لا عجب أن تجد مظلوماً، أو تسمع بهدر دماء أو ضياع حقوق، وربما أكثر من ذلك بشاعة ومنكراً حينما يحتكم مجتمع ما إلى شريعة الإستقواء والإستضعاف، ويفتقر إلى القانون الرادع والعدالة التي تعطي لكل ذي حقٍّ حقه، وترسّم الحدود بين الإنسان والآخرعلى قاعدة الإنصاف والإحترام والرعاية، وليس غريباً أن تعاين ضعفاً وقصوراً في بنية التشريعات القانونية الوضعية، وانحيازاً وعنصرية في كثير من الأحيان، ومردّ ذلك إلى المشرِّع الإنسان العاجزعن التخلّص من ميوله ومصالحه المتسرّبة ولو خفية إلى مواد تشريعه ونصوصها ـ هذا من جهة ـ ومن جهة أخرى فالسبب يعود إلى طبيعة التشريع الوضعي الذي مهما اتسعت دائرته فلا يمكن أن يحيط إحاطة كاملة بطبيعة الإنسان وحاجاته.
من هنا ندرك أنّ التشريع السماوي هو الأجدر على تحقيق العدالة والإنصاف وذلك لغنى المشرِّع وتنزّهه عن أي مصلحة يمكن لحاظها في تشريعه، وللإحاطة الكاملة والمعرفة الوثيقة من المشرِّع الخالق بطبيعة المشَرَّع له وخصوصياته.
إلا أنَّ اتهاماً قد يصدر بحق القانون القضائي الإسلامي وتطبيقاته بإعتباره تشريعاً سماوياً، وربما يصوّب البعض سهامه اتجاه الأحكام القضائية الإسلامية واصفاً إياها بالظلم والإنحياز، ومردّ هذا الإفتراء إلى قصور النظر والفهم المغلوط بحقيقة هذه الأحكام ومنطلقاتها والمعرفة الوثيقة بمشرِّعها، وهنا لا نجد محملاً حسناً لمطلقي هذه التهم والتقوّلات. وربما يكون قصور القضاة وعدم أهليتهم محفزاً لأبواق الإنتقاص و مبرّراً لحملات الذمّ والتشكيك، وهذا ما يدعونا لتسليط الضوء على نقاط ضعف المؤسسات القضائية الإسلامية بغية الإصلاح والتقويم وتحقيقاً للانصاف كغاية ملحّة.
إنّ ما نعاينه اليوم من إهمال وتلكؤ في بتِّ الدعاوى العالقة في أدراج المحاكم الشرعية الإسلامية وما ينتج عنه من تضييع الحقوق، يجعل هذه المحاكم في دائرة المساءلة والإتهام، فعلى سبيل المثال لا الحصر نجد أنَّ بعض قضايا الأحوال الشخصية تطول إقامتها في المحاكم، فقضية نفقة أو طلاق أو حضانة تنتظر الحكم لسنوات عدة، مع ما يرافق الإنتظار من تعب ومعاناة وصبر من جانب أصحابها، ونسأل هنا عن مبرر هذا التسويف؟
هل هو الإفتقار إلى النص؟
أو الحاجة الى جهاز قضائي متكامل يتابع ويتحرّى التفاصيل المحيطة سعياً وراء الحجّة والدليل على الحكم؟
أم هو الإحتياط المبالغ فيه والذي يعتمده القاضي منهجاً لبراءة الذمة ومنقذاً من الضلالة والإشتباه؟!.
وفي كلِّ الأحوال لا يجوز تخطّي النتائج المترتّبة على الواقع المتحصّل جرّاء الإفتقار أو الإحتياط، فالإفتقار يستدعي سدَّ الإحتياج والتخطيط لتشكيل هيئة قضائية متكاملة، والإحتياط الذي تكون آثاره سلبية على أحد طرفي النزاع يستوجب الجرأة في إصدار الحكم المدعوم بالأدلة والبراهين المتحصّلة.
على سبيل المثال لا الحصر واحدة من القضايا العالقة في أدراج المحاكم الإسلامية حريّة أن تثير تساؤلاً لدى الرأي العام وتدفع لتوجيه أصابع الإتهام بالإنحياز أو التواطؤ، ملخص هذه القضية دعوى طلاق تقدّمت بها إمرأة نتيجة سوء المعاشرة والعنف الزوجي الذي تحوّل إلى سلوك مستمر من قبل الزوج، وقد أرفقت المدعية دعواها بشهادات وتقارير تثبت إدعاءها وتؤكّد أنَّ استمرار العلقة الزوجية يتهدّد حياتها سيما أنَّ زوجها يعاني من أمراض نفسية وعصبية تدفع به إلى ارتكاب القتل في بعض الحالات؟ ولها أن تسأل ونسأل معها ما الذي يعيق صدور الحكم مع توافر الأدلة وتوفّر الصلاحية التي تمكّن القاضي من إصدار حكمه نيابة عن الزوج القاصر أو الممتنع؟
إنَّ العدل أساس الحكم وغايته، ولزاماً على من يجلس في دكة القضاء أن يمتلك زمام المبادرة ويبذل جهده لتمكين الناس من الحصول على حقوقهم المسلوبة، وهو بذلك يعكس صورة الإسلام المتبنّي بالكامل لقضايا الإنسان والحامي لحقوقه والمؤتمن عليها، سواء أكانت حقوقاً ماديةً او معنويةً وسواء أكان الظلم الواقع به ظلماً عينياً أو نفسياً؟!
إنَّ تعزيز الثقة بالإسلام وتوثيق عرى الإنتماء إليه يتوقف على الجانب الإجرائي التطبيقي، لأنّ الإنسان المسلم عندما يرى القضاء الإسلامي نصيراً له ومدافعاً عن حقوقه يشتد إيمانه ويزداد إقتناعه وتسليمه، وبنفس الوقت فإنَّ عدالة التشريع تجنّب صاحب الحق الوقوع في الخطأ والمحذور عند شعوره باليأس وفقدان الأمل بتحقيق المرتجى والمأمول.
الشيخ محمد قانصو
كاتب وباحث لبناني
تعليقات: