لا أدري من خسر أكثر (من انقسام مجلس النواب اللبناني حول ملف حقوق اللاجئين الفلسطينيين) اللبنانيون أم الفلسطينيون؟ واقع الكيان اللبناني أم شكل الوجود الفلسطيني؟ المواطنة اللبنانية أم حقوق الفلسطينيين المدنية؟
في الحقيقة ليس ثمة رابحون وخاسرون في هذه المسألة المؤلمة، فالكل خاسرون، لا سيما اللبنانيون بمختلف تياراتهم وانتماءاتهم. فقد بيّن هذا الانقسام هشاشة الديموقراطية اللبنانية، وكشف طابعها كديموقراطية طوائفية ومذهبية، وأثبت أن الطائفية السياسية تنتج أيضاً مجمعات مغلقة، وعصبيات عنصرية، وهي كلها بمثابة وصفة للتصدع المجتمعي والسياسي، التي لا تخدم مستقبل العيش المشترك للبنانيين أنفسهم.
ثمة فزاعة في لبنان تبدو وكأنها مصدر لهذا الانقسام الحاصل، يطلق عليها مراوغة اسم "التوطين"، ولأغراض التحريض والاستهلاك، لكن الاسم الحقيقي لها هو: الفلسطينيون. بمعنى أن ثمة فئات من اللبنانيين تتوجّس من مجرد وجود فلسطينيين في لبنان، ولو كانوا مجرد لاجئين، وأرقام في إحصاءات التعداد السكاني، بدعوى الحرص على هوية البلد وعدم الإخلال بتركيبته السكانية الطائفية والمذهبية. دليل ذلك أن تاريخ التمييز ضد اللاجئين الفلسطينيين أسبق بكثير من تاريخ تدخّلهم (الخاطئ) في الصراعات الداخلية اللبنانية (في عقد السبعينات). فمنذ البداية (أي منذ عام النكبة 1948) وبدلاً من أن يسهم لبنان بالتخفيف من معاناة الفلسطينيين، الذين لجأوا إليه مضطرين، إذا به ينكّل بهم ويعاقبهم، بالتمييز ضدهم، في المسكن والعمل وبحرمانهم من الحقوق المدنية. وشاهدنا على ذلك، أيضاً، استمرار الواقع المزري للفلسطينيين اللاجئين في لبنان، وأحوال مخيماتهم البائسة (حتى بعد ستين عاماً)؛ ما يفيد بأن هذا الوضع بالذات هو من بين أهم العوامل التي حرّضتهم على الانخراط في الصراعات الداخلية اللبنانية (ما أضر بهم وبقضيتهم وبحركتهم الوطنية).
طبعاً لا نقصد من هذا الكلام التقليل من المسؤولية التي تقع على عاتق الفلسطينيين، بالنسبة لصورتهم في لبنان، وإنما القصد وضع هذه المسؤولية في حجمها الصحيح، من دون مبالغات. كما نقصد بذلك تفنيد ذريعة التمييز ضد الفلسطينيين، أو رفض منحهم الحقوق المدنية، بدعوى تدخلهم في الشأن اللبناني، لأن التمييز كان أسبق من ذلك، ما يؤكد بأن رفع هذا التمييز يمكن أن يسهم بإرساء علاقة سليمة بينهم وبين مختلف مكونات الكيان اللبناني.
معلوم أن الفترة التي لعب فيها الفلسطينيون دوراً في التصدعات الداخلية اللبنانية، لا تزيد عن عقد من الزمان (1972ـ1982)، أما فيما بعد فقد كفّ العامل الفلسطيني عن لعب دور مقرر في تاريخ لبنان، أو في تاريخ التصدعات الأهلية فيه. زد على ذلك أن الفلسطينيين (منذ ما بعد عام 1982) باتوا عاملاً مهمشاً في المعادلة الداخلية اللبنانية، فهم ليس فقط حرموا من حقوقهم المدنية، وإنما باتوا أيضاً بيدقاً (أو بالأصح ضحية) في التجاذبات الداخلية والتوظيفات الإقليمية.
الطريف (والمرير أيضاً) في هذا الأمر أن ثمة في لبنان من يدعي بأن حرمان الفلسطينيين اللاجئين من حقوقهم إنما هو لغايات "وطنية"، أي لمنع تمرير مخطط "التوطين"! وهذا مجرد ادعاء ساذج، ومبتذل، لأن هذه الادعاءات "الوطنية" تتأسس على الحط من كرامة الفلسطينيين، ومفاقمة معاناتهم، وحرمانهم من أبسط حقوقهم كبشر. وقد بينت التجربة بأن ادعاءات رفض "التوطين"، لا تخدم أبداً في تنمية إحساس الفلسطيني بهويته الوطنية، وبوجوده كشعب، وبانتمائه لقضيته، ولأمته العربية، بقدر ما تخدم التوظيفات والعصبيات السياسية الضيقة، وهي ادعاءات تسهم بزيادة غربة الفلسطينيين عن أمتهم، وتنمية إحساسهم بعدم الاستقرار، ما يدفع بهم إلى الهجرة في منافي الأرض، وتذويبهم في المجتمعات الأخرى، وتنمية روح الإحباط والضياع عندهم.
ما يؤسف له أن دعاة رفض ما يسمى التوطين يعلمون علم اليقين بأن الفلسطينيين، كجماعات سياسية وكأفراد، أعلنوا مراراً وتكراراً، واقسموا الإيمان، بأنهم يرفضون التوطين في لبنان رغم عشقهم له (كما في غير لبنان)، وأنهم لا يرضون بغير فلسطين وطناً لهم، بدليل إصرارهم على تثبيت حقهم في العودة إلى أرضهم. وفي هذا الإطار فإن الفلسطينيين، بمختلف مشاربهم ربما، يتمنون على اللبنانيين المناهضين للتوطين الكف عن هذه المعزوفة، أو على الأقل إشهار الدفاع عن حق الفلسطينيين بالعودة إلى وطنهم، بدلاً عنها.
أما بالنسبة للبنانيين فقد بيّن تاريخهم المعاصر بأنهم منقسمون على ذاتهم ليس بسبب الفلسطينيين، ولا بسبب التوطين، ولا بسبب سلاح المخيمات، وإنما لأسبابهم الخاصة، أي بسبب طبيعة النظام السياسي الطوائفي، وغياب مفهوم المواطنة، وضعف الإجماعات الداخلية بشأن هوية لبنان، وبسبب كونهم ضحية للصراعات والسياسات الإقليمية، أيضاً (شأنهم شأن الفلسطينيين في ذلك).
ويستنتج من ذلك أن معاداة الفلسطينيين، أو التمييز ضدهم، لا يفيد في بناء الكيان اللبناني، ولا يعزز الوحدة بين اللبنانيين، ولا ينمي الاندماج الاجتماعي بينهم، فهذه المسائل لها علاقة بتجاوز اللبنانيين للنظام التمثيلي: الطوائفي والمذهبي، والانفتاح على نظام الديموقراطية الليبرالية، وبناء دولة المؤسسات والقانون والمواطنين، وإرساء نظام تمثيلي تعددي، على المستوى الوطني.
أخيراً، لا يليق بلبنان، الذي دفع كثيراً من اجل قضية فلسطين، أن يتعامل مع الفلسطينيين بطريقة دونية وتمييزية، فعدا عن مسألة الانتماءات والروابط العروبية والدينية، وعلاقات الجوار، والتاريخ المشترك، فثمة معايير دولية وإنسانية تُمنح للاجئين للتخفيف من معاناتهم.
المفارقة أن لبنان ارتكب هذه الهفوة في مرحلة بلغ بها التعاطف العالمي مع حقوق الفلسطينيين درجة غير مسبوقة، وفي مرحلة يحاول فيها بعض اللبنانيين تنظيم رحلات تضامن لرفع الحصار عن الفلسطينيين في قطاع غزة. بذا يجوز القول إن فلسطينيي لبنان ربما هم أحوج لهؤلاء اللبنانيين من أجل تركيز جهودهم لرفع الحيف المفروض عليهم في لبنان، ومنذ ستة عقود من الزمان.
تعليقات: