التبغ والزيتون (الصور لـ: عباس سلمان)
مضى عام إذاً.
كانت شتلات التبغ قد يبست قبل قطافها. عادت خضراء مزهرة اليوم.
قطف ما تيسر من حبات الزيتون، وترك ما تبقى يذوي على أغصان الأشجار التي باتت محاطة بالقنابل العنقودية والألغام. عادت الشجرات المباركة حبلى بالثمار اليوم.
عصف الشتاء، دلفت مياه الأمطار من جدران المنازل المصدعة ومن الأبواب والشبابيك المشرعة قسراً.
أزيل الركام وبقيت المساحات الفارغة المستحدثة تنتظر من يعيد بناء الدار.
لكن الصقيع أحاط بالقرى من الجهات كلها. صقيع الشتاء، وصقيع النسيان.
استحدثت وسائل تدفئة بدائية، في الغرف التي بقيت سليمة من منازل المعارف والأقارب، وتكدس من حولها من بقي حياً من أفراد الأسر.
بطيئة ليالي الشتاء، وموحشة. قارصٌ برده في الغرف الغريبة. قارصٌ برد الشتاء بعد رحيل مَن رحل من الأحبة.
موحشة أيام الشتاء القصيرة. تجلس المسنات من النسوة القرفصاء عند زوايا الطرقات، في الشمس حين تظهر، ترقبن الشوارع، تدارين عمن تركن في المنزل دموعاً كثيرة. تسرحن مع ذكريات من مضوا ومع مخاوف المجهول الآتي.
موحشة كانت أيام الأعياد، عند مدافن الأحبة الكثر.
ثم أزهر اللوز مبكراً، على الرغم من كل شيء. هب الأخضر في التلال الحزينة، وتناثرت الأزهار في الأماكن كلها كما تفعل في كل عام.
لكنه لم يكن عاماً كسواه.
هذا العام الذي مضى هو عام استُهل بالدم والنار، وببطولات أبناء هذه الأرض.
هو عام يقفل على عودة الروح، وإن مصدّعة.
ما زالت صور الرعب تسكن أحلام لياليهم، ولكن ها هم أهل الأرض يعيدون بناء النفوس والبيوت والطرقات والمدارس والمستشفيات والجسور والمصانع. يعيدون زرع الحقول، يعيدون للأرض لونها. ينجح أولادهم في المدارس، ويتعافى مصابوم من الجراح، برغم الندوب.
هي الحياة تعود لتحتل الأماكن التي ما زالت تعبق برائحة الموت والخراب.
تعود الحياة لتنتصر، على الرغم من كل ما كان وما زال يحدث.
ليست الحياة ذاتها، لكنها حياة يحيك تفاصيلها أهل الجنوب وحدهم، كما اعتادوا دوماً.
أو أنهم ليسوا وحدهم تماماً هذه المرة. معهم، أصيب أبناء البقاع والشمال وضاحية بيروت الجنوبية.
قبل عام، عاث التخريب الإسرائيلي في الأرض والجو والبحر على امتداد مساحة الوطن.
لكن، لماذا يبدو هؤلاء اليوم وحدهم؟
هم لم ينسوا، ولن ينسوا.
لن ينسوا من مات منهم، ومن قاوم، ومن استقبلهم في نزوحهم القسري، ومن أدانهم وحمّلهم مسؤولية مصابهم، ومن أرسل المساعدات والشباب لإعانتهم على النهوض مجدداً.
ها هم يستعيدون ملامح الحياة برغم الغبن، والفجور الذي لم يعد يسعى أصحابه حتى إلى مواراته.
هنا، في مثل هذا الوقت من العام الماضي، مدنيون ومقاومون وأطباء ومسعفون وممرضون وجنود ومتطوعون وصحافيون أعطوا للحياة معنى تستحقه، ويستحقونه هم.
تليق بهم الحياة. يليق بهم النصر الذي صنعوه معاً.
هنا أرض تحفل بالحياة، وتحتفل بها.
حتى زمن قريب، لمن يريد أن يذكر، كانت نيران الإسرائيليين قادرة على إصابة المارين في كفر رمان.
حتى زمن قريب، كان يستحسن بقاصد قرى شمالي النهر، اختيار طرقات محددة دون أخرى تقع في مرمى صواريخهم، وأمزجتهم.
ما زالت بقايا دشمهم قائمة أصلاً، في النقاط الأعلى على الهضاب التي تطوق الجنوب كله.
حتى زمن قريب جداً، لمن يحب أن يتذكر، كان جنوبي النهر، بناسه وقراه، محظوراً علينا.
اليوم، تشرع قرى جنوبي النهر، ومعها سائر قرى البقاع والشمال، قلوبها قبل منازلها. متاحة هي لنا في كل وقت. فلمَ لا يقصدها أحد؟
عند المنعطف، في كفر تبنيت، ما زالت قائمة اللافتة التي تقول «أهلاً بكم في الوطن المحرر».
ها هو جسر الخردلي وقد استعاد نفسه. هل يمكن للمرء أن يفرح هكذا لدى رؤية مجرد جسر. ها هو، فوق الليطاني، سالك في الاتجاهين.. لمن يرغب.
عاد الصيف والأسر تفترش ضفتي النهر. تتصاعد أصوات الأطفال وصراخهم من بين شجرات الحور العملاقة، تنافس همس النسيم وحفيف الأشجار.
هذه أرض للحياة والفرح، على الرغم من الألغام والعنقودي.
عند مدخل كل قرية صور وأسماء «شهداء الوعد الصادق». وعلى امتداد طرقات القرى وزواريبها، ثبتت صور الشهداء، بالأصفر، بالأخضر، وبالأحمر.
هنا لكل منزل أكثر من رقم، ثبتها على ما تبقى من جدران، مندوبو مجلس الجنوب.
هنا، يشي الغسيل المنشور بحال الأهالي: ملونة ملابس الأطفال، وسوداء ملابس النساء. ملابس الرجال تغيب في أحيان كثيرة.
هنا، صور السيد حسن نصر الله ترتفع في الأمكنة كلها، ومعها أقواله. «رهن إشارتكم»، يقول السيد.
هنا تحمل المحلات أسماء من نوع آخر. «مكتبة الوعد الصادق»، «فرن الوعد الصادق»، «ميني ماركت الوعد الصادق» إلى جانب محلات أخرى ما زالت تحمل أسماء «مكتبة التحرير» و«فرن التحرير».
على هذه الأرض تنظم معارض للكتاب (في بنت جبيل)، ومهرجانات صيفية للشباب.
حتى الشوك أزهر هنا، أزهر بنفسجاً بلون الخزامى.
هنا أرض للحياة.
لماذا إذاً تخلو الطرقات إلا من مدرعات الطوارئ والجيش وبعض أبناء القرى ممن أصبحوا «بيارتة»؟
في ساحة الخيام، ثبتت أسماء دفعة جديدة من مستحقي التعويضات، تجمع حولها بعض الناس.
في مثل هذا الوقت قبل عام، بعيد انتهاء الحرب، كانت الساحة تعج بالناس: هرج ومرج، عائدون لتفقد الأضرار، عمال مياومون، زوار، مندوبو منظمات أهلية وعمال إغاثة: غابت الحركة عن الساحة سريعاً.
هنا، على بعد أمتار من الشريط الحدودي، وجد من شيد قصوراً ومنازل. كيف يجرؤون؟ بل كيف يجرؤ الآخرون على بناء منازلهم في الجهة المقابلة؟
عند تخوم العديسة، في مواجهة سهل الحولة الفلسطيني، في مواجهة الجليل، ثبتت ناصية ترفع ثلاثة أعلام: لبنان وفلسطين وحزب الله. ثبتت هناك، نصب أعينهم، نصب كل وسائل المراقبة التابعة لهم.
هنا أرض للحياة.
هنا، ما زالت مجالس العزاء تقام دورياً في القرى. ما زالت النساء يرتدين الأسود. لكن عاد بعض فرح تشي به الوجوه المتعبة. فرح؟ ألا يحق لمن عاش ذلك الصيف المريع أن يفرح ويفخر، ولو قليلاً؟
«نحن بخير، طمئنونا عن أحوالكم في بيروت». يقولون هنا.
هم اعتادوا حياتهم ـ لم تكن يوماً أفضل بكثير: لم يجدوا يوماً من يهتم بهم، قبل الاحتلال وبعده. قبل التحرير وبعده.
«الله بيعين»، يردد الأهالي جنوبي النهر.
ومثلهم يردد أهالي عكار والبقاع، شركاؤهم في المصاب دوماً: في الإهمال والتجاهل والغبن والعزة والنصر...
اليوم، يستحق لبنان سماع قصصهم، والافتخار بها، وحفظها في القلب والعقل، حيث تستحق.
النصر المخضب بعد عام: تعود «السفير» إلى الناس تنقل قصصهم وتخبر عنهم... تحكي عن التعويضات وعن إعادة الإعمار، وعن المعارك، وعن الألغام والقنابل العنقودية، عن الأضرار التي لحقت بالزراعة والصناعة والسياحة والتجارة في الجنوب والبقاع والشمال، عن عام مضى على غياب الأحبة، عن عام مضى على القرى المنكوبة.
تستعيد احتضان اللبنانيين للبنانيين قبل عام، وتسأل عن العلاقات بين الجيش وبين الأهالي في الجنوب، وتستقصي عن العلاقات مع قوات الطوارئ. تحكي عن خطط النهوض بالضاحية من جديد.
تبحث في تأثير الحرب البيئي والنفسي، وتسأل مجدداً عن نوع الأسلحة التي استخدمت فيها.
تحكي، في ملف ينشر على أجزاء، يومياً بين 12 تموز و14 آب، كيف انتصرنا على الموت والغبن والخراب.
أطفال يلهون في الليطاني عند جسر الخردلي
حبال الغسيل سوداء
تعليقات: