«المطبوعات» مختصة بالجنح.. و«العقوبات» تطبّق على الجنايات..
هل يعتبر الموقع الإلكتروني صحيفة يعود لمحكمة المطبوعات ملاحقة الجرائم المرتكبة فيها، أم أنّ الأمر يحتاج إلى سنّ تشريعات، ووضع تعديلات جديدة تضاف إلى قانون المطبوعات الرقم 104/1977، أو وضع قانون جديد يتعلّق بملاحقة المواقع الإلكترونية في هذه المخالفات؟ وكيف يمكن ضبط المخالفات على هذه المواقع، خصوصاً أنّ مسألة إزالتها سهلة في ظلّ التطوّر التقني؟
لقد باتت هذه الأسئلة الثلاثة، الشغل الشاغل لكلّ العاملين في الحقلين الإعلامي والقانوني، بعد تكاثر الأفعال الجرمية الناشئة عن كتابات، أو رسومات، أو صور، أو فيديو، على مواقع إلكترونية مختلفة التوجّهات والسياسيات والآراء، وذلك لمعرفة الجهة المخوّلة قانونياً بإجراء المحاكمة، والسند القانوني الذي ترتكز عليه لبناء الادعاء، ومن ثمّ الحكم، في ظلّ عدم وجود تشريع خاص يمكن الاحتكام إليه لضبط المخالفات والحدّ منها قضائياً.
ومما لا شكّ فيه أنّ المواقع الإلكترونية تدخل ضمن نطاق وسائل النشر التي اختصرها قانون العقوبات اللبناني في المادة 209 وإن لم تكن موجودة ومنتشرة عند وضع هذا القانون، فهي اعتبرت وسائل نشر، الأعمال والحركات إذا حصلت في محلّ عام، أو مكان مباح للجمهور، أو معرّض للأنظار، أو شاهدها بسبب خطأ الفاعل، من لا دخل له بالفعل، بالإضافة إلى الكلام أو الصراخ سواء جهر بهما، أو نقلا بالوسائل الآلية، بحيث يسمعهما في كلتا الحالتين، من لا دخل له بالفعل، والكتابة، والرسوم، والصور اليدوية والشمسية، والأفلام، والشارات، والتصاوير على اختلافها.
ومن الطبيعي أنّه لا يمكن ترك الجرائم المرتكبة إلكترونياً، من دون أيّة عقوبة، خصوصاً بعد انتشار الشبكات العنكبوتية والويب، ووسائط الاتصال والانترنت انتشارا كثيفا ومغريا، وازدياد عدد روّادها اليوميين، إلى درجة التفوّق على قرّاء وسائل الإعلام المكتوبة، وإنْ كانت للأخيرة ميزة مميّزة لا يضاهيها أحد، وتتمثّل في احتوائها على عطر خاص يجذب المرء منها إلى حدّ السحر.
وهذا التوسّع والازدهار للمواقع الإلكترونية يجعل من حمولتها الكلامية والصورية أكثر إيقاعاً للضرر بالمرء في حال ارتكاب جرم بحقّه مثل الجرائم المذكورة سابقاً، لأنّها، بكلّ بساطة، أكثر انتشاراً من الصحف والمطبوعات الورقية، وأسرع في التداول وتحقيق الغاية منها، وتتجاوز حدود الحيّ والشارع والمنطقة والبلد، إلى آفاق وأرجاء أكبر، حتّى استحالت الكرة الأرضية قرية صغيرة، والشعوب جيراناً.
ومثل دول كثيرة، لم تتلقّف اجتياح المواقع الإلكترونية لمنازلها ومدارسها وشركاتها ومؤسّساتها وناسها برضاهم، «لم يأت أيّ تشريع في لبنان على تحديد طبيعة المواقع الإلكترونية، وماهية الجرائم المرتكبة بواسطة هذه المواقع، ولأيّ قضاء تعود صلاحية النظر بالقضايا الناشئة عنها، لكنّ العرف جرى بتحويل بعض الجرائم المتعلّقة بالمواقع الإلكترونية إلى محكمة المطبوعات» على حدّ تأكيد الدكتور في القانون المحامي رئيف خوري في حديث مع «السفير».
والعرف لا يلغي القانون عند الشروع بتطبيقه، بل العكس، يتخذّ القانون مكانه الطبيعي في تحديد مسار كلّ ملفّ محال على القضاء.
ودرجت محكمة المطبوعات على النظر في جرائم القدح والذمّ والتشهير والتحقير، ونشر الأخبار الخاطئة والكاذبة، و«الشانتاج» والتهويل، والابتزاز، والتحريض على إثارة النعرات الطائفية والمذهبية، وتعريض السلامة العامة للخطر بحسب ما جاء في متن كلّ من الفصل الرابع، والخامس، والسادس، والسابع، من المرسوم الاشتراعي الرقم 104 الصادر في 30 حزيران من العام 1977 والمعدّل بمقتضى القانون الرقم 89/1991، والقانون الرقم 330 الصادر في 26 أيّار من العام 1994، وهو القانون الذي ينظّم العمل الإعلامي المكتوب والورقي من جرائد وصحف ومجلاّت ونشرات ووكالات وملاحق، ويحدّد المسؤوليات القانونية المترتّبة عليها تجاه المجتمع وأهله، والوطن وشعبه.
ويشترك قانون العقوبات اللبناني مع قانون المطبوعات في تحديد العقوبات المطلوبة لكلّ حالة من الجرائم المذكورة، وهي جنح تتفاوت عقوباتها، وإجمالاً، لا تتعدّى العقوبة فيها السجن سنة ونصف السنة، مع غرامات مالية متنوّعة وتخضع في نهاية المطاف، لاستنسابية هيئة المحكمة في إقرارها وتحديدها.
على أنّ هناك جرائم ترتكب بواسطة المواقع الإلكترونية، تخضع لقانون العقوبات فقط، مثل التزوير، والقتل أو محاولة القتل، والاحتيال، والسرقة، وهتك السرّية المصرفية، «وتبقى من صلاحية القضاء الجزائي، مع الإشارة إلى أنّ هذه الجرائم الأخيرة، وإنْ لم يصدر قانون خاص، يتعلّق بالمواقع الإلكترونية، يحدّدها بنصّ قانوني ويضفي على عقوبتها الشرعية، فإنّها تبقى خاضعة لقانون العقوبات الذي يحكمها كونه قانوناً عاماً»، بحسب خوري الذي يفرّق بين حالتين هما: «اعتبار المواقع الإلكترونية وسيلة نشر وتحويل جرائمها المشابهة لجرائم المطبوعات إلى محكمة المطبوعات، وتحويل ما عداه من جرائم إلى المحاكم الجزائية المختصة كونها مشمولة بأحكام قانون العقوبات العام».
ويشيد الدكتور خوري بعمل محكمة المطبوعات لجهة «حفظها اختصاصها بالنظر في بعض جرائم المواقع الإلكترونية المشابهة لتلك المرتكبة بواسطة المطبوعات في ظلّ النقص الحاصل في التشريع وعدم مواكبة التشريع لمتطلّبات العصر، وذلك استناداً للمادة الثالثة من قانون المطبوعات التي نصّت على أنّه يعنى بالمطبوعة وسيلة النشر المرتكزة على تدوين الكلمات والأشكال بالحروف والصور والرسوم».
ويرى خوري أنّ «محكمة المطبوعات تطبّق الأصول الجزائية وتعود في كلّ ما لا يتعارض مع القانون الخاص، الذي هو هنا قانون المطبوعات، إلى القانون العام، أيّ قانون العقوبات، لذا، يمكنها في التبعة الجرمية، إدانة المشترك والمحرّض، إضافة إلى الفاعل».
وبات وضع قانون ينظّم حركة المواقع الإلكترونية إنشاء وعملاً، مطلباً ملحاً أكثر من أيّ وقت مضى، لأنّه يكون خاصاً بها ويتتبع خطواتها منذ مرحلة التأسيس إلى مرحلة العمل والتنفيذ والانتشار، وعدم الاكتفاء بما يفرضه قانونا المطبوعات والعقوبات اللذان يسهّلان الإجراءات القانونية مؤّقتاً، خصوصاً أنّهما بدورهما يحتاجان دائما إلى تحديث وتطوير وتنقيح لمواكبة العصر.
ويطالب خوري وبفعل خبرته الناجمة عن انكبابه على غير ملفّ نظرت فيه محكمة المطبوعات، بأن يتشدّد «أيّ قانون يتعلّق بالمواقع الإلكترونية، في عقوباته على المرتكبين، لأنّ وطأة الجرائم المرتكبة بواسطتها أشدّ وأعمّ وأوسع، بالإضافة إلى الحدّ من الحصانات الممنوحة في قانون المطبوعات، لا سيّما تجاه الذين لا صفة صحافية لهم، مع التفريق في ما بين الصحافي ومن يدّعي أنّه إعلامي والتشدّد تجاه الأخير».
ويرفع خوري من سقف مطالبه بالدعوة إلى إعادة إحياء «صلاحية التوقيف الاحتياطي على من يرتكب جرم القدح والذمّ الموصوف وفقاً للمادة 583 من قانون العقوبات التي تنصّ على أنّه لا يسمح لمرتكب الذمّ تبريراً لنفسه بإثبات حقيقة الفعل موضوع الذم أو إثبات اشتهاره، لأنّه جرى أن تجاوز بعض الإعلاميين جميع الخطوط متحصّنين خلف النصّ المانع لتوقيف الصحافي احتياطياً».
وبشأن التدخّل لمحو آثار المخالفات المرتكبة بواسطة المواقع الإلكترونية، ورفع معالمها نهائيا، يعتبر خوري أنّ الأمر منوط بالقضاء في ظلّ دولة القانون والمؤسّسات، «ولا يمكن إزالة المخالفات الإلكترونية بطرق تقنية، لأنّنا، بذلك، نبرّر القرصنة، أو الوسائل غير المشروعة، ولا يمكن إزالتها بالوسائل البوليسية، بحيث يبقى القانون هو الحلّ والقضاء هو المرجع».
فهل تعكف الدولة بهيئاتها المعنية، على إعداد قانون خاص بالمواقع الإلكترونية، أم تتقاعس عن أداء دورها، فتجود بالموجود ولو لم يؤدّ الدور المطلوب؟.
تعليقات: