناس». أما الدكتور حسن حنفي، فاعتبر ألحان الشيخ «غير تقليدية. ألحاناً شعبية أصيلة إذ تكون الأصالة بقدر ما يرتبط اللحن بالأرض وبالتراث».
تلك الآراء وغيرها، جاءت في سياق معركة صاخبة بين المثقفين في مصر ــــ يمكن أن نسمّيها «معركة الشيخ إمام » ــــ بعدما حاول بعضهم تشويه صورة المغنّي الضرير وتاريخه، خدمةً للسلطة التي طالما انتقدها، ولم تتغيّر، بل ازدادت بطشاً وفساداً بعد كل هذه السنوات على رحيله. لكن الشيخ انتصر في النهاية.
إمام كان عصياً على التصنيف، يهرب دوماً من الأنماط الجاهزة. منذ طفولته، حفظ القرآن وترك قريته الصغيرة أبو النمرس (محافظة الجيزة) متجهاً إلى المدينة الكبيرة، كي يتعلّم تجويد القرآن. هناك، التقى الشيخ محمد رفعت الذي استمع إليه وتنبأ له بأنه سيكون له «شأن عظيم». التحق إمام بالجمعية الشرعية التي كانت تحرّم الاستماع إلى الراديو، حتى ولو كان ما يذاع قرآناً. لكن إمام عيسى ضبط متلبساً بالاستماع إلى الشيخ رفعت، ففصل من الجمعية.
الجماعة دول مش حيخرجوا من السجن طول ما انا عايش (جمال عبد الناصر)
هكذا أصبح بلا مأوى، فأقام في الجامع الأزهر. ثم قادته المصادفة إلى «حوش آدم» الذي لم يتركه حتى رحيله. هناك تفجرت مواهبه الموسيقية. التقى بالشيخ درويش الحريري، وعندما عرف أنه أستاذ محمد عبد الوهاب وزكريا أحمد، لم يعد يتركه. تعلّم على يده النغمات وأصولها، والمقامات وأصول الموسيقى، ثم العزف على العود وبدأ يمارس الغناء كمحترف. وفي إحدى ليالي عام 1962، تعرّف إلى شاعر شاب خرج لتوه من السجن اسمه أحمد فؤاد نجم الملقّب بـ«الفاجومي»، وكان إمام يغني لزكريا أحمد. فسأله نجم: لماذا لا تغني من ألحانك؟ فأجابه: لا أجد الكلمة التي أقتنع بها. فكتب نجم له عدداً من الأغنيات العاطفية التي طبعت بداية مسيرتهما المشتركة بينها «أنا أتوب عن حبك»، و«ساعة العصاري»، و«عشق الصبايا».
لكن نكسة 67 رسّخت تجربة الثنائي على دروب فنيّة وسياسيّة جديدة. كتب نجم لإمام أغنيات ستحفر في وجدان معاصريهما، وسترددها أجيال متعاقبة على امتداد العالم العربي. غنى إمام «الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا يا محلا رجعة ظباطنا من خط النار/ يا أرض مصر المحمية بالحرامية الفول كتير والطعمية والبر عمار». وكانت هذه الأغنيات تتجاوب بشدة مع التظاهرات الطلابية العارمة التي اجتاحت البلاد. ثم كانت «ناح النواح والنواحة على بقرة حاحا النطاحة/ والبقرة حلوب، تحلب قنطار/ لكن مسلوب من أهل الدار»... أغنية «بقرة حاحا» كانت أول اشتباك مع السلطة، وأول هجوم صريح على عبد الناصر. احتشد المثقفون للاستماع إلى النغمة الجديدة المختلفة في الشعر والغناء. وهو الأمر الذي لفت السلطة إليهما، ولم تفلح محاولاتها في شراء الشاعر الفاجومي والمغني الضرير. بدأت أغنياتهما تنتشر، وكانت أقسى هجاء لمرحلة عبد الناصر، اقترح بعضهم اعتقال الثنائي، وقال آخر «إنها صرخة جوع»، فإذا ما أتخما بالنقود فسيلزمان الصمت.
الشيخ إمام عيسى كما تصوّره الفنان المصري عادل السيويالشيخ إمام عيسى كما تصوّره الفنان المصري عادل السيويهكذا بدأت السلطة بسلاح الترغيب. زارهما مدير صوت العرب طالباً أن يغنيا فى الإذاعة، وأخرج لكل منهما 10 آلاف جنيه. رأى إمام ونجم أن في الأمر محاولة «رشوة» واضحة، وواصلا غناءهما النقدي والاحتجاجي. فما كان من السلطة سوى تلفيق قضية مخدارت ضدّهما. لكن القاضي تعاطف معهما وأصدر قراراً بالإفراج عنهما، فيما أصدرت الداخلية قرارها بالاعتقال.
لم تنفع الوساطات المتعددة من شخصيات بارزة للإفراج عن إمام ونجم... بين تلك الشخصيات الأمين العام للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين نايف حواتمه الذي قال له عبد الناصر: «الجماعة دول مش حيخرجوا من السجن طول ما انا عايش». وهو الموقف نفسه الذي اتخذه السادات لاحقاً، وخصوصاً بعد سياسة الانفتاح التي كان إمام ونجم من أبرز منتقديها والساخرين منها ومن عهد السادات «شحاتة المعسّل» كما لقبه نجم في إحدى أغنياته.
في الثمانينيات، كانت شهرة إمام قد طافت الآفاق، ومارس الوزير الفرنسي الاشتراكي في عهد ميتران ضغطاً على النظام المصري لفك الحصار عنهما. صار بإمكان الثنائي الأسطوري أن يسافر، فزار باريس (حفلة الأماندييه الشهيرة التي صدرت في أسطوانة، وصوّرتها السينمائيّة الراحلة رندا الشهّال)، وغنّى في عدد من المدن العربية مشرقاً ومغرباً. وقد عرضت وزارة الثقافة الفرنسيّة على الشيخ إمام ورفيقه «الفاجومي» البقاء في باريس لتسجيل مجموعة أسطوانات. لكن «صيغة اللجوء السياسي» لم تكن لتناسبهما على الإطلاق. وواصل الثنائي الأسطوري مسيرته التي أدّت إلى طلاق بين الشاعر والمغنّي أحزن عشرات آلاف المحبين. في منتصف التسعينيات، رحل إمام لكن بقيت ألحانه وحكايته: «أهي الحكاية مخلصتش، ومصر بتصحى وشغلك محفوظ عند الناس، ولا تخاف عليه»، قال «الفاجومي» في رثاء رفيق المسيرة الفريدة التي ما زالت تسكن الأفئدة والضمائر...
«عم إمام»، سوّاح في بْلاد الـ «يوتيوب»
القاهرة ــــ محمد خير
قد لا يكون الشيخ إمام قد سمع بالكومبيوتر أبداً. الشبكة العنكبوتيّة بدورها كانت لا تزال شيئاً غامضاً عند رحيله. في لقاء افتراضي مع «عم إمام» في العالم الآخر، سنحتاج جهداً كبيراً لنشرح له شعبيته الكبيرة على الإنترنت. فقد تحوّل «يوتيوب» ــــ تلفزيون المستقبل ــــ إلى مرآة لتراث بدّدته السلطات ووسائل الإعلام المهيمنة. ولئن ظلّت أغنيات إمام ممنوعة في معظم العالم العربي، وخصوصاً في بلده، ها هي المبادرات الفرديّة على الإنترنت تعيدها إلى الوجود.
ثمّة سر غامض يجعل تلك الأغنيات عابرةً للزمن. ليس كلماتها «الفاجومية» فحسب، بل سحرٌ خاص في ألحانها وصوت مؤديها «المشايخي». صوت تسهل نسبته إلى مدارس شيوخ التلاوة القرآنية والتواشيح، مع قرابته الواضحة من أصوات مثل زكريا أحمد وسيد مكاوي. الأول تبنّى إمام في فرقته قبل أن يطرده منها، والثاني قيل إنّ إمام علّمه قبل أن ينكره تلميذه. لكنّ إمام استقى الأصول الموسيقية من الشيخ درويش الحريري. من تحت عباءة هذا الأخير، خرج سيد درويش ومحمد عبد الوهاب ورياض السنباطي. لم يتعلم إمام من الحريري أصول الموسيقى فقط، بل أيضاً الانحياز المطلق للمدرسة الشرقية في التلحين، بخلاف تيار تغريبي كان زعيمه عبد الوهاب.
ظلّت أغنياته ممنوعة في مصر ومعظم العالم العربي
يصعب مقارنة الشيخ إمام كموسيقيّ، بأسماء أولئك العمالقة. ذلك أنّ صاحب «يا فلسطينية» لم يقدم نفسه يوماً كحالة موسيقية بحتة. هو حالة جمعت اللحن بالكلمات المعبّرة عن أشواق لحظة تاريخية. وقبل ذلك وبعده، هو إرادة دفعت ثمن تمثيلها لتلك الأشواق سجناً واعتقالاً وجوعاً. هكذا، سكن في واحد من أفقر أحياء القاهرة، «حوش قدم»، بعدما وصله قادماً من الريف وهو في السادسة عشرة، وعاش فيه حتى رحيله عن 77 عاماً. ستة عقود أمضاها إمام في حارة واحدة. أمّا شهرته فلم تبدأ إلا بعد النكسة. أي إنّه بدأ حياته كما نعرفها وهو في الخمسين. ومنذ ذلك الحين، أقام علاقة وطيدة مع السجون المصريّة، حتى بعد اغتيال السادات. إمام الذي طرد طفلاً من الدراسة في الجمعية الشرعية لأنه ضبط يستمع إلى الراديو في المقهى، لم يكن يستمع يومها سوى إلى تلاوة الشيخ محمد رفعت.
التلاوة التي تعلم أصولها أثناء الدراسة، والمقامات الشرقية والموشحات التي تعلّمها من الشيخ الحريري، وعزف العود الذي تعلمه على يد كامل الحمصاني... زد على كلّ ذلك أصوله الريفيّة، وتشرّده في الشوارع، وسنوات صحبته للمشايخ والفقهاء والعمل في بطانة زكريا أحمد... تخرج بتفسير محتمل لما تكتنفه أعمال الشيخ من مخزون موسيقي وحياتي هائل.
قد لا يكون الشيخ إمام في نظر بعضهم موسيقياً عظيماً، لكنّ خفة ظلّه، وفهمه للحن التعبيري، إضافةً إلى الروح التي مثّلها والكلمات التي تغنى بها، منحت تجربته ثقلاً لم يخفت في زمن الـ «يوتيوب».
الأغنية الملتزمة... هل باتت ترفاً؟
من «غيفارا مات» إلى «أنا بكره إسرائيل»
بعد السبعينيات والثمانينيات، اغتربت الأغنية السياسيّة عن الواقع. التجارب في فلسطين ومصر ولبنان تنفصل غالباً عن مزاج الشارع
هالة نهرا
الشارع الذي لطالما حرّكه صوت الشيخ إمام، لم تعد تخاطبه الأغنية الملتزمة. في ظلّ تغيّر المعطيات السياسية والأذواق الفنيّة، يبدو السؤال عن معنى الأغنية الملتزمة اليوم ضرورياً. وضع هذه الأغنية يشبه حالة المجتمع العربي الممزّق. معظم المستمرّين في إنتاجها منسلّون من مناخ اليسار، المدافع عن القضيّة الفلسطينيّة (زياد الرحباني ومرسيل خليفة وخالد الهبر وأحمد قعبور وسامي حوّاط وسميح شقير...)... أمّا التجارب الشبابية الملتزمة، فخارجة من رحم الأغنية العربية المعاصرة والروك والراب.
خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية (أيلول/ سبتمبر 2000)، مثّل الراب استنكاراً صارخاً لممارسات الاحتلال الإسرائيلي. برزت في الأراضي المحتلّة فرق مثل «دام» (اللد)، و«أولاد الجنّة» (حيفا)، و«أبناء الغضب» (الضفّة الغربية)، و«جي تاون» (القدس). مع «كتيبة 5» وسواها انتشر الراب الفلسطيني أيضاً في المخيّمات في لبنان، ليعكس وطأة الصراع العربي الإسرائيلي على جيل بأكمله. ونجده يتطرّق إلى قضايا اجتماعية واقتصادية (حقوق المرأة والمخدّرات والفقر...).
لكنّ هذا النوع من «الغناء الملتزم»، هو في طبيعته غير قابل للتنغيم، باستثناء خلفيّته الموسيقية background. فهل يمكن إلحاقه بالأغنية الملتزمة، رغم أهمّية طروحاته؟ مؤدّوه يبالغون أحياناً في النطق المشدّد المنسوخ عن الراب الغربي. وإذا استثنينا معاني كلماته الثائرة، لا نجده يضيف خصوصية موسيقية عربية ما. في مجال الروك الفلسطيني،نشير إلى فرقة «مربّع» (غزّة) التي تتغنّى بالمقاومة والنصر. أمّا ألوان التراث والفولكلور وأغاني ريم بنّا وأمل مرقص وريم تلحمي، فتبيّن كلّها مدى التشبّث بالهوية العربية داخل الخطّ الأخضر.
يمكن أيّ أغنية متقنة وتجديدية أن تندرج في خانة الالتزام
في مصر، تعدّ أغاني شعبان عبد الرحيم الأكثر شعبيةً. فيما يتميّز علي الحجّار عن صاحب «أنا بكره إسرائيل» باحترافيّته وأصالته، رغم إسهابه في الزخرفة الصوتية. وقد ظهر أخيراً نمطٌ جديد من الأغنية الملتزمة، ينتصر لصورة وهمية تتناقض مع واقع النظام والمجتمع، وفق الباحثة المصرية سمحة الخولي. فـ«أغاني محمد منير لم تنبع من حسّ قومي صادق في زمن الخيبة»، ما أدّى إلى انفصام مرحلي بين الأغنية الملتزمة والشارع.
لعلّ تحوّل الأغنية الوطنية إلى موضة ينمّ عن ميل راهن إلى تسطيح الفن الملتزم. فعندما غنّت نانسي عجرم «لو سألتك إنت مصري تقولّي إيه»، اندفعت المصرية شيرين عبد الوهاب لتأدية «ما شْرِبْتش من نيلها». في لبنان، تتأرجح التجارب الشبابية بين الأغنية الجادّة والواعدة (غدي وأسامة الرحباني وبشّار خليفة وزياد سحّاب وريان الهبر) والاستهلاكية (عاصي الحلّاني وراغب علامة وزين العمر...). أما الأغنية السياسيّة، أو الأغنية الملتزمة، بالمعنى المقترن في العقود الماضية... فإنّها لم تتجدّد منذ زمن، وبعضنا ينتظر سدىً ولادتها الجديدة...
منذ رحيل الشيخ إمام، اجتهدت فِرَق عربية («إسكندريلا» وفرقة «الطمي» المسرحية مثلاً) في إحياء تراثه. بعد 15 عاماً على غياب صاحب «غيفارا مات»، لا بدّ من البحث عن دوافع هذه الاستعادة. رغم بروز بعض النماذج المضيئة، فإنّ الأغنيات السائدة لم تروِ عطش الجمهور. ما زال أعلام الأغنية الملتزمة السابقون يجسّدون روحها المتلفّفة بحقيقة الالتزام الفنّي. إنّه التزام تجاه الفنّ نفسه و«ليس التزاماً اجتماعياً»، وفق محمود درويش. فـ«النصّ الشعري وإن كان ينبع من الواقع، فإنّه يتأسّس جماليّاً، وليس أسير شروطه الخارجية». هذا ما ينطبق على الأغنية التي تؤدّي عناصرها الثلاثة (الشعر واللحن والمؤدّي) دوراً مهمّاً في إنجاحها. وقد يؤدّي أيّ اختلال في مقوّماتها إلى إضعافها. لذلك، فالتزام سيّد درويش والأخوين الرحباني وأم كلثوم ومحمّد عبد الوهاب والشيخ إمام ومرسيل خليفة وزياد الرحباني (وغيرهم) تجاه القيمة الفنيّة لأعمالهم، زوّد أغنياتهم بآفاق أخرى. انطلاقاً من هنا، يمكن أيّ أغنية متقنة وتجديدية أن تندرج في خانة الالتزام. لعلّ الالتزام الذي يتّسع ليشمل النزويّ والجسدي والرمزي والمجازي... لا ينتهي فقط عند الالتزام بالقضايا الطبقية والثورية والسياسيّة.
دمشق 1983: جيل الأحلام المؤجّلة
دمشق ـــ خليل صويلح
الثنائي أحمد فؤاد نجم والشيخ إمامالثنائي أحمد فؤاد نجم والشيخ إمامتلك الليلة من ربيع 1983، زحفنا إلى «صالة تشرين الرياضية» في دمشق، في أول لقاء مباشر مع الثنائي الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم. كان الزحام على أشدّه، فافترشنا أرض الصالة، بعدما غصت المقاعد بالجمهور. طلبة يساريون وشباب متحمسون لأغنية بديلة. هاجت القاعة لحظة ظهور الشيخ الضرير، والشاعر الصعلوك، في أغانٍ ثورية نفتقدها. كان الحصول على كاسيت بصوت هذا المغنيّ، كنزاً حقيقياً. لا تكتمل بهجة سهرة ما، في غرفة في مخيم اليرموك مثلاً، إلا بسماع أغاني الشيخ إمام. لم يكن التسجيل الرديء والمرتجل حائلاً أمام السمّيعة، فهم كانوا يرددون بأصواتهم المشروخة الأغاني نفسها بسطوة عرق الريّان... والأحلام المؤجلة إلى زمنٍ آخر. غادر الشيخ إمام دمشق بعد الحفلة، واستقر أحمد فؤاد نجم في الشام، ليؤسس لاحقاً فرقة «المسحراتي». لكنّ التجربة لم تدم طويلاً، فقد غرق الفاجومي في الجمال الدمشقي وبهجة «الكيف».
كان المغنّي السوري سميح شقير يتلمّس خطواته الأولى في تأصيل أغنية سياسية، في بلد يروّج لأغنية وطنية رسميّة، تبدو لازمة قسرية بعد كل نشرة أخبار إذاعية. ذهب هو الآخر إلى أغنية حماسيّة بخلطة ماركسية، حقّقت له حضوراً في الأوساط الشبابية. كان يخرج من حفلة في صالة «المركز الثقافي السوفياتي» آنذاك، محمولاً على الأكتاف، في منافسة معلنة مع بشار زرقان صاحب فرقة «المسحراتي». ثم أتت من جحيم العراق «فرقة الطريق» لحميد البصري، لتستقطب جمهوراً آخر، بأغانٍ شجيّة ومذاق آخر في جوار أغاني مرسيل خليفة، وخالد الهبر، وأحمد قعبور، و«فرقة ناس الغيوان» المغربية ذات النفحة الصوفية... إضافةً إلى كاسيتات عابرة للحدود تحمل توقيع عابد عازرية المقيم في باريس. نبحث اليوم عن أغاني تلك الحقبة في دكاكين الموسيقى، فلا نجدها بسهولة. وإذا كان هناك من يستمع إليها من جيل، وجد نفسه في أحضان أغاني شعبان عبد الرحيم كبديل ثوري (!)، فإن الأمر يصبّ في خانة الاختلاف والتمرّد المجاني، أمام خيبات وهزائم يومية، وعطالة مزمنة تجد تعبيراتها الحقيقية في أغاني الراي والهيب هوب، أو في نفحات من زياد الرحباني كمنطقة ملغومة على نحو آخر.
تعليقات: